الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جيجك وحرب روسيا-الناتو: الفيلسوف في ساعة حضيضه

هشام نفاع

2022 / 3 / 12
مواضيع وابحاث سياسية



كتب الفيلسوف والناقد الثقافي السلوفيني سلافوي جيجك، الذي أحترمه عمومًا، مقالًا بعنوان "عن ستالينية بوتين وما يُخفيه تلميحه عن اغتصاب أوكرانيا"، قاصدًا المواجهة الحربية بين روسيا وحلف الناتو التي تجري فوق أرض أوكرانيا وعلى ظهر معاناة أهلها المدنيين. كان أبرز ما في المقال ممارسة الفيلسوف ما ينتقده بالضبط لدى موضوع نقده، مضيفًا إلى ذلك كمية دسمة من محاباة الناتو وتشديد حدود الأنا الأوروبي، الذي مهما فركته بمفردات ومستحضرات أخلاقوية ستظل تفوح منه رائحة الكولونيالية إن بقيت مصرا على إبقائه أنا متعالية متفردة في ديارها.

بدأ المقال بالإشارة الى ما صرح به فلاديمير بوتين، في مؤتمر صحفي من أنَّ:

"الحكومة الأوكرانية لم يعجبها اتفاق مينسك، وأضاف: أعجبكِ أم لم يعجبكِ، يبقى ذلك واجبك، يا حلوتي".

جيجك رأى أن:

"لهذه العبارة مضامين جنسية معروفة. فمن الواضح أنَّ بوتين يقتبس من أغنية "الجميلة نائمة في كفن" لفرقة البانك روك المسماة "كراسنايا بليسين" أو "العفن الأحمر” والتي تعود إلى الحقبة السوفييتية: "الجميلة نائمة في كفن، حبوت وجامعتها. أعجبكِ أم لم يعجبكِ، نامي يا حلوتي".

جيجك يتهم بوتين بالنيكروفيليا – مجامعة الجثث – ويضيف على التهمة بندًا آخر مفاده أن تصريحه هو "تهديد "باغتصاب بلد جميل". وفصّل:

"من السهل ترجمة هذا المشهد على أنّه مشهد اغتصاب. فروسيا، المستعدة لاغتصاب أوكرانيا، تدعي عدم الرغبة في القيام بذلك، لكنّها توضح ما بين السطور أنّها مستعدة لاقتراف الاغتصاب إن لم تنل قبول أوكرانيا الجنسي".

بالنسبة للولايات المتحدة، فهي موصوفة لدى جيجك كأزعر/بلطجي يفرض الخاوة/الأتاوة على المستضعفين:

"تدقّ الولايات المتحدة التي تريد حماية أوكرانيا من الاغتصاب، ناقوس الخطر تحذيرًا من التهديد الوشيك بالاغتصاب كي يمكنها أن تؤكّد أنّها حامية الدول ما بعد السوفييتية. لكنّ هذه الحماية لا تكفّ عن تذكيرنا ببلطجي محلي يعرض “الحماية” من السرقات المحتملة على محلات البقالة والمطاعم في منطقته، مع تهديد مستتر بأنها إذا رفضت حمايته، قد يحدث لها شيء ما".

والسؤال: هل يقف الفيلسوف على مسافة متشابهة ممن يتهمه بالتهديد بالاغتصاب وممن يتهمه بالبلطجة المافيوزية وفرض الخاوات والاتاوات مقابل الحماية؟

و "ما العمل" وفقا للفيلسوف الذي كتب عدة مقالات تعيد الاعتبار للينين. يبدو أن الفيلسوف يسقط هنا، حيث نقرأه يلخّص:

"يجب أن نعي جميعًا، نحن الذين ننتمي إلى البلدان التي عليها أن تشهد اغتصاب أوكرانيا، أنَّ إخصاءً حقيقيًا فحسب هو الذي يمكن أن يمنع الاغتصاب".

ويجتهد كي يكون واضحًا:

"يجب أن نوصي بأن يجري المجتمع الدولي عملية إخصاء لروسيا، متجاهلًا ومهمِّشًا إياها قدر الإمكان".

عدد مشاكل هذا الكلام قليل لكن كل واحدة منها ضخمة. لو تجاوزنا مجرّد ابتذال استخدام هذه التوصيفات الجنسية لوصف صراع سياسي-اقتصادي-عسكري تاريخي معقد، يمكن هنا الاكتفاء باثنتين:
الأولى: الفيلسوف الذي ينتقد بتقزز ما يراه من sexism لدى الرئيس الروسي بوتين، ينهي مقاله الضحل بمقولة لا تختلف عن مقولة بوتين وفقًا لتأويله إياها، بل إن مقولة الفيلسوف تجاريها عنفًا إذ يدعو لفعل إخصاء استعاري كموازٍ لاتهامه بوتين بالتهديد باغتصاب استعاري. لم يتجاوز الفيلسوف المستوى الأخلاقي المتدنّي الذي ينسبه لمن ينتقده، لم يتفوق عليه، لم يتعالَ عليه بمقولة أخلاقية كونية مثلاً، لا بل جعل نفسه نظيرًا متوأمًا للمستوى الذي يزعمه في خصمه؛ وبما أننا في فضاء الاستعارات، يصافح جيجك بوتين بصورته الذكورية التي يقدمها لقرّائه، كما يفعل قذران ذكوريان متغطرسان ثملان يرتادان ماخورًا.

المشكلة الثانية أصعب:

الفيلسوف الذي يُنتظر منه النظر بتأمل عميق الى وضع سياسي يحمل احتمالات خطيرة بدرجات نووية، يقوم كعادته باستعراض بهلواني للأفكار – والصراحة أسلوب يتسم بجمالية معيّنة في بعض الحالات - ليعلن في النهاية أنه ينتمي للمعسكر الذي يدعو إلى سحق روسيا. هكذا، بالأسود والأبيض. من قلب شعبوية موضة معاداة روسيا يروح جيجك يمحو مقوماته وملامحه كفيلسوف نقدي، ماسخًا ذاته كواحد من أسخف الدعائيين الراهنين الذين يروون للجماهير والشعوب القضايا شديدة التعقيد والخطورة، بمصطلحات حكايات الصبيان، بقصص الخير والشر، والملائكة والشياطين. الفيلسوف الذي يجهد كي يبدو مشاغبًا مغايرًا مجددا ناقدًا، ينكفئ حين يموضع ذاته المفكرة والمنظرة في أسوار منطق البنتاغون الذي يعمل بالتخطيط والممارسة على الأرض لتحقيق ما يصفه الفيلسوف بفجاجة وصفاقة بالضبط: إخصاء من يجرؤ على عصيان حلف الناتو.

بدلاً من مقولة مركبة عميقة تواجه التعقيدات السياسية وتفككها وترفض التسطيح الدعائي، يختار الفيلسوف في إحدى لحظات حضيضه مقولة جبانة تحابي شعبوية تزييف الوعي وجعل الجدل السياسي يُدار بتكنيك تقديم الصراعات بآليات ترويج الصّرْعات.

وحتى تكتمل صورة الانحياز المختبئ خلف التفلسف والتنظير يقول جيجك التالي:
"ادعى بوتين مراراً أنه أُجبِر على التدخل عسكرياً لأنه لم يكن هناك خيار آخر. إذا اتبعنا طريقته في التفكير، فهذا دقيق، لكن لا يمكننا اعتبار التدخل العسكري باعتباره إنه "لا يوجد خيار آخر" بالنسبة لبوتين إلا إذا قبلنا مسبقاً نظرته العالمية للسياسة على أنها صراع بين القوى العظمى للدفاع عن منطقة نفوذها وتوسعتها".

إذًا بوتين وحده الذي يحمل هذا التوجه. حكومة الولايات المتحدة وحلف الناتو بريئان تمامًا من هذه الرجعيّة. لا يعتقدان ولا يسلكان في العالم كأنه ساحة صراع بين القوى العظمى للدفاع عن مناطق نفوذهما وتوسعتها. أما توسع الناتو شرقًا نحو روسيا فليس سوى مشابِه لهجرة الطيور البرية البريئة في المواسم.
من المهين للعقل أن يصل مثقف إلى هذه الدرجة من الابتذال، ابتذال صياغة حجج خطيرة دون أي حجر من الواقع. والأخطر: هذا الحد من التبلّد امام دماء وحيوات ملايين ضحايا حكومات الولايات المتحدة في شتى قارّات الأرض باسم محاربة الإرهاب تارة ومحاربة الدكتاتوريات تارة أخرى. عدم التوقف عند هؤلاء القتلى بأيدي الناتو وحكومات الولايات المتحدة هو تبلّد ناهيك عما يضيفه من كذب على المشهد الذي يحلله.

كي يكتمل السقوط: في مقال ثانِ لاحق بعنوان "من هو الفاشي" كان سلافوي جيجك واضحًا في الموضعة السياسية والثقافية، الذاتية والجماعية التي ينتمي اليها، لا يعود الفيلسوف ابن الإنسانية وشعوبها بل لائذًا وضيعا في حصن استعماري استعاري فعلي. فبعد انتقادات تتميّز بالعتب أكثر من النقد الشجاع لممارسات التمييز بين استقبال اللاجئين من أوكرانيا ولاجئي الشرق وأفريقيا، نقرأه يقول: "المهمة الحقيقية هي إقناع البلدان الأخرى بأنَّ الغرب يمكنه أن يقدّم لها خيارات أفضل من تلك التي يمكن أن تقدمها روسيا أو الصين. والسبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو تغيير أنفسنا باجتثاث الاستعمار الجديد بلا رحمة، حتى حين يأتي مرزومًا على هيئة مساعدة إنسانية. هل نحن مستعدون لأن نثبت أننا بالدفاع عن أوروبا نناضل من أجل الحرية في كلّ مكان؟".

هل هذا ما يجب ان يشغلك في هذه اللحظة الخطيرة؟ صد روسيا والصين؟ لكن الناطق باسم الأخلاق مشغول، بالضبط كمهندسي حلف الناتو، بصدّ روسيا والصين. فضرورة استقبال اللاجئين جميعا بشكل متساو لا يقارَب بوصفه فعلا أخلاقيًا لذاته وأمميًا لجموعه، بل يتحوّل إلى فعل أداتيّ حاجته "إقناع البلدان الأخرى بأنَّ الغرب يمكنه أن يقدّم لها خيارات أفضل من الصين وروسيا".

أما المقولة التي تزعم بأن "الدفاع عن أوروبا" هو "نضال من أجل الحرية في كلّ مكان"، فهي الدلالة الواضحة على لحظة-الصفر-وعي-ذاتي، على ذاك الجهل الذي يُصاب به في ساعة الصّدمة أولئك المتيقنون الإطلاقيون على مدار السنة من نقائهم الأخلاقي، فقط لأنهم ينتمون "للجهة الصحيحة"، وسرعان ما ينكفئون بجُبن عند اول صدام عميقًا في جحور قلاع الاستعمار القديم والاستعلاء الراهن، واهمين أنهم منارة، في حين انهم يتحوّلون إلى جزء عضوي في أكبر نصب تذكاري للبطش والسحق والخراب الذي طال معظم شعوب الأرض، بمؤازرة أشباههم من المثقفين لحظة حضيضهم وخيانتهم في عهود مضت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيطاليا: تعاون استراتيجي إقليمي مع تونس وليبيا والجزائر في م


.. رئاسيات موريتانيا: لماذا رشّح حزب تواصل رئيسه؟




.. تونس: وقفة تضامن مع الصحفيين شذى الحاج مبارك ومحمد بوغلاب


.. تونس: علامَ يحتجَ المحامون؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد لقاء محمد بن سلمان وبلينكن.. مسؤول أمريكي: نقترب من التو