الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كبش الفداء فى أوروبا

شريف حتاتة

2022 / 3 / 16
العولمة وتطورات العالم المعاصر


-------------------------------

القطار السريع يحملنى من فرانكفورت إلى هامبورج ، يقطع المسافة التى تفصل بينهما بحركة ثابتة لا اهتزاز فيها ، كأنه يطير ، يعبر بسرعة مائتى كيلومترا فى
الساعة .
أطل من النافذة على سواد الليل فألمح الأضواء ، والبيوت ، والكبارى ، والسيارات تتناثر على شريط مندفع ، مجنون ، يختطفها بعيداً قبل أن أتأكد من وجوده .
عربة القطار عريضة ترقد فوق القضبان بثقلها الراسخ ، مقاعدها وسجاجيدها ، وجدرانها تتجاور فيها الألوان فى رقة مدروسة ، الوردى ، والرمادى الفاتح ، والسقف قبة ناصعة البياض ، والضوء هادىء مريح للأعصاب ، باعث على الاطمئنان .
الأشياء تبرق من فرط النظافة ، وإشراق الألوان ، حتى فى دورة المياه ، وكل الأدوات على مقربة من بابها . فى الطرقة تليفون منزو فى الجدار يسمح بإجراء كل الاتصالات المحلية ، والدولية ، ومكتب بريد ألى ، وكمبيوتر يعرض مواعيد القطارات ، والأتوبيسات والطائرات التى تقطع الأراضى الألمانية من شمالها إلى جنوبها ، ومن شرقها إلى غربها أو بالعكس ، تظهر على الشاشة فى حروف خضراء بضغطة على الزر أو المفتاح المناسب .
أنا فى عالم آخر فى فيلم عن الخيال لعلمى . كل شىء فى هذا البلد يتطور ، يزداد دقة وسرعة ، وسهولة فى التعامل اليومى ، كل الشوارع مغسولة ، والسيارات جديدة ، والمواعيد مضبوطة ، والعمل مستمر ساعات متتالية ، ربما يختفى البؤس أو الفقر فى شوارع خلفية . أو ربما البؤس مسألة نفسية . فالوجوه كلها جادة والضحك نادر ، والابتسام إن كان له وجود خاطف أو خفى ، هناك نوع من الوجوم ، والبرود ، والثقل فى الجو ، وفى السحب . ومع ذلك أجد نفسى فى عالم يفقز إلى الأمام ، وأتحسر على الهوة السحيقة التى تفصل بيننا وبين هؤلاء الناس ، على ثروات مادية ، وبشرية نبددها ، أو تستنزف منا وتذهب إلى الخارج .
الماديات ليست كل شىء فى الحياة . ولكن لم يعد سبيل للاستغناء عنها فى عالم أصابه التضخم ، وجنون الأسعار . فأصبحت كل خطوة بسيطة لا تتم ، إلا مقابل صرف المال . السعادة كان يمكن أن تكون روحية فقط فى زمن قديم ، عشنا فيه بمعزل عن الخارج بلا تليفزيون ، أو إذاعة ، أو أفلام ، أو سفر ، أو تكنولوجيا خيالية ، أو مستوردات ، فى زمن كان الرضا ، فيه كنز لا يفنى . ولكن الآن منْ لا يخطو بسرعة إلى الأمام ، يجد نفسه فى ذيل الحياة ، ويتطلع بحسرة ومرارة ، إلى أولئك الذين يتقدمون السباق .
مع ذلك تساءلت ، وأنا أجلس أمامها ، ترى أين هى السعادة ؟ . فالإنسان يتطلع فى أغلب الأوقات إلى ما ليس عنده ، ولا يشعر بقيمة ما يملكه إلا إذا ضاع منه . أتأمل رأسها الصغير المرفوع على عنقها الطويل الأبيض مثل الرخام ، بيضاء تشبه نفرتيتى السمراء فى الملامح ، والقوام سمار النيل ، والشمس ، والهواء . جمال دافىء نادر ، مثل البجعة تسبح ، وتبحث فى بحيرة الحياة . عيناها سوداوان عميقتان ، تنظران فى عينىً بثبات ، نظرتهما فيها تصميم ، ومواجهة ، وفيها حزن فى لحظات السرحان .
تعمل طبيبة أطفال فى مستشفى عام منذ سنوات . ولدت ، وعاشت فى مدينة
" ديسولدورف "حيث الصناعة الهندسية ، والأفران تصهر المعادن . استقالت منذ ثلاثة أيام . ضحت بمرتب يصل إلى خمسة آلاف دويتشمارك فى الشهر الواحد ، أى إلى ما يقرب من عشرة آلاف جنيه مصرى، بسعر السوق الحرة التى نتعامل بأسعارها . لم تكن سعيدة فى عملها ، وفى الأشهر الأخيرة أصابها الاكتئاب . تقول مهنة الطب فى بلادنا غير إنسانية ، نعمل كلآلات طوال النهار ، والمرضى ليسوا إلا أرقاما أو حالات تتتابع أمامنا . نعمل ساعات متتالية تصل الى عشر ساعات ، نفحص ، ونكتب الأدوية ونفتح الخراريج ، ونخيط الجروح ، ونحقن السوائل ، والفيتامينات . لا وقت للحديث مع المرضى ، لكلمات التشجيع ، أو تبادل الود ، أو حتى الابتسامات . نعالج الأجسام بالعقاقير ونترك النفوس تحتضر ، أو تجف ، أو تفنى فى خضم الحياة . نظام التأمين عام عندنا شامل يغطى كل الإناث ، والذكور ، والأطفال ، والشيوخ ، والشباب . ولكننا نعمل مثل المكن بلا قلب ، والعمل يؤدى إما إلى فقدان الإحساس ، والبحث عن المال ، والانعزال فى مهنة لا علاقة لها بالفن ، أو الحياة ، ونبض الناس ، أو إلى الإحباط ، والاكتئاب ، لذلك قررت أن أترك المهنة ، وأن ابحث عن شىء أخر أعيد عن طريقه إحساس الوجود ، ربما مجال الثقافة ، والنشر . لذلك عندما سمعت من صديقى الناشر
أنكما ستحضران الى معرض " فرانكفورت " للكتاب ، تطوع لمصاحبتكما فى رحلتكما إلى بعض المدن الألمانية .
مشاكلهم هنا مختلفة عنا . كثير منها نفسية . ربما عندما يشبع الإنسان من الماديات ، يبحث عن معنى آخر للحياة . فى إحدى الندوات ، أجبت عن سؤال عن الانتحار فى بلادنا ضاحكا : " ربما كثرة المشاكل لا تعطينا الفرصة للانتحار مثلما يحدث لديكم هنا ".
سألتها عن ألمانيا بعد الوحدة فأجابت : " أختطفنا حلم ألمانيا الموحدة ولم نفكر فى بعض نواحيه حتى نعد لها . أراد المستشار " كول " أن يدخل التاريخ كقائد سياسى صنع الوحدة ، وكانت الرأسمالية الألمانية فى الغرب تتطلع إلى سوق أكبر ، إلى شرق ألمانيا وإلى شرق أوروبا ، دون أن تهتم بكل العواقب المؤثرة على الناس . والآن أصبح المواطنون فى ألمانيا قسمين ، سكان ألمانيا الشرقية صاروا مواطنين من الدرجة الثانية ، يطلق عليهم الاجئين لأنهم تدفقوا على ألمانيا بحثا عن الرخاء ، الذى سمعوا عنه الكثير فى وسائل الإعلام . ولكن بدلا من الرخاء وجدوا البطالة ، انهارت كثير من الصناعات فى ألمانيا الشرقية أمام المنافسة ، فأصبحوا بلا عمل وضاعت الضمانات الاجتماعية التى كانوا يتمتعون بها مثل العمل المضمون ، والسكن الرخيص الذى كان محددا بواحد فى المائة من الأجر ، وسائر الخدمات الأخرى فى الصحة والتعليم . لم تستوعبهم النظم الموضوعة فى ألمانيا الغريبة ، و أصبح السكن بالنسبة إليهم صعبا للغاية ، فقد ارتفعت الإيجارات ، وأسعار البيوت بشكل جنونى .
والآن تخشى الحكومة الألمانية أيضا من الانهيارات فى بلدان أوروبا الشرقية ، والاتحاد السوفيتى ، لأنها ستؤدى إلى تدفق مئات الآلاف ، وربما ملايين من اللائجين إلى الأراضى الألمانية ، وهذه إحدى أسباب اهتمام الحكومة بمساندة " جورباتشوف " ماليا ، وتدعيم سياساته .
أما سكان ألمانيا الغربية ، فقد زادت أعباء الضرائب عليهم بنسبة ثمانية فى المائة . وهكذا لا أحد يشعر بالرضا . ورغم الحماس للوحدة الألمانية ، فالشرقيون فقدوا حلم الرخاء السريع ، والغربيون يدفعون ثمن الوحدة ، وأعبائها من مستواهم المادى .
كما يحدث فى كل أزمة اجتماعية ، فان النظام الرأسمالى الأوروبى السائر نحو مزيد من الوحدة ، يبحث عن كبش فداء يوجه إليه الغضب الشعبى . يستغل النعرات العنصرية التى ظلت موجودة منذ زمن بعيد ، وما أسهل أن يكُون كبش الفداء هم المهاجرون . انهم يستغلون أبشع استغلال . يقومون بالأعمال الدنيا التى لا يريد أن يقوم بها سكان البلاد الأصليين ، ومع ذلك ينظر إليهم كمزاحمين . ويوجد فى ألمانيا ما يزيد على ثلاثة ملايين من الأتراك ، وعدد كبير من اللاجئين من أوروبا الشرقية ، ومن البلاد العربية على الأخص من المغرب ، كما يوجد عدد كبير من المهاجرين من البلاد الأوروبية الأخرى مثل هولندا وفرنسا ، التى زرتهما أثناء هذه الرحلة . أما النرويج فهى لا تقبل إلا ما يسمونهم باللاجئين لأسباب سياسية . وفى كل بلد من هذه البلاد أحسست بالعداء المتزايد للعرب . فالمتجه من باريس إلى الجزائر على طائرات " ايرفرانس " يعامل كأنه فرد فى قطيع الانتظار الطويل ، الزحام فى الطوابير بسبب إلغاء نظام المقاعد المحجوزة بأرقام ، واستبداله بما يسمونه الجلوس الحر ، والطعام ردىء . أما فى أوروبا فأى مسافة طيران ، ولو لمدة نصف ساعة ، تكون دائما مقترنة بالراحة الكاملة وبكل أنواع الطعام والشراب الجيد ، بالابتسامات والفوط الساخنة ، والخدمة المتميزة . وأثناء
الطيران من " فرانكفورت " إلى امستردام ، رفضت الموظفة المختصة أن تعطينا مقاعد متجاورة ، متحججة بأنها كاملة العدد ، صدقتها . وعندما صعدنا إلى الطائرة وجدناها خالية ، فتذكرت نظراتها الحاقدة وهى تسمعنا نتحدث باللغة العربية .
هكذا فى الفنادق أيضا . إن كنت عربيا فتوقع أنهم سيحاولون وضعك فى حجرة خلفية ، أو إلغاء الحجز إذا جاءهم أمريكى ، أو سائح يابانى . فى كل خطوة يجب أن تدافع عن حقوقك ، وان توقف أى شخص عند حده ، لو عاملك بطريقة فيها ازدراء .
والحكومات فى عدد من البلدان الأوروبية ، تدرس قوانين جديدة الهدف منها طرد المهاجرين واللاجئين واقتصارهم على عدد محدود ، وإلغاء هويتهم ، وثقافتهم الخاصة ، وإغلاق أبواب أوروبا الموحدة أمام منْ يفكر فى البحث عن عمل هناك .
ولكن المسالة لم تتوقف عند هذا الحد . ففى ألمانيا مثلا خلال السنة الماضية حدثت اعتداءات جماعية متكررة على بيوت ، ومؤسسات ، ومصحات المهاجرين ، وصلت إلى ثلاثمائة اعتداء وأضرمت فيها النار ، والقى بأثاثها فى الشورع بواسطة تجمعات من الشباب حلقى الرؤوس يرتدون الجينز أو الملابس الجلدية ، والأسارور والحلقان . ومما ينذر بالخطر هو أن السكان العاديين لا يتعرضون للمعتدين ، وإنما يقفون سلبيا ، أو يشاركونهم الاعتداء على الأسر ، والأطفال ، والنساء ، والشيوخ العزل الذين لا ذنب لهم ، دفعهم الجوع المفروض عليهم من العالم المتقدم ، إلى البحث عن عمل بعيدا عن الأوطان ، بينما كان يرحب بهم كمورد غزير للعمالة الرخيصة قبل ذلك . ولكن الآن ، ومع التطورات التكنولوجية الحديثة ، والبطالة التى صاحبتها انقضت الحاجة إليهم ، أصبحوا أعداء ، أو أكباش الفداء الذين توجه إليهم الهراوات والسكاكين .
صورة كريهة لأوروبا ذكرتنى بأيام الاستعمار ، فالعنصرية والتعصب الدينى والِعرقى ، ينتشران فى كل مكان، زادهما حرب الخليج ووسائل الإعلام ، و " السى إن إن " ، وسياسة أمريكا ، ويذكيها الأصوليون المسيحيون ، واليهود ، والمسلمون ، بالعنف ، وضيق الأفق والنظرة اللاإنسانية ، التى تفرق بين البشر بسبب المعتقد ، أو المولد ، أو لون البشرة .
قالت لنا الدكتورة " برجيت " بابتسامة فيها سخرية ، فى الماضى كان عدو الغرب الرأسمالى ، هو " ماركس " ولكن يبدو أن عدوهم اليوم هو " النبى محمد " .
ولكن كما يحدث بعد كل الأزمات والكوارث ، أخذت تتبلور قوى جديدة لها موقف آخر ، يناهض هذا الفكر المعادى للإنسان ، المحارب لحقوق الناس . ، فكر آخر هو امتداد لما سبقه ، ولكنه أكثر وعيا وإدراكا لمشاكل العالم المعاصر . رأينا أنصاره فى كل الاجتماعات التى حضرناها فى مدن ألمانيا المختلفة الخمس التى زرناها ، وهى
" فرانكفورت" ، و" هامبورج " ، و " كولون " ، و " برلين " ، وبريمين " . وأيضا فى باريس ، وأوسلو ، وغيرها . وهى قوى مكونة أساسا من الشباب والنساء . رأيت عينوهم المتأملة الصافية تنصت ونحن نتحدث إليهم ونتحاور معهم .. فبعد حرب الخليج أخذ عدد متزايد من الناس ، يفيق من حملة التضليل التى أخفت بها أمريكا وانجلترا ، وفرنسا ، وبلاد أخرى أغراضها الحقيقية فى هذه الحرب التى دفع ثمنها العرب ، وسيدفعون ثمنها أكثر وأكثر بأشكال متنوعة .
فبعد انهيار ما كنا نسميها بالبلاد الاشتراكية ، أصبح العالم الثالث الذى يشكل أربعة أخماس سكان الأرض ، هو الذى يراد له أن يتحمل ، كل ثقل " النظام العالمى الجديد " الذى تهيمن عليه أمريكا .. وأصبحت تهدده بالمخاطر أكثر من أى وقت مضى بسبب الأزمة الاقتصادية الطاحنة ، التى يعانيها من الجوع والبطالة والتضخم وارتفاع الأسعار والاستنزاف المتزايد لموارده البشرية ، والمادية ، مما ينذر بالاضطرابات والانقلابات ، والتحركات الخطيرة التى تفتقد الوعى والتنظيم .
فى عالم ارتبطت أجزاؤه بعلاقات وثيقة ، حيث يؤثر كل جزء فى المسار العام للبشرية ، أصبحت مشاكل الأزمة الاقتصادية ، وبطالة الملايين من الشباب ، والسكان ، والتلوث ، والحروب ، وحقوق الإنسان ، تحتاج إلى خوض الصراع بوسائل سلمية وديمقراطية جديدة تراعى كل الأطراف ، وإلى شبكة من العلاقات الإنسانية تجتاز الحدود بين سكان البلاد الصناعية الغنية ، والبلاد النامية ، التى مازالت تعانى من الفقر والمرض ، والأمية ، والعلاقات غير المتكافئة بينها وبين الدول الصناعية الكبرى .
هذا الوعى هو ما لمسناه فى النساء والشباب ، الذين تجمعوا بالمئات للاستماع إلى زوجين من مصر ، أنا وزوجتى نوال السعداوى ، يتكلمان عن صورة أكثر انسانية جديدة للمستقبل ، ويحذران من تفاقم الأصوليات الدينية ، العنصرية ، الذكورية ، المتحالفة مع الآلة الرأسمالية العسكرية العالمية ، وسياستها العدائية تجاه البلاد
الصغيرة ، المستغلة من حكوماتها المحلية ، والمتناغمة أهدافها مع هذه الآلة ومصالحها .
من كتاب " فى الأصل كانت كانت الذاكرة " 2009
----------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات