الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا اوهام! بعض هنات عن اقتصاديات ما بعد الليبرالية

مشعل يسار
كاتب وباحث ومترجم وشاعر

(M.yammine)

2022 / 3 / 16
السياسة والعلاقات الدولية


ستتخذ روسيا كافة الإجراءات لتحقيق الاستقلال التام عن الغرب. جاء ذلك في 10 مارس في مؤتمر صحفي عقب مفاوضات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع نظيره الأوكراني كوليبا.

وقد شدد وزير الخارجية الروسي، وهو يتحدث عن الصعوبات الاقتصادية التي نشأت بعد فرض العقوبات ضد روسيا، على أن روسيا تعاملت بنجاح مع "الصعوبات في جميع مراحل تاريخنا"، وستفعل هذه المرة أيضاً. ومع ذلك، لن يكون الآن، حسب قوله، لدى موسكو "أوهام بأن الغرب يمكن أن يكون شريكًا موثوقًا به".

في هذه الأثناء تواصل الدول والشركات الغربية فرض قيود على روسيا في ما يتعلق بالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا. فقد انضمت شركات الملابس وساحات الأسواق وشركات صناعة السيارات وشركات الوسائط المتعددة (الملتيميديا) وعمالقة التكنولوجيا وغيرها إلى التزام الحظر. ومع ذلك، هناك شركات كبيرة ترفض فرض عقوبات على روسيا. مثلا، قالت شركة كوكا كولا إنها لا تخطط لمغادرة السوق الروسية؛ فتسبب هذا البيان في غضب أوكرانيا، حيث رفضت سلسلتان من المتاجر الكبرى على الفور التعاون مع الشركة.

موقف هذا العملاق الاقتصادي واضح، لكن خلفية هذه الموقف غير واضحة. فهو، كقاعدة عامة، يمول الحملة الانتخابية للمرشح الذي سيصبح رئيسًا للولايات المتحدة.

بشكل عام، رفضت مغادرة روسيا مجموعة كاملة من الشركات الأجنبية الكبرى، التي اعتادت إدارتها على التفكير الاستراتيجي، تمامًا مثل شركة كوكا كولا التي تتجاهل ضغوط الحكومات والمؤسسات المالية الدولية. على سبيل المثال، اتخذت شركات نستله ومترو وليروي ميرلين، وعدد من الشركات الكبيرة الأخرى موقفًا صارمًا. الحقيقة هي أنه في غضون شهرين أو ثلاثة أشهر، سيتعين عليها أن تعود ولو في تحدٍ للفروع المسيطرة في الشركة، فهامش الربح لديها ينهار بشكل كارثي بفقدان السوق الروسية، بل والأسواق البيلاروسية والأوكرانية، في غضون بضعة أشهر، وهذا يعني فقدان ما يقرب من 200 مليون مستهلك قادرين على الدفع، ويعني تركها في حالة من عدم الربحية وتكبد الخسائر. وهذا، بعبارة ملطفة، قلة من الناس تستطيع تحمله.

لماذا أشدد على هذا الآن؟ الأمر بسيط للغاية: فكلما زادت قوة الشركة وجبروتها واستقلاليتها، قلت الرغبة في "السير في ركاب" "الإجماع الليبرالي" والوقوع في فخه. وهذا يعني أن الغرب ليست لديه أية استراتيجية عميقة لعزلنا، فنحن نشهد رد فعل ظرفياً سيئ التنسيق على محاولتنا استعادة السيطرة على أراضينا التي ضاعت بسبب خيانة وغباء حفنة من الحكام اللامسؤولين قبل 31 عامًا.

وهذا، بدوره، يعني أن التقسيم الحقيقي إلى مناطق محددة في مجال المسؤولية الاقتصادية قد بدأ، وأن الاقتصاد العالمي بات يتحول تدريجياً من السلام الأمريكي الشامل Pax Americana، ليصبح قاب قوسين في خطوات غير محسوسة، من واقع جديد كذاك الذي تنبأ به كبار المحللين منذ فترة طويلة – ألا وهو التشرنق في بضعة اقتصادات شديدة الانغلاق عن اللاعبين الخارجيين – هي المناطق التكنولوجية (ETZ) المتنافسة لاحقاً في ما بينها. بهذه الطريقة فقط ستتمكن الرأسمالية من الخروج من الأزمة غير المسبوقة التي بدأت تغرق فيها مرة أخرى في عام 2007، بعد انتهائها من استغلال موارد الكتلة الشرقية (بلدان الكتلة الاشتراكية) سابقاً.

بالإضافة إلى ذلك، بات من الواضح للجميع (في الواقع، الهستيريا هي بسبب هذا بالضبط) أن ارتفاع أسعار النفط والغاز سيؤدي إلى شيء واحد فقط: جميع الخسائر المالية التي ستتكبدها روسيا من جراء القيود والعقوبات، بما في ذلك الجزء من احتياطيات الذهب والعملات الأجنبية الذي تم وضع اليد عليه في دول الاتحاد الأوروبي، سيتم تعويضها خلال 8-12 شهرًا .. بصرف النظر عن حقيقة أن كتلة الروبلات التي يجري إصدارها بمقابل المليارات المجمدة لا تختلف عن إصدارات مماثلة لو كانت العملات النادرة مخبأة في شكل نقد في خزائن البنك المركزي.

لقد أخرجت ألمانيا وهولندا وإيطاليا حتى الآن الوقود الروسي من رقعة العقوبات، ورفضت المجر وبلغاريا وتركيا أصلاً فرض مثل هذه القيود. فـ"الجوع لا يرحم" والتضخم النقدي والبرد ليسا أمّاً وأبًا حنونين.

والأهم من ذلك أن الغرب، قرر أن الشعب الروسي سيبدأ في العيش أسوأ بشكل ملحوظ بمجرد اندلاع الأزمة التي أثارتها "العقوبات الجهنمية" المفروضة، بمجرد أن يفقد المجتمع الروسي توازنه، وهو الذي اعتاد على الاستقرار والازدهار النسبي وشراء الأجهزة والأدوات الغربية الرائعة، ويدكّ نظام بوتين على الفور، فتتوقف الحرب، وتنسحب القوات من أوكرانيا، ويحتفلون هناك بالنصر على روسيا.

هذا هو اعتقادهم! ومع ذلك، فقد ارتكب حمَلة "الأيديولوجيا والقيم الصحيحة ولا شيء آخر" خطأ فادحاً حين انطلقوا من أن روسيا هي مثل بولندا، مهما "برعطت" فلن تذهب إلى أي مكان، لا مفر لها من أن تندرج تحت مظلة "المليار الذهبي".

ما هو الخطأ الرئيسي لزعماء بلدان الديمقراطية المظفرة؟

في الواقع، هناك ثلاثة أخطاء بالضبط.

أولاً، يتمتع الاقتصاد الروسي باكتفاء ذاتي بنسبة 85-90٪ (وفقًا لتقديرات مختلفة). وهذا يعني أن كل شيء يتم إنتاجه في البلاد: من حفاضات الأطفال وبنجر السكر إلى سفن الفضاء والمحركات النووية. لا يوجد بلد آخر تقريبًا لديه مثل هذا، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي أخرجت مدى 50 عامًا أهم مصانع الإنتاج الاستراتيجي من أراضيها. لقد ورثنا الاكتفاء الذاتي من الاتحاد السوفيتي، الذي كان، كما يعلم الجميع، "حصنًا محاصرًا" طوال سنوات وجوده. وحتى هزيمة عمالقة الصناعة الاشتراكية وتقاسمها، تلك التي نظمها الحكام الليبراليون في التسعينيات، لم تستطع القضاء على هذا الواقع تمامًا، وخلال السنوات العشر - الاثنتي عشرة الماضية تمت إعادة تأهيل أو بناء الكثير من الجديد، حتى أن يد "ستالين اللعين" امتدت ووصلت إلى عصرنا الغريب.

نعم، لدينا مشاكل في عدد من الوظائف. في تكنولوجيا المعلومات (هذا هو الشيء الرئيسي)، وفي الآلات والمعدات، وخاصة الأدوات الآلية الحديثة (ربما عانت صناعة الأدوات الآلية أكثر من غيرها من "الخصخصة")، والبذور، وتربية الحيوانات، والمستحضرات الصيدلانية (على الرغم من التقدم الكبير في مجال استبدال الواردات)، والتقنيات الأحدث في مختلف الصناعات. لكن لدينا علوم ومدارس ومتخصصون تم الحفاظ عليها وعليهم، ولدينا دول صديقة نسبيًا حيث سنأخذ ما ينقصنا في المرحلة الأولى. لذلك لن تنفعهم العقوبات ولن ينجحوا في إخضاعنا.

ثانيًا، مقارنة بالطريقة التي عاش بها الروس وعاشت بها الشعوب الأخرى على مدى الألفية الماضية، باستثناء الفترة السوفيتية المتأخرة من الازدهار العام (وإن كانت قد أفسدتها ندرة السلع المصطنعة إلى حد ما)، فإن الروس لم يعيشوا بمثل الرفاهية الحالية، لكنهم، من ناحية أخرى، لم يتحولوا إلى روبوتات في "مجتمع استهلاكي". ولن يلعب انخفاض طفيف في مستوى معيشتهم أي دور. وهناك أيضا المكون الأيديولوجي، فلن يعترض الناس إذا رأوا أن السلطات تنتهج سياسة سليمة ولا تمارس الكثير من الضغوط عليهم، باستثناء إظهار السخط من قبل الأقلية الليبرالية الهستيرية بالطبع.
لذلك ارتفع مستوى التأييد للرئيس الروسي رغم كل شيء بعد بدء العملية الخاصة بمقدار 15 نقطة وظل على هذا المستوى حتى يومنا هذا.

ثالثًا، البلد، بغض النظر عما إذا كان شخص ما يريد هذا أو لا يريده، يدرك هذا أو يفعله بغير وعي، سيتقدم حتمًا نحو الاشتراكية على النمط الصيني، لكنه سيكون فقط أكثر انغلاقًا، واكتفاءً ذاتيًا، وأصالةً، وأقل تركيزًا على التصدير من الاقتصاد الصيني. سيكون هذا ما يسمى بنموذج الحلقتين الذي كتبنا عنه كثيرًا، والذي لن يكون له بديل بعد التدمير الكامل للنموذج الليبرالي:
فوق - اقتصاد مخطط، وأهداف وأرقام محددة بوضوح، صناعة عملاقة، شركات زراعية، وشركات خدمات لوجستية، تكنولوجيا معلومات ثقيلة، وكل هذا ليس لزاما أن يكون ملكية الدولة، الشيء الرئيسي هو أن يعمل وفق خطة واحدة، وهذا في الواقع، مفيد للغاية بالنسبة لـ أصحاب الإنتاج، إذ سيحصلون على تمويل حكومي مضمون، على سبيل المثال، في شكل استثمار في الأصول الثابتة.
وتحت - في القطاع التنافسي، سوق، وحرية مبادرة في ريادة الأعمال، وائتمان ميسور ورخيص، وحرية كاملة لتدفق رأس المال والاستثمارات، بما في ذلك الأجنبية منها. هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان تطور سريع دون خلق عجز سلعي (ندرة في السلع)، وهنا نستحضر تجربة التطوير السوفياتي ما قبل إصلاحات خروتشوف، عندما كانت الأرتيلات والتعاونيات والحرفيون الذين يعملون لحسابهم الخاص يشبعون السوق الاستهلاكية تقريبًا بالأطعمة والسلع المنزلية والخدمات. وإن 45 عامًا من التجربة الصينية لتُظهر أن مثل هذا النموذج فقط يلبي مهمة التنمية الاستباقية الطويلة المدى والخالية من الأزمات بالنسبة للبلدان الكبيرة من نوع الإمبراطوريات.

بطبيعة الحال، المؤسسات غير العاملة، كما في حالة انسحاب المالكين الغربيين من السوق، أو غير الفعالة، كما هو الحال في كثير من الأحيان بسبب همروجة الخصخصة المحلية غير المدروسة، يجب أن تخضع للتأميم وأن تتم إدارتها من خارجها. الآن أصبح الوضع مثاليًا: لم يكن من الممكن أن يتم التأميم قبل 15 أو 10 أو 5 سنوات. سأقول أكثر، حتى قبل عام كان هذا التأميم مستحيلاً، لأننا، على الرغم من كل الكلمات الوطنية السامية حول استبدال الواردات ورفض النموذج الليبرالي، كنا لا نزال كلية في أسار النظام الاقتصادي العالمي، و لم تكن أدمغة معظم المسؤولين الحكوميين ببساطة تهضم وتستوعب أية نماذج أخرى.

لكن الآن، في ظل ظروف الحرب الاقتصادية الشاملة التي أعلنها الغرب علينا، يمكننا القيام بذلك. وقد أصدر رئيس الوزراء ميشوستين تعليمات لوزارة المالية بإجراء عمليات شراء جماعي لأسهم الشركات الروسية بأموال صندوق الرعاية الوطنية. المبلغ الإجمالي يصل إلى 1 تريليون روبل. ويجب اعتبار هذه الخطوة (بالتزامن مع تعليمات بوتين في 10 مارس، وكذلك مع قواعد العملة الجديدة التي استحدثها البنك المركزي) خطوة أولى نحو تأميم كل ما هو غير فعال وغير مربح ومهجور.

بالإضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى ظاهرتين أخريين، ستدفع العقوبات إليهما حتماً: إغلاق فروع الشركات الروسية في الخارج والتي ترتحل إليها الأرباح (وهو ما يحدث بالفعل الآن أمام أعيننا - وهذا أمر كنا نكافح من أجله دون جدوى منذ فترة طويلة)، وإحلال الإنتاج المحلي محل الواردات بالكامل (هذا المسار اجتزناه على مدار السنوات الثماني الماضية بنسبة 20 بالمائة، والآن سنجتاز الثمانين بالمائة المتبقية منه بطريقة متسارعة).

لقد استبعد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون تمامًا إعادة العلاقات مع روسيا بعد الحرب إلى ما كانت عليه قبل عام 2014. لكننا في الوقت الحالي لا نحتاج إلى "علاقات جيدة" مع الغرب، وإلا فسنضطر إلى أخذ رغباته في الحسبان ولو قليلاً.

الآن نحتاج إلى علاقات سيئة مع الغرب من أجل الحل النهائي لمشاكلنا الداخلية، وخاصة الاقتصادية، ويفضل أن لا تكون هناك أية علاقات على الإطلاق باستثناء الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة.

تلخيصا لما أوردت أقول: لدينا اليوم فرصة تاريخية ليس فقط لاستعادة دولتنا إلى حد ما داخل حدودها التاريخية، ودون إعارة الغرب أي اهتمام، ولكن أيضًا لبناء اقتصاد ضخم وسريع التطور ومستقل تمامًا وموجه اجتماعيًا. هناك كل شيء لهذا، وما نحتاجه هنا هو فقط الإرادة والمثابرة والسيطرة على الموقف. وبالطبع انتصار عسكري غير مشروط ولا هوادة فيه.

بقلم نيكولاي سوروكين – جريدة "زافترا" ("غداً") الروسية
ترجمة م.ي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البرازيل.. سنوات الرصاص • فرانس 24 / FRANCE 24


.. قصف إسرائيلي عنيف على -تل السلطان- و-تل الزهور- في رفح




.. هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟.. أندري


.. رفح تستعد لاجتياح إسرائيلي.. -الورقة الأخيرة- ومفترق طرق حرب




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا قصفت مباني عسكرية لحزب الله في عي