الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تباريح مياه متيبسة

فيحاء السامرائي

2022 / 3 / 7
الادب والفن


فراءة في رواية "مياه منصحرة"


تكاد تتبلور سمات جليّة في أدب ما بعد 2003 في العراق وخاصة لدى كتّاب الرواية، كتجسيد للقسوة وشخصنة للمآسي والرؤى العدمية والإسراف في كآبة وتفصيلات عنف، حتى أصبح تناول الكاتب لها لا يشكّل إحراجاً ولا عقبة إزاء نفسية القارئ، ويُعزى ذلك الى ما يكتنف الواقع من أحداث صادمة تفوق الخيال، ومن غير المستغرب أن نقرأ اليوم، سواء لأدباء "الداخل أو الخارج" إن تصحّ التسمية، ثيماً لروايات اختّطت واقعها مما هو موجود على أرض الواقع، تتشظى بين ثناياها أهوال فواجع ومواجع، ومفردات مثل موت، دماء، تفجير، أشلاء، جثث، مقابر، تكسو أغلفتها وعناوينها ويكتنز لحمها بمحتوياتها.

ما يعيشه العراقي اليوم هو الجنون بعينه، فلقد أضحى العنف في أذهان الناس وتقبله، أمراً عادياً، وغدت أيامه من فرط الفجيعة كأنها (ما قبل الموت وما بعد الحياة)، فرضت جبروتها على الكيان الأدبي الذي صار يستدعي حضوراً قوياً للعجز وغياب الأمل مما يقود بدوره، أما الى التهكم الممضّ من كل شيء حتى من الأمورالتي تتسم بالجد والعقلانية، أو الى تناول ما يجري أدبياً عبر مسارات سردية مستحدثة وغرائبية غير نمطية والى استيلاد آليات جديدة تلائم الأدب الديستوبي.. فكيف يمكن لكاتب أن يكتب عن وقت تشييعه وحمل جنازته وهو يتحدث الى المشيعيين، بينما تستأثر القطط خلسة بكميات من أوصال بشرية بلا هوية وجثث عائمة على المزابل، كما في رواية صلاح صلاح (بوهيميا الخراب)؟ أو يحكي المؤلف أثناء تشييعه عما يحدث من نزاعات بين أهل بيته حول دفنه، وعن تفاصيل وطن يغرز العنف فيه مخالبه ويحيله الى كينونة ممزقة، كما جاء في رواية (مياه متصحرة) لحازم كمال الدين؟

سبق وأنْ ذكر الروائي غالب هلسا بأن على بطل العمل الروائي أن يحمل اسم المؤلف، فبدون ذلك ذلك مجرد تحايل فني ونسب الأحداث الى مجهول، وقد أطلق اسمه على أبطالها في بعض رواياته.. وهكذا في رواية مياه متصحرة، يتردد صوت الروائي السارد، الذي هو البطل أيضاً، في أروقة الرواية صارخاً، أنا حازم كمال الدين، ولاستخدام اسمه في كل فصل ربما دلالة على أن ما يكتب على الورق هو واقع جارٍ وأنه شاهد عليه، وتكراره دليل على احتمال أن كل ما حدث يمكن أن ينسب اليه ولما حوله، فاختطّت الرواية ثيمتها القاتمة من رصد المآسي العراقية المرعبة الخاصة به.. أكاد أرى المؤلف المسرحي والروائي، واقفاً على "خشبة" الرواية قائلاً بنبرة باردة ووجه محايد، أنا حازم كمال الدين، بل أنا جثته، لم أعد انساناً من لحم ودم غير أني أعي ما يجري حولي وأنا في دهاليز الموت وأنفاقه المتداخلة، هل أرى "صحوة الموت أم غفوة الحياة"؟ يصرخ ولكن لا أحد يسمعه، في رحلة من الموت الى الموت ومن العدم الى العدم في لوحة إدهاش وتداخل سردي، وكأن ذلك يأتي كرد اعتبار لكل من ماتوا بطرق بشعة عن طريق الاغتيال والتفجير والتنكيل.. يستغور السارد المؤلف في الاستذكار والسرد بطرق متعددة، ويتواصل في الانزلاق بدهاليز وأنفاق وأشكال حلزونية لا توصل الى شيء، سوى الى الدوران الفوضوي في نفس دوامة العنف الدموي الأزلية بهستيريا وجنون، ليسترجع الرؤى بفصول ليست كالفصول، عناوينها متكررة كتكرار دورة العنف والقهر في تاريخ العراق، كما لو أنه فعْل إدانة لواقع راهن ولقيم جديدة لا انسانية خاوية اكتسبها الفرد العراقي جراء ما مرّ به من ظروف عنف وجور، ثم يتواصل في هلاوسه بتصوير بشاعة ما يحدث، حين يتداخل خيال مغرق بوهم غرائبي مع ما هو وثائقي وتسجيلي ومحكي ومسموع، باسلوب مسرحي يهدف الى الصدمة.

يمكن اختزال الرواية بأنها حكاية مواطن عراقي قتل بتفجير، وأثناء مراسيم تشييعه يتنازع أهله وأصدقائه على مكان وطريقة دفنه، وفي بين غيبوبة الموت الأولية والأبدية، يروي كل ما يجري من صراعات ويستحضر ذكريات أجداده وأسلافه لكونه شاهداً على ما يجري، ثم ينتهي به المطاف ليكون جثة أو جزء منها.. الّا أن فعل الكتابة الروائية ليس استنساخاً فوتوغرافياً في الشكل والتقديم للواقع كما هو معروف، فثمة تقنيات فنية ولغة متميزة وبناء سردي ومخيلة أدبية، يلجأ المؤلف اليها لتقديم أفكاره المتمثلة في جرعة تجريبية منفلتة عن تقليدية ونمطية وأطر مقوْلبة، وفي استحضار الفانتازيا والاساطير والميثولوجيا المستنبطة من تاريخ العراق في شخصية الأجداد، كالطاووس والثور المجنح والطنطل والسحر وبطولات أهل البيت، وتركيبها بكولاج معماري متميز وبفضاءات سردية متشابكة غير مترابطة وغير مكترثة لزمان أو مكان أو لتسلسل كرنولوجي أو حتى لوسائل تعبير تقليدية، مما يجعل من العمل الروائي كياناً خرافياً يحرّك بناء السرد كيفما يشاء، يتمرد على التصنيفات المعمارية المعتادة للكتابة الروائية ويغدو كرواية ممسرحة، في دلالة على تلاقح السردي مع السينرستي والمسرحي أو رواية اللارواية.

في واقع لا يمتلك صفة واحدة من صفات المنطق وفي بلد على سرير الموت وفي سيرته اليومية، لايصلح سوى عنصر العبث في عالم الديستوبيا القاتم والغور في سوداوية الحال.. لكن ما جدوى كل ذلك؟ ولماذا يسبب المؤلف القلق والتشويش للقارئ؟ لعله تقصّد هذا الشكل من الطرح بسبب ملائمته تماماً ليوميات البلاد وما يطفح فيها من قبح ووفرة خوف ولا استقرار ولا أمان، ولعله يبصم بروايته تلك شهادة إدانة لكل من تسبب في الخراب من متدينين متشددين وسياسيين فاسدين وناس تابعين.. انها مياه خير نشفت ومياه حضارة مدينية تصحرت، ومياه نهرين تضاءلت ووادٍ ضمر، في "أرض مجبولة على أن لا تزهر الّا إذا سمّدتها البلايا"، أرض أجدبت وطال الانتظار لرؤية موسم الإزهار الذي قد لا يحلّ فيها أبداً..أنها رواية من تحت أنقاض بلد الخيبات، لا تصلح لقارئ ينشد رفع المعنويات ويتأمل من الأدب أن يعطيه جرعة أمل جاعلاً حياته قابلة للعيش، رواية كُتبت عن كيان جغرافي، وشمتْ جسده ندب القهر وتحطمت عظامه بفعل الحروب والدمار وفساد النفوس.. ومثلما قال النوّاب في إحدى قصائده ( اغفروا لي حزني وخمري وغضبي، وكلماتي القاسية، سيقول البعض، بذيئاً، لا بأس، أروني موقفاً أكثر بذاءة مما نحن فيه).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟