الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حركة النهضة سقطت بسبب جرائمها

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2022 / 3 / 12
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


اعتبر الأستاذ نجيب الشابي أن "مناهضي حركة النهضة ودُعاة إقصائها، استئصاليون لأسباب إيديولوجية. ولا يفهمون السياسة". وتفاعلا مع ذلك، هنالك رأي آخر.

كان على تونس يوم 15 جانفي 2011 أن تتغيّر وتحافظ على نفسها في الوقت ذاته، لكي تستقرّ وتُثبِّتُ قدميها وتتحرك إلى الأمام. على أن الاستقرار لا يعني تثبيت الأوضاع التي كانت سائدة قبل 2011، بل يعني على وجه الوضوح تعاون القوى المنحازة للثورة على ثلاثة مسائل:
١/ إصلاح الإدارة.
٢/ تغيير حياة الناس نحو الأفضل.
٣/ توزيع معقول للسلطة.
وبقدر ما تكون الأطراف الفاعلة نزيهة، وبقدر ما تكون آليات التعاون والشراكة واضحة، بقدر ما تنجح في إحداث التغيير والحفاظ على الدولة، وضمان الاستقرار كشرط أول لكل ازدهار.
هذا ما كان مطلوب إنجازه. وهذا ما يجعل للسياسة معنى وقدرة على التوسّط بين المصالح المتضاربة، والمساهمة في حسم الخلافات بين المفاهيم والأطروحات المتنازعة، وبناء أسس تعايشها دون اللّجوء إلى العنف. والوُقوف بجدية القانون وصرامته ضد الفساد وضد العابثين بمقدرات البلاد.

فما الذي حدث وأبطل تحقيق الأهداف التي ثار الشعب من أجلها؟

وصلت حركة النهضة للحكم يوم 23 أكتوبر 2011، بمشروع آخر يتناقض جذريًّا مع ما كانت تحتاجه تونس. إذ كانت غايتها الأولى والأخيرة هي البقاء في الحكم مهما كان الثمن. ولكي يتحقق لها ذلك شرعت في التمكّن من جميع مفاصل الدولة منذ اليوم الأول. فهاجمت كل الإدارات وجميع الفضاءات وجميع المنظمات، فأطردت كل المدراء تقريبا، وثبّتت مكانهم أعضاءً حزبيين. وعن طريق هؤلاء أغرقت مؤسسات الدولة بالتسميات، حتى صار لهذه الحركة ميليشيا في كل مفصل. ولأن الإدارة التونسية قديمة ولها أعرافها ومواريثها، فقد قاومت هذه الغزوة بما تبقّى فيها من جهد. وتحطيم تلك المقاومة، في الداخل، اعتمدت حركة النهضة على جهاز موازي في كل الوزارات، وخاصة وزارتي العدل والداخلية. جهاز مُهيكل مرتبط براشد الغنوشي رأسًا، وعلى الميدان تقوده عناصر إرهابية بكل ما في العبارة من معنى. وبدأ تخريب الإدارة بشتى الوسائل، بذريعة هدم الدولة العميقة.
أما خارجيا، فقد اعتمدت في بقائها واستمرارها في الحكم على الحماية الأجنبيّة، سواء كان بالمال أو بالمعلومات الاستخباراتية أو بتدريب متطرفين وإدماجهم في مؤسسات الأمن بعد إعادتهم، سواء بالديملوماسية والوساطات مع الدول المؤثرة على الساحة الدولية. كل هذا لإنجاح برنامج الحكم والسيطرة على المجتمع، مقابل غاب تام لبرنامج الإصلاحات الذي تحتاجه البلاد على الصعيد الاقتصادي وعلى الصعيد السياسي وعلى الصعيد الأمني، وعلى وجه عاجل على الصعيد المعيشي. وهذه السياسة أدت بعد عشرة سنوات إلى تفاقم المديونية وإفلاس الخزينة وتوسع رقعة الجوع وانهيار المرفق العمومي، وتعمق التنافس والاقسام بين الجماعات الأهلية. وبالتوازي مع هذا كله حدثت قطيعة مخيفة بين الشعب والسياسة.
وبمقدار ما غابت السيادة الوطنية في عقيدة الحزب الحاكم وفي آدائه، بقدر ما أصبحت السيطرة على الدولة بأي ثمن غاية السياسة وموضوعها في تونس. ولم يعد للدولة وظيفة توحيد المواطنين وتعزيز تفاهمهم وتعاونهم، بل باتت الآداة الأكثر فعّالية لفرض الإذعان على بقية مكونات الساحة السياسية، وإضعافها وتخريبها. وبنفس الوقت صارت الدولة آداة لإحالة الموارد العامة إلى غنائم.

رغم هذه الجريمة المستمرة منذ عشر سنوات، مازالت الدولة قائمة، وتدافع عن نفسها. ومازال المجتمع يُعاند هذا المسمار مُصمّما على اقتلاعه.
فلماذا فشلت حركة النهضة في افتكاك الدولة بالكامل وتحطينها؟

هنالك عدة أسباب صنفتها في مقال بعنوان :"لن تنهار الدولة التونسية لأنها راسخة في وعي شعبها"، بفضل فئتين من العوامل التي تجعل تونس فريدة ومختلفة وعصيّة، ويصعب تدمير دولتها ومجتمعها:
*) العوامل المحيطية:
أ) كون حدود تونس القديمة منذ كانت إقليم فينيقي، ثم إقليم تابع للدولة الرومانية. وعلى مرّ العصور، بعد ذلك، ظلت حدودها ثابتة تقريبا. وهذا ساهم في ثبات الهوية واندماج السكان.
ب) كون الإسلام نجح في التعايش مع بيئة بربرية لها خصوصياتها وبعدها عن مركز إسلام شبه الجزيرة العربية. وهذا ساعد على تعايش المالكية الصّوفية، وأعتقد بقوة أن هذا التعايش، ساعد على ولادة حركة تنوير إسلامي فريدة من داخل الزيتونة، لا من خارجه.
ج) كون تونس بلد لا يحتوي أسباب انقسام إثني ولا طائفي، وشعبها من بين الشعوب القليلة في العالم من حيث وحدته واندماجه. وحتى تلك التوتّرات الجهوية البسيطة، التي تنشأ من حين إلى آخر بحكم غياب تطبيق القانون، ليست توتّرات جذريّة بالمعنى العرقي الأقوامي، بل هي مجرد حسّاسيات مناطقية سطحية ليست لها أُسس قوية. ولذلك تذوب هذه الحساسيات في المحن الوطنية، حيث يتوحد التوانسة حتى لكأنهم عائلة واحدة.

وهنالك عوامل تاريخية/ ثقافية.
القريب منها: نسبة التعلم، وحرية المرأة، ووجود طبقة متوسطة واسعة، وكذلك وجود مجتمع مدني وحركة نقابية عريقة. والبعيد من هذه العوامل وحاضنتها الثقافية والتاريخية هو حركة الإصلاح المُبكّرة التي بدأت تتبلور كسياسة دولة منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر. ولكن إرهاصاتها تعود إلى زمن أبعد من ذلك بكثير.

لكل هذه الأسباب المحيطية والتاريخية والثقافية، عجزت حركة النهضة على الإطاحة بالدولة وجرّ المجتمع إلى حرب أهلية، مثلما نجحت شقيقاتها في تدمير ليبيا وسوريا واليمن.

وما أريد أن أثير إليه الانتباه، هو أن تونس مؤهلة، بحكم هذه العوامل، لتفاهم أبنائها وتعاونهم على بناء نظام ديمقراطي حقيقي. وعلى رسم المستقبل بكل ثقة وثبات، وعلى القضاء على الفقر وعلى الإرهاب والتطرف، وعلى الارتقاء بحياة الناس، بناء على هذا المشترك الوطني الكبير.
في هذا الباب، كل الأحزاب السياسية، كل المنظمات الوطنية، كل النخبة الأكاديمية، وكل فئات الشعب التونسي، بإستثناء حركة النهضة ومحيطها العنيف، الكلّ مجمعون على الدولة. مجمعون على عروبة تونس وإسلام شعبها، مجمعون على أولويات التنمية، مجمعون على المدرسة العصرية وعلى القضاء الموحّد.
ن هنا، من هذه المسألة المفصلية. من مسألة المشترك، وعلى أساسها يتمّ الفرز، وتُبنى بوصلة الإجماع الداخلي حول أسس إعادة بناء البلد. ودون الوقوف على هذا المشترك، يصبح شعار "عدم إقصاء أيّ كان"، "وكون الديمقراطية لا تُقصي حركة النهضة " كلام حقّ أُريد به باطل. ذلك أن الجميع يؤمن بأن النظام الديمقراطي هو أرقى أنظمة إدارة الاختلاف، إلا حركة النهضة تعتيرها آلية تمكين من الحكم فقط. الجميع يؤمن بإصلاح الدولة، وحركة النهضة تؤمن بافتكاكها أو تدميرها. وهذا عاشه الشعب ورآه يُمارس في وضح النهار على امتداد عشر سنوات. الجميع يؤمن بأن مصلحة تونس أولا. إلا حركة النهضة تؤمن أن المحور الإخواني في المنطقة أولا. الجميع يؤمن بأن المدرسة تحتاج إصلاحا وتطويرا. إلا حركة النهضة تعمل على هدم المدرسة لحساب التعليم الديني العشوائي.
فكيف إذن تصبح حركة النهضة عنوانا للديمقراطية، ومناهضوها خصوما للديمقراطية؟

يبدو لي أن مردّدي هذا الكلام من خارج حركة النهضة، بعضهم ضحية الحرب القذرة التي شنّتها حركة النهضة على الدولة. فتلك الحرب لا تهدف إلى ضرب التعايش ودفع النخب إلى تحطيم بعضها البعض، وترك الشعب من دون قيادة فحسب، ولكن تهدف أيضا إلى حرمان هذه النخب السياسية والاجتماعية من فرص التماسك الأخلاقي، وتنمية مناهج الاحتكام للعقل .والنتيجة هو هذا الخطاب الوقح الذي يجعل من الإرهابي القاتل حارسا للديمقراطية، وعنوان لها ووصيّ عليها. ويجعل من بقية النخب الديمقراطية التي أُطلِق عليها الرصاص، فذهبت إلى المحاكم "استئصاليين وأعوان الاستبداد ولا يفهمون السياسة" (هكذا وصفنا الأستاذ نجيب الشابي).

طبعا حركة النهضة غير معنية كثيرا بما قاله الأستاذ نجيب الشابي كالعادة. فرئيس الحركة يحتقره، ولا يقرأ له أي حساب. والحركة مستمرة في حربها، ماضية في الإبقاء على نار الفتنة الدائمة، مستفردة بحق المتاجرة بالدين في الداخل، وحق المتاجرة بالدولة في الخارج. ولم يبق تونسي واحد لا يعرف أن أحد أبرز استراتيجيات حركة النهضة هي تحييد النخب وعزلها عن الشعب، وزرع الفتنة والشك فيما بينها، لحرمانها من أي تأثير، ومنعها من التصدي للجريمة التاريخية الكبرى. وسلبها أي مقدرة على التفاهم وبلورة مشروع وطني إصلاحي ينقل البلد من الهاوية إلى برّ الأمان.

الأستاذ أحمد نجيب الشابي، الذي كان يُفترض أن يكون على رأس هكذا مشروع وطني يليق بتونس، انتصر لحركة النهضة، ووضع ضحاياها في سلة التطرف. وهو يعلم يقينا أن سياسة النهضة هي التي قسّمت المجتمع بين إسلامي وعلماني. وأن المعتقد الوحيد الجامع الذي زرعته هو الكراهية. وما كان يمكن لهذه الجريمة، إلا أن تُخرب السياسة، وتنتج سياسيين يفسّرون خياناتهم لأفكارهم وتنكُّرهم لشعبهم على أنها "خِدمة للوطن".

لا يوجد حزب سياسي واحد في تونس له خصومة مع الاسلام. بل الخصومة الحقيقية قائمة بين حركة النهضة والمسلمين الفقراء من الشعب التونسي. هو الإفلاس السياسي وفشل تجربة الحكم، يجعلها تعيد شعار "الإسلام في خطر" ريثما تستغفل به الناس مرة أخرى.

تونس في حاجةٍ الى مصلحين ومجدّدين سواء كانت لهم خلفية إسلامية، أو مختصين في علم الأديان المقارن، يساعدون المواطنين على التصالح مع قيم العصر، والتخلص من كراهية الأخر. وليست في حاجة إلى فتاوي إجرامية تحوّل المؤمنين إلى قَتَلَة. وتحتاج أيضا، إلى فلاسفة عقلانيين يصالحون الحداثة مع واقع المجتمع التونسي وخصوصياته الثقافية. وترسم للتوانسة طريق التفاهم والتعاون لتغيير الشروط المريضة التي تعيشه بلادهم.

ليست المشكلة في وجود حركة سياسية وطنية لها مرجعية إسلامية، تتبنّى تأويلا مختلفا للمعاني الدينية. ولا في وجود حركة تتبنى العلمانية باعتبارها جملة من قيم التعايش والتسامح بين العقائد، وترتيب العلاقه مع الآخر المختلف.. بل المشكله في التعصب وتحويل القناعات إلى مشاريع دموية تكفيرية استئصالية غير قابلة للمراجعة. والمشكل في أن تتولى الحكم مجموعة من اللصوص والخونة، ثم تهتم بتحصين بقائها في السلطة، حتى ولو كان ثمن ذلك خراب البلد.

ليس هنالك عاقل في تونس، يسعى لجعل كل المواطنين مُتماهين مع أفكاره ومشروعه. وسيبقى الناس إلى يوم القيامة على اختلافاتهم العقائدية والمذهبية. وليس أمامهم وأمامنا من سبيل، إلا التعايش والقبول بالتنوع. لأن ذلك هو النهج الوحيد الذي يخلّص البشر من الكراهية، ويفتح أمامهم أبواب التعاون من أجل تحسين شروط حياتهم، والانخراط في المدنية والتحضر وإعمال العقل، بدل استخدام الغرائز البدائية والعنف.

لكل ما سبق، مرة أخرى، نُذكّر السيد أحمد نجيب الشابي، أن التوانسة رفعوا أياديهم على حركة النهضة بسبب جرائمها، لا من أجل معتقداتها. وأن الذي يعتقد بأن الديمقراطية تبنيها مجموعة لصوص، تحلم بهدم الدولة التونسية، وبناء كيان آخر مُتخيّل وخاص بالجماعة، لا بتونس وشعبها، هو الذي لا يفهم السياسة.

ومهما كان الحال، وبرغم تجربة حكم النهضة المأساوية الكارثية. ورغم كلّ الأذى الذي ألحقته بالدولة وبالمجتمع، فإن هذا السقوط الجاري، وهذه الأوضاع المستعصية، وضعت خيرة شباب تونس، أمام تحدّي شقّ طريقهم بعيدا عن المفاهيم البالية، والشعارات الفارغة من أي محتوى كفاحي أو أخلاقي، وسينجحوا في تجميع بعضهم البعض، لبناء رؤية وطنية جامعة، أساسها الصدق والإرادة، وأداتها الذهاب مباشرة إلى الشعب، وإقناعه بأن تونس أخرى نظيفة بلا لصوص ولا غربان في الحكم، ممكنة جدا وضرورية جدا.

ختاما، احذروا قادَةٍ الهزائم، المجتهدين في إخفاء الخيانات، وتحويل الجاني إلى ضحيّة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري