الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معركة أوكرانيا بين الدولة الحديثة وحروب القياصرة وأمجاد الكنيسة

عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)

2022 / 3 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


إستولت معركة أوكرانيا على إهتمام العالم ، فجأة وجدنا أنفسنا فى خضم حرب تشبه الحروب العالمية ، سمعنا فيها ولأول مرة كلمة الأسلحة النووية ، ورأينا فيها المدرعات الروسية تبتلع المدن الآمنة ، والصواريخ تدمر المبانى الجميلة بلا رحمة ، وأفواج اللاجئين المذعورة تتدفق فى كل إتجاه ، ورغم المأساة وإستنكار العالم ، تحكمت الأيدولوجيا كالعادة ، ولم نستطع الإجابة القاطعة عن السؤال ، حقاً من هو المسؤول عن تلك الجريمة البشعة ، من الذى بدأ ، ومن الذى أخطا؟
بعد إنهيار الإتحاد السوفيتى تم حل حلف وارسو سنة 1991م وأسس حينها الرئيس الأمريكى بيل كلينتون مفهوم الشراكة من أجل السلام مع روسيا سنة 1994 ، دون تحديد إذا ماكانت هذه الشراكة تعنى الإنضمام إلى الناتو أو تمهيد الطريق لذلك ، لكنه كان تعبيرا على أى حال عن النوايا الحسنة التى سادت آنذاك ، وفى عام 1997م وقع الناتو وروسيا وثيقة التعاون والأمن المشترك وفى سنة 2002 وبموجب هذه الوثيقة حصلت روسيا على حق الدخول والوجود الدائم فى مقر الناتو ببروكسل ، ولم يتغير هذا الموقف حتى بعد هجوم روسيا على جورجيا سنة 2008 ، إذا أكد مجلس الناتو سنة 2010 على أن الناتو لايشكل تهديداً لروسيا ، ولكن الأمر تغير بعد الهجوم على أوكرانيا وضم القرم سنة 2014 ، إذا أصبحت كل إتفاقات السلام السابقة لاغية بحكم الأمر الواقع.
إستندت روسيا فى موقفها العدائى الجديد على حجج منطقية تتلخص فى عدم وفاء الدول الغربية بالتعهدات الشفوية التى قطعتها فى التسعينات بعدم التوسع شرقاً ، وخاصة فيما يتعلق بدول البلطيق الثلاث ، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، والتى كانت عضوا فى الإتحاد السوفيتى السابق وكذلك فى الإمبراطورية الروسية قبله ، وشكلت عبر التاريخ منفذ روسيا الأساسى على أوربا والبحار الدولية ، والتى إنضمت إلى الإتحاد الأوربى والناتو سنة 2004 وتبعتها دول شرق أوربا التى كانت عضواً فى حلف وارسو ، مما جعل الرئيس الروسى يصرح فى مؤتمر الأمن بميونخ سنة 2007 أن الناتو يهدد أمن روسيا، ليقدم بعد ذلك مباشرة على التدخل العسكرى فى جورجيا سنة 2008 وضم إقليمى أبخازيا وأوستيا الجنوبية الإنفصاليين رداً على رغبة جورجيا فى الإنضمام الى الإتحاد الأوربى ، وعدم الممانعة المبدأية التى أبداها الإتحاد الأوربى تجاه ذلك ، ثم تكرار نفس السيناريو فى حالة أوكرانيا بضم شبه جزيرة القرم سنة 2014 ، والإعتراف أخيراً بإستقلال جمهوريات إقليم الدنباس الإنفصالى خلال عملية الغزو الشامل لأوكرانيا التى تجرى اليوم وسط إمتعاض العالم .
ولكن وفى ثنايا هذه الحجج المنطقية تكمن الحجة الحقيقية ، وهى شخصية بوتين نفسه ، الديكتاتورية القاسية التى تمكنت من السيطرة على الحكم فى روسيا ، وأخذت تتطلع للإنتقام من سقوط الإتحاد السوفيتى سنة 1990 والإنتقام من قصف الحليف الصربى سنة 1999 ، بل إلى إعادة الإمبراطورية القيصرية الروسية التى إمتدت يوما من حدود أوربا حتى حدود الاسكا ، وذلك بإحياء سلطة الكنيسة الأرثوذكسية وقيمها المحافظة وجعلها أحد أركان الدولة ، ووصف حضارة الغرب بالحضارة المنحلة ، والتطلع إلى فرص المعارك معها ، المعارك التى يتطلع إليها الطاغية فى كل عصر لفرض سطوته على شعبه وتثبيت أركان حكمه ، وهى الفرص التى قدمها له الغرب على طبق من فضة بالإستمرار فى سياسات توسيع الإتحاد الأوربى والناتو شرقاً؟
هذه هى الخطوط العامة التى حكمت العلاقة الروسية الغربية من زمن الشراكة فى عهد يلتسين بعد سقوط الإتحاد السوفيتى إلى زمن المواجهة فى عهد بوتين الذى أعلن عنه رسميا سنة 2007 ووضعه موضع التنفيد فى الرد العنيف على جورجيا سنة 2008 م ، وأوكرانيا بعد ذلك ، والتى مازلت تحتاج الى مزيد من القراءة المتأنية والكشف عما ورائها من خطوط وتفاصيل لاتبدو واضحة تماماً.
لقد إنتهت أمريكا العدوانية عملياً مع حكم جورج بوش الإبن ومجىء أوباما للحكم سنة 2009 حتى سنة 2017 ، لقد كان أوباما هو الذى طلب من بوتين إشعار حليفه بشار السورى بإبعاد الأسلحة الكيمائية حتى لايضطر لضربها ، ولقد كان هو فعلاً من ألغى قرار ضرب سوريا بسسب إستخدام الأسلحة الكيمائية بعد أن وقع على القرار فى أغسطس 2013 ، وهو الذى إستن بعد ذلك ماعرف بعقيدة أوباما وهى الإنسحاب من مناطق الصراع فى العالم والتركيز بإتجاه الخطر الصينى ، لقد كان أوباما هو الذى سلم سوريا لبوتين وليس ترامب فى الواقع ، والذى جاء بعد ذلك ليؤكد حتى إنحيازه لصديقه الروسى بوتين على حساب حليفه الأوربى التقليدى ، ثم بايدن الذى أسرع بالإنسحاب الفوضوى من أفغانستان على خطىى أستاذه أوباما ، إن هذا الغرب الأمريكى المنسحب أمام روسيا فى الشرق الأوسط وحتى فى أوربا ذاتها لايمكن أن يخطط لحربها فى آسيا ، حتى لو إستمر توسع حلف الناتو شرقاً ، أما الغرب الأوربى الذى جعل من روسيا الشريك التجارى الأول فى العالم وربط بحر البلطيق بينهما بنوردستريم 1 سنة 2011 وبنورد ستريم 2 بعد ذلك ، ليجعل منها المزود لنحو نصف إستهلاكه من الطاقة، لايمكن أن يخطط لحربها بعد ذلك حتى لو إستمر توسع الناتو شرقاً ، والأهم من كل ذلك فإن طلب أوكراينا مفجر النزاع وبعكس طلب جورجيا، قد قوبل بالرفض من قبل الإتحاد الأوربى سنة 2012 ، وعرض بدلا منه معاهدة تعاون كحل وسط ، لكن بوتين رفضها وأجبر الرئيس الموالى له فيكتور ينكوفيتش على إلغائها سنة 2013 ، مما أشعل ثورة الشعب الأوكرانى سنة 2014 ، وإضطر ينكوفيتش إلى الهرب إلى روسيا ، وهو تطور الأحداث الذى رد عليه بوتين بضم القرم ، والإعتراف بإنفصال منطقة دنباس أخيراً.
إنه من المؤكد أن بوتين كان يعرف ويفهم كل ذلك ، ويعرف أن هذا الغرب المنسحب أمامه لايمكن أن يخطط بالهجوم عليه فى نفس الوقت ، لكنه أراد الأخذ بالجانب السىئ من القصة حتى يكون لديه المبرر الإنتقامى الذى يبحث عنه فى مواجهة الخصم الغربى ، لقد كان العكس هو الصحيح فى الواقع ، لقد كان بوتين هو الذى إنتهز فرصة تردد وإرتباك الغرب ليحتل سوريا ويشرد نصف شعبها ، ويعاود الكرة مع أوكرانيا اليوم بحجة مزاعم الأمن القومى المردود عليها؟
بوتين هو مفتاح اللغز وهو الإجابة ، كما هو الطاغية فى كل العصور ، فلابد من مشاكل كبرى يعيش عليها، يقتات عليها ويبنى أمجاده ، بوتين هو هتلر روسيا ، إيفان الرهيب الجديد ، المؤمن بمعجزات الكنيسة ، المانح لها ماشاءت من إمتيازات وقصور وكنائس فى كل مكان فى روسيا ، الذى يطلب البركة بالغطس فى ماء بارد على تراتيل القساوسة ، ويركب جياد القياصرة ، ويروض الأسود والفهود ، ويضع المعارضين فى السجون ويصادر وسائل الأعلام ، هو سبب ذلك الصراع الدامى الذى بدأ بالكاد ، حتى لوبدت حجج توسع الناتو شرقاً حججاً منطقية ، والمردود عليها بأن لكل مشكلة حلاً ، إذا توفر حسن النية ، الغير موجود بالطبع لدى بوتين .
إن التفكير التقليدى لم يعد ملائما فى عالم اليوم ، إن مايحدث فى أوكرانيا اليوم ليس فى الواقع سوى حالة مؤلمة من حالات تقرير المصير لتلك الدول التى تعيش فى مناطق التماس الحضارى ، عندما تختار هويتها فى النهاية ، إنه ليس مؤامرة من حلف الناتو، أنه رغبة تلك الدول فى الاتجاه غرباً أخيرا والتحرر من ماضيها الآسيوى نهائياً ، الإتحاد الأوربى إختيار وليس مؤامرة ، إختيار يموت من أجله الشعب الأوكرانى اليوم فى الشوارع ، إنه نفس الإختيار الذى يطالب به شعب جورجيا فى نفس اللحظة رغم رؤيته لما يحدث لجاره الأوكرانى، إنه نفس موقف دول البلطيق فى إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا التى تسخر كل إمكانياتها اليوم لإستقبال رفقاء مأساة الإختيار الحضارى ، إن الطاغية لايستطيع أن يدرك ذلك ، لايستطيع أن يدرك سوى عصور الإستعمار وحروب القياصرة وأمجاد الكنيسة ، إنه لايستطيع أن يدرك أن الإتحاد الأوربى بما يمثله من قيم ونظم هو إتجاه فى التاريخ وليس مؤامرة غربية ، إتجاه سوف تدافع عنه دويلات التماس الحضارى فى البلطيق والبحر الأسود حتى لو تركها الغرب وحيدة ، إتجاه قد تجد روسيا نفسها بعد بوتين مندفعة إليه هى أيضاً فى النهاية ؟
إن الواجب علينا نحن أهل الشرق الأوسط أن نختار الإختيار الصحيح فى تلك المعركة الكاشفة لضمير العصور الحديثة ، وأن لايدفعنا ماضينا الاستبدادى المشابه لماضى بوتين وحروب القياصرة وأمجاد الكنيسة أن نتعاطف مع المعتدى ونخطىء إتجاه التاريخ هذه المرة أيضاً ، إن تاريخنا يمتلىء بأمثال بوتن والذين هم سبب شقائنا فى الواقع ، لكنه لم يعرف بعد مدى تقدم القيم والنظم التى يمثلها الإتحاد الأوربى فى تاريخ العالم ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - وهم الشيوعيه
على سالم ( 2022 / 3 / 7 - 03:55 )
العالم يعيش الان على اعصابه واى خطأ فى الحسابات ستكون له عواقب قاتله ووخيمه على العالم اجمع , اتعجب الان من دوله روسيا الاستبداديه الفاسده المجرمه وكيف اصبح الوضع كارثى للشعب الروسى البائس التعيس , المجرم المخبول بوتين ومعه عصابه صغيره من الاوباش المستبدين الديكتاتورين الدمويين والقتله يتحكموا تماما فى شعب روسيا ويقمعوه بالحديد والنار ولامكان ابدا لااى روسى ان يعبر عن رأيه بحريه فى الحرب الاوكرانيه دون ان يتم القبض عليه ويتم اعتقاله ؟ كيف يعيش شعب روسيا تحت هذا الكابوس المفزع منذ عهد القياصره الاغبر والى الان , انها دائما معضله الديمقراطيه والحريه والحقوق الانسانيه لشعوب كثيره تأن تحت وطأه القتله المستبدين المجرمين الفجره , مصر ايضا من ضمن هذه الشعوب البائسه المنتهكه وحال الروس لايختلف كثيرا عن شعب مصر الذليل العبد , ربما العالم يتمنى معجزه لكى يتم تصحيح هذه الاوضاع المقلوبه


2 - مقالتك استاذ سيد محاضرة علميه مليئة حكما وخبرات
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2022 / 3 / 7 - 05:09 )
تستاهل الدراسه من قبل كل من يريد التزود بالمعرفة الحقيقيه عن العدوان الاجرامي لهتلر الصغير بوتين وعصاباته على الشعب والوطن والدولة الاوكرانية التي كل ذنبها توجهها للاندماج بالحضارة الاوربية التقدمية والانتهاء من ظلام القرون الوسطى وبقايا الاقطاع والعبودية والاستبداد الاخرق الذي تمثله روسيا الحالية و-فارسها-الاخرق الشرطي المخابراتي بوتين-تحياتي


3 - الرد على الأستاذ على سالم تعليق رقم 1
عبدالجواد سيد ( 2022 / 3 / 7 - 06:34 )
بالطبع أستاذ على حال المصريين لايختلف عن حال الروس بل أسوء والسوريين أسوء من الجميع وكل من يخضع للطواغيت مصيره الهلاك وهذا مانحذر منه شعوبنا فى الشرق الأوسط وشمال
إفريقيا بإستمرار ، وشكرا أستاذ على مروركم الكريم


4 - الرد على الدكتور صادق الكحلاوى تعليق رقم 2
عبدالجواد سيد ( 2022 / 3 / 7 - 06:40 )
كلنا نتألم دكتور صادق لمصير الشعب الأوكرانى الطيب الصديق المدافع بشرف وإستشهاد عن حقه فى تقرير المصير ونتألم أيضاً على مصير شعوبنا القابعة فى ظلام العصور الوسطى لم تثور بعد ومازال بعضها يتعاطف مع أمثال بوتين من القتلة عديمى الضمير ، كلنا فى أمل فى إنتصار الشعب الأوكرانى وسقوط الطاغية بوتين قريبا جدا وأشكركم جدا على ثنائكم على المقال أسعدنى مروركم كل السعادة دكتور


5 - المَجالُ الحَيَويُّ؛ تُركيا و إيران
ماچ ماچی-;- ( 2022 / 3 / 7 - 16:04 )
على أثر رمالٍ مُتحرّكّة- مُحرقة، غزوةُ خليج الخنازير- العربيّ نيسان 1961- نيسان 1991م Bay of Pigs Invasion & Arabic؛ وَصْلُ Rusland Rasputin & Putin -Oekraïne، بالمياه الدّافِئة. بُداةُ العرب- العَجَم أصْلُ مَجْد الحضارةِ العربيّة الإسلاميّة. يا نخلَةَ رُصافة شَـآمْ؛ أتنيْدةُ العربيّ الأخيرة بضَياعِ “الفِردَوْس المَفقود Andalusia Paradise Lost”. سائليني (يا شَـآمْ!)، حينَ عَطّرْتُ السَّلامْ * كيفَ غارَ الوردُ واعتلَّ الخُزامْ اُمَويُّونَ- عَلَويُّونَ، فإنْ ضِقْتِ بهم * ألحقوا الدُّنيا بِبُستانِ (هِشَـامْ بن عَبدالمَلِك بن مَروان). “أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ What! not in Arabic & an Arab” (سُورَةُ فُصِّلَتْ 44)، أحديْقةٌ خلفيّةٌ للبيْت الأبيضِ الأميركيِّ عام 1444هـ 2022م، لَوْ “كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا؟!”.


6 - الرد على الأستاذ / الأستاذة ماج ماجى تعليق رقم 5
عبدالجواد سيد ( 2022 / 3 / 7 - 16:21 )
نعتذر عن عدم الإدراك الكامل لمعنى تعليقكم الكريم لكنا ننتهز الفرصة لنؤكد على رؤيتنا لصراع أوركرانيا أنه صراع الحداثة ضد العصور الوسطى التى يمثلها نظام القياصرة وحكم الكنيسة الأرثوذكسية البوتينية ، بصرف النظر عن أى جزئيات أخرى هذه هى الصورة العامة ، وبالطبع سوف تنتصر الحداثة شكراً لمروركم الكريم

اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -