الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهضت من الأنقاض: التاريخ الاقتصادي للاشتراكية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية (1)

مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)

2022 / 3 / 17
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


المؤلف: مركز الأبحاث الدولي حول جمهورية ألمانيا الديمقراطية
the International Research Centre DDR (IF DDR)

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

حول مركز الأبحاث الدولية حول جمهورية ألمانيا الديمقراطية IF DDR*

تتميز الظروف الاجتماعية اليوم في جميع أنحاء العالم بالاستغلال الرأسمالي المُكثّف والتبعية الاستعمارية الجديدة المتواصلة والصراعات المُسلحة وآثار الأزمات المُتزايدة، والثروة الهائلة التي تقف في تناقضٍ مع إفقارٍ صارخ. تَظهر الأهداف الأساسية، مثل تأمين الغذاء الكافي للشعوب وإمكانية التمتع بالصحة والسكن والتعليم والثقافة، أقل قابليةً للتحقيق في الوضع الراهن. على العكس من ذلك، تؤدي التبعيات الاقتصادية وانعدام الأمن والمُزاحمة الى تفاقم الظروف الاجتماعية في شمال الكرة الأرضية، والجنوب العالمي على وجه الخصوص. يترافق اشتداد التناقضات مع بروز نضالات مُقاومة تتنامى مما يطرح تساؤلات أساسية حول النظام الاجتماعي الى الواجهة.

في ظل هذا الوضع، نقوم نحن مركز الأبحاث الدولي حول جمهورية ألمانيا الديمقراطية If DDR بدراسة تاريخ هذا البلد، والتغييرات الاجتماعية التي حققها. ونحن نسعى بذلك لإثراء المُناقشات الحالية بالخبرة التاريخية. ان التزام جمهورية ألمانيا الديمقراطية الذي استمر لمدة 40 عاماً بالتقدم والسلام ومُعاداة الفاشية ومُناهضة الاستعمار، والتزامها بالأُممية والاشتراكية، نقول، تُمثّل ثروةً معرفيةً هائلة للحركات التقدمية التي تسعى اليوم لمواجهة التحديات المُنتصبة أمامها.

نحن ندرس ونُقيِّم الظروف الاشتراكية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، والتي كانت في تناقضٍ حاد مع ألمانيا الغربية الرأسمالية. ولهذه الغاية، نقوم بتحليل الجانب الأساسي الحاسم للمُجتمع الألماني الديمقراطي: التنظيم الاقتصادي، نظام الرعاية الصحية، النظام القانوني التشريعي، الزراعة، التعليم وما الى ذلك. يطرح التقييم النقدي لهذا التاريخ منظوراً أعمق للامكانيات والصعوبات الأساسية لشكل التنظيم الاجتماعي-الاقتصادي والسياسي البديل عما هو قائم.

يركز مركز الأبحاث الدولي بشكلٍ خاص على الأُممية وكيف أقامت الدولة والقائمون بالعمل السياسي علاقاتٍ مع الدول الأُخرى ومع الحركات المُعادية للإستعمار. لا يزال تُذكَر في دولٍ عديدة تضامن جمهورية ألمانيا الديمقراطية ودعمها الاقتصادي والسياسي، في أمريكا اللاتينية وافريقيا وآسيا. في الواقع لا يزال مُختصر اسم الدولة DDR يُمثل غالباً نقطة مرجعية ايجابية بين أُناس تلك البلدان، ولهذا نستخدمه في منشوراتنا مُتعددة اللغات.

ان أبحاثنا مدفوعةً بالحاجات المُحددة للحركات الناشئة الاشتراكية والمُعادية للرأسمالية والاستعمار، والتي تبحث اليوم عن بدائل اقتصادية-اجتامعية. نحن نقوم بإنتاج مؤلفاتنا لمصلحتهم بشكلٍ صريحٍ وعلني.

يقوم المركز، المُكوّن من فريقٍ صغيرٍ من الباحثين الشباب في العلوم الانسانية الذين ينتمون الى الشرق والغرب، بتفحّص الوثائق والأدبيات المُتاحة، جنباً الى جنب مع التجارب المُباشرة النابعة من مُقابلات شهودٍ وأُناسٍ عاشوا هناك، من أجل تطوير منشورات علمية مُتاحة على شكل وسائط متنوعة. نحن نعملُ بشكلٍ وثيق مع معهد الدراسات الاجتماعية لمؤتمر تضامن القارات الثلاث، وهو شريك مُهم في ربطنا بالحركات في دول الجنوب.

مُقدمة حول الدراسات التي أطلقها مركز الأبحاث الدولي في دراساته حول جمهورية ألمانيا الديمقراطية

كانت جمهورية ألمانيا الديمقراطية DDR دولةً اشتراكيةً تأسست عام 1949 كرد فعل ديمقراطي مُعادٍ للفاشية، للحرب العالمية الثانية. أعادت توزيع الأراضي، وجعلت مُلكية وسائل الانتاج اجتماعية، وأسست الزراعة على أساس تعاوني. أسست هذه الدولة الاشتراكية نظاماً تعليمياً ورعايةً صحية واجتماعية قائمة على المُساواة، وضمنت حقوقاً مُتساوية بين الرجل والمرأة. أقامت علاقات اقتصادية ودية وثيقة مع الدول الاشتراكية الأُخرى، ودعمت البلدان التي تُناضل من أجل استقلالها في أمريكا اللاتينية وآسيا وافريقيا وأظهرت الكثير من التضامن الأُممي.
كان الهدف المُعلَن لجمهورية ألمانيا الديمقراطية هو إنشاء مُجتمع عادل على أساس مبادئ المُساواة. تطورت البلاد، بناءاً على المُلكية العامة لوسائل الانتاج، الى دولة صناعية قوية وفعّالة تستخدم أرباحها الاقتصادية لصالح مواطنيها وتضمن لهم حياةً مضمونةً اجتماعياً. نجحت جمهورية ألمانيا الديمقراطية، في نهاية المطاف، في تحقيق هدفها الاجتماعي والسياسي الرئيسي: تلبية الاحتاجات المادية والثقافية المُتزايدة لشعبها.

ولكن ما الذي يدعو الى إعادة البحث في مُنجزات ومبادئ وبُنى جمهورية ألمانيا الديمقراطية بعد 30 عاماً من انهيارها؟ ما الذي يُمكن أن نتعلمه من مُمارسات ألمانيا الديمقراطية الاقتصادية البديلة في عالم اليوم، حيث أدى انتصار الرأسمالية الى تفاقم مشاكل اللامساواة والفقر وأدى الى حدوث أزمات مُتكررة؟ كيف تبدو الديمقراطية الاشتراكية حقاً؟ ما هي التناقضات التي نشأت من التطبيق اليومي للإقتصاد المُخطط؟ ما هي الدروس التي يُمكن استخلاصها من الانهيار النهائي لجمهورية ألمانيا الديمقراطية؟
يسعى مركز الأبحاث الدولي حول جمهورية ألمانيا الديمقراطية جنباً الى جنب مع معهد الدراسات الاجتماعية لمؤتمر القارات الثلاث الى تشجيع البحث مُجدداً في تاريخ ومبادئ هذه الدولة. هدفنا هو إعادة تقييم ارث وتجارب هذه الدولة الاشتراكية. لهذا السبب، نحن نستخدم الاختصار الألماني لإسم هذا البلد DDR Deutsche Demokratische Republik على وجه التحديد لأنه غالباً ما يُمثّل استلهاماً ايجابياً في أجزاء كثيرة من العالم وخاصةً بلدان الجنوب.

تستكشف هذه السلسلة التعليمية حول برامج وواقع ألمانيا الديمقراطية جوانب الحياة اليومية، وتطرح حقائقاً حول المُنجزات الاجتماعية للبلاد، وتدرس الأُسس السياسية والاقتصادية لهذا البلد الاشتراكي. نحن نأمل، من خلال تمعننا في التجارب المعيشية للحياة اليومية، والتي تُستثنى عموماً من السردية السائدة بسبب انتصار الرأسمالية وهيمنة اقتصاد السوق، نأمل، في تقديم مُساهمة مفيدة في النقاش الدائر حالياً داخل الحركات التقدمية. لا يزال الملايين من الناس حول العالم يُناضلون من أجل التقدم الذي كان قائماً أصلاً في هذا النظام الاشتراكي، والذي ضاع مع انهياره.
سيضع هذا المنشور الأول من دراسات حول جمهورية ألمانيا الديمقراطية بإيجاز الخطوط العريضة للكيفية التي نشأت منها هذا البلد وظروفه الاقتصادية حتى انهياره.

من أجل فهم نمط الاشتراكية المُحدد في جمهورية ألمانيا الديمقراطية بشكلٍ كامل، يجب أن نُسلّط الضوء على الظروف التاريخية التي نشأت في سياقها. وُلِدَت هذه الجمهورية في أوقات الأزمات في أعقاب حربٍ مُدمرة، حيثُ قُسمَت ألمانيا، وهي بادئة الحرب، الى قسمين. من الضروري أن ندرس علاقة ألمانيا الديمقراطية بألمانيا الغربية، حيث كان هناك تعارض، في سياق الحرب الباردة بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي.
تم تفكيك اقتصاد ألمانيا الديمقراطية بعد اعادة دمج الألمانيتين عام 1990. تم فرض نموذج أولي للعلاج بالصدمة على شرق ألمانيا من خلال تدابير التقشف التي سُرعان ما فُرِضَت على دولٍ أُخرى، وليس فقط الدول الاشتراكية السابقة. في الوقت نفسه، تم تفكيك الشرعية السياسية والحقوقية والأخلاقية لألمانيا الديمقراطية. ان المنشورات في هذه السلسلة ترفض الرواية التي روجها أعداء الاشتراكية القُدامى والجُدد، بأن انهيار جمهورية ألمانيا الديمقراطية يُثبت بأن فشل السياسة والاقتصاد الاشتراكيين حتمي. نحن نأمل، من خلال تصوير حقائق الحياة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية والتأكيد على تجارب مواطني ألمانيا الديمقراطية، أن نُذكّر القارئ بأن بدائل الرأسمالية قد وُجِدت وسوف توجد حقاً.

نهضت من الأنقاض

مع انتصار التحالف المُعادي للهتلرية وهزيمة الفاشية الألمانية في 8 أيار عام 1954، حل توازن دولي جديد. كانت إحدى القوى الأربع المُنتصرة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية هي الاتحاد السوفييتي الذي كان مُجتمعاً اشتراكياً منذ عام 1917. نفّذت الدولة باستمرار قرارات قوى الحُلفاء من أجل انشاء ألمانيا ديمقراطية في منطقة احتلالها.
في أعقاب تفكك التحالف المُعادي للهتلرية وبداية الحرب الباردة بين الكُتل الشرقية والغربية(أ)، ظهرت دولتان ألمانيتان. تأسست ألمانيا الغربية عام 1949، وهي ديمقراطية برلمانية برجوازية تقلّد في مؤسساتها النازيون السابقون مناصب هامة. في نفس العام، كان تأسيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية كدولة مُعادية للفاشية يعني احداث قطيعة تامة مع الماضي الامبريالي في شرق ألمانيا. كان مفهومها حول بديل النظام الاجتماعي مُستوحىً من الاتحاد السوفييتي، لكن كان بناء الدولة الجديدة يقع في أيدي الشيوعيين الألمان الذين تعلموا العديد من الدروس من الحربين العالميتين.
خلال الحرب العالمية الأولى، بدأ الرايخ الألماني المُزدهر اقتصادياً والقوي صناعياً بتقسيم العالم وتأمين الأسواق والمواد الخام لنفسه. كما شارك الرايخ مُمارسات القوى الاستعمارية الأوروبية الأُخرى، واستغلال الشعوب في قارة افريقيا وآسيا واوقيانوسيا، وارتكب اباداتٍ جماعية ضد شعوب الهيريرو Herero والناما Nama في ما يُعرف اليوم بناميبيا.
انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1918 بثورة نوفمبر، عندما قضى العمال والجنود على المَلَكية في ألمانيا. أدى ذلك الى نشوء جمهورية برلمانية وضعت حداً لوجود ألمانيا كقوة استعمارية. على الرغم من الاطاحة بالامبراطور الألماني، بقي الجنرالات. في وقتٍ لاحقٍ فقط، تشكّل حزب العمال الألماني الاشتراكي القومي ورأت النخبة الرجعية للجمهورية غير المُستقرة سياسياً واقتصادياً أن وقتها قد حان. كانت أهداف الحزب مُتوافقة تماماً مع المصالح التوسعية للرأسمالية الاحتكارية الألمانية ومُلّاك الأراضي ذوي النفوذ الهائل والجيش.
تقلّد الحزب الاشتراكي القومي الحُكم بقيادة أدولف هتلر عام 1933. أقام الفاشيون، في غضون 4 أشهر، دكتاتوريةً أسكتت المُعارضين السياسيين الداخليين من خلال حظر الأحزاب السياسية والنقابات العمالية وسجن الشيوعيين والنقابيين. لقد سلبوا حقوق اليهود والغجر وكذلك المثليين وشهود يهوه، ورأوا أنه لا فائدة من الأشخاص ذوي الاعاقة، وبدأوا بقتلهم بشكلٍ منهجي. بدأ هتلر، من خلال برنامج التسلح العسكري الهائل، الاستعداد لحربٍ من شأنها أن تسمح للإمبريالية الألمانية بتحقيق الهيمنة على العالم، والسيطرة على أراضي الشرق "لصالح الأُمة الألمانية" والقضاء على البلاشفة بوصفهم أشباه بشر.
بدأت الحرب العالمية الثانية في أوروبا بهجوم الفيرماخت الألماني على بولندا المُجاورة في 1 أيلول عام 1939 بقيادة الرايخ الألماني وايطاليا واليابان. تم شن هذه الحرب عن طريق التدمير المنهاجي وتصفية السكان المدنيين-عشرين مليون صيني في منشوريا وستة ملايين يهودي في أوروبا، بأكثر الطُرُق وحشية. كان هناك جنود من مستعمرات بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، من بين السبعين مليوناً الذين قُتِلوا خلال الحرب العالمية الثانية. جندت بريطانيا، على وجه التحديد، جنوداً من مُستعمراتها، والذين لا يتم الحديث حول مشاركتهم في محاربة الفاشية، حتى يومنا هذا.
بعد عامين من بداية الحرب، شكلت القوى الكُبرى المكونة من الاتحاد السوفييتي وبريطانيا والولايات المتحدة التحالف المُعادي للهتلرية. ومع ذلك، تحمّل الاتحاد السوفييتي الجزء الأعظم من وطأة الحرب: تركزت ثُلثي القَطَعات العسكرية الفاشية على الجبهة السوفييتية-الألمانية، وهنا خِيضَت المعارك الأكثر حسماً. كان الفيرماخت والقوات الخاصة SS يُنفذون بلا هوادة أوامر تدمير الأراضي المُحتلفة في أوروبا الشرقية. خلّف تكتيك الأرض المحروقة وراءه دماراً على نطاقٍ لا يُمكن تصوره: في الاتحاد السوفييتي وحده تم تسوية أكثر من 70000 قرية وبلدة، و32000 مُنشأة صناعية في الأرض. قُتِلَ أكثر من 26 مليون مواطن سوفييتي أثناء حملة التدمير المُتوحشة هذه.
بعد أن خاضت قوات الجيش الأحمر معركة برلين، أُجبِرَ الفيرماخت على الاستسلام دون قيدٍ أو شرط في 8 أيار عام 1945. وكان هذا ايذاناً بهزيمة ألمانيا النازية وانتهت الحرب العالمية الثانية في الجهة الغربية من العالم. وبالطبع، استمرت الحرب في مناطق أُخرى. بدأت الحرب العالمية الثانية في آسيا في وقتٍ مُبكرٍ من عام 1937، مع حرب اليابان التي شنتها على الصين في منشوريا، ولكنها لم تنتهٍ في عام 1945 بإلقاء الولايات المُتحدة قنابلها الذرية على هيروشيما وناغازاكي.
قدّمت نهاية الحرب في أوروبا الفرصة للبريطانيين والفرنسيين والقوى الاستعمارية الأُخرى للتركيز على سحق حركات التحرر في مستعمراتها. قامت فرنسا بذلك، على سبيل المثال، من خلال المجازر الدموية في الجزائر وحربها ضد فييتنام، التي أعلن هوشي منه استقلالها عام 1945 بعد استسلام القوات اليابانية. لم تواصل الولايات المُتحدة هذه الحرب وحسب، بل استأنفت كذلك قتالها ضد الأنصار الذين حاربوا في الفلبين ضد المُحتلين اليابانيين لمدة ثلاث سنوات بعد انسحاب القوات الأمريكية عام 1942، أي أنهم صاروا يناضلون ضد حُكامهم الاستعماريين القُدامى مرةً أُخرى. ولكن، كانت هناك أيضاً حالاتٍ انسحبت فيها القوى الاستعمارية التي أضعفتها الحرب من مُستعمراتها. الهند مثلاً، نالت استقلالها عام 1947، وفي الصين انتهت الحرب الأهلية عام 1949 بانتصار جيش ماو تسي تونغ الثوري على قوات شيانغ كاي شيك Chiang Kai-shek. حررت قوات التحالف المُعادي للهتلرية مُعظم الأراضي التي احتلها الفيرماخت الفاشي بحلول نيسان عام 1945. بدأ الجيش الأحمر هجومه على عاصمة الرايخ الألماني وانتهت معركة برلين الشرسة بهزيمة عسكرية كاملة لألمانيا النازية.
في ألمانيا، أنشأت القُوى الرئيسية مُتمثلةً في بريطانيا والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وفرنسا أربع مناطق احتلال، عند انتهاء الحرب. قسّمت هذه المناطق ألمانيا، وكذلك العاصمة برلين، التي كانت تقع في منطقة الاحتلال السوفييتي الى مناطق تابعة للقوى المُنتصرة. التقى رؤساء الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا العُظمى في بوتسدام في حُزيران عام 1945 لمنشاقة الاجراءات المطلوب القيام بها بصدد ألمانيا المهزومة ومناقشة مستقبل البلاد. كانت قراراتهم، التي وافقت فرنسا عليها، تهدف الى استئصال الفاشية الألمانية من جذورها الاقتصادية والايديولوجية، والمُحافظة على ألمانيا ككيان واحد، وجعلها منطقة مُحايدة. يُشار الى المبادئ السياسية الأساسية التي وضعها الحلفاء باسم "المبادئ الأربعة" لاتفاقية بوتسدام:
1- سعت اجراءات نزع أو استئصال النازية الى ابعاد جميع النازيين من المناصب الهامة ومُعاقبة مُجرمي الحرب.
2- كانت اجراءات نزع السلاح تهدف الى تدمير صناعة الأسلحة الألمانية بالكامل.
3- سعت اللامركزة، الى تحطيم تمركز السلطة الاقتصادية في يد الشركات الاحتكارية.
4- سعت اجراءات الدَمَقرطة الى اعادة بناء الحياة العامة.
كان الاتحاد السوفييتي يريد أن يضمن أن لا يقوم الألمان بشن حرب أُخرى ضده، لكن منع العدوان الألماني في المُستقبل كان أيضاً في مصلحة الحلفاء الغربيين(ب). كان الاتحاد السوفييتي يُقيّم وضع حلفائه بشكل واقعي، وبالتالي لم يكن يهدُف بعد الى اعادة بناء منطقة احتلاله وفقاً للمبادئ الاشتراكية. كان هدفه انشاء جمهورية مدنية ديمقراطية منزوعة السلاح تعيش في سلامٍ مع جيرانها ولا تُشارك في أي حلف. كان الهدف من ذلك انشاء دولة مُحايدة كمنطقة عازلة لأوروبا الغربية.
في الوقت الذي بدأت منطقة الاحتلال السوفييتي بتطبيق المبادئ الأربعة المذكورة سابقاً، كانت هذه المبادئ تطبّق بشكلٍ جزئي فقط. صارت القرارت المُشتركة التي سبق الاتفاق عليها مصدر ازعاج للغربيين، خاصةً عندما بدأت تؤثر على المُلكية الرأسمالية الخاصة. وهكذا، أصبح تطبيق أو عدم تطبيق اتفاقية بوتسدام خطاً يقطع ألمانيا. في الشرق، تم جعل الشركات الكبيرة مُلكية عامة، وتم تجريد مُجرمي الحرب النازيين من أملاكهم وإدانتهم وطردهم من جميع المؤسسات واستبعادهم من تولي مناصب مُهمة في المُجتمع. في المُقابل، مَنَعَ الغربيون مصادرة المُلكيات، واعتمدوا على النازيين كـ"خبراء" مُتمرسين.
أنهى الرئيس الأمريكي ترومان التحالف الحربي مع الاتحاد السوفييتي بعد عامٍ واحد. أدت الصراعات السياسية والاقتصادية العميقة الجذور التي تلت ذلك الى تفكك التحالف المُعادي للهتلرية وبالتالي انشاء دولتين ألمانيتين. دولة رأسمالية من جهة، ودولة سارت في طريق الاشتراكية من خلال مُصادرة رأس المال الخاص، من جهةٍ أُخرى. أوجَدَت دول أوروبا الغربية فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ عام 1948 ميثاق بروكسل، والذي تم إظهاره بعد ذلك على أنه اتفاقية مُساعدة مُتبادلة ضد أي عدوان ألماني جديد. في عام 1949 ظهرت مُنظمة حلف شمال الاطلسي (الناتو) الى حيز الوجود بعد طلب المساعدة العسكرية من الولايات المتحدة. ضمنت الولايات المُتحدة، مع هذه المستجدات، قُدرتها على العمل في أوروبا ضد التهديد العسكري السوفييتي المزعوم.
دَفَعَت الأحزاب السياسية المُحافظة في الغرب باتجاه اقامة دولة مستقلة تتبع مصالح القطاع الخاص والشركات، ولا يُمكن لهذه الدولة الا أن تكون رأسمالية. أنشأ الحلفاء الغربيون في عام 1948 "منطقة ثُلاثية Trizone" من مناطق احتلالهم وقسّموا المانيا بانشاء العُملة. أدى إدخال عُملة جديدة مُرتبطة بالدولار الأمريكي (المارك الألماني) الى انشاء منطقة اقتصادية قائمة على المبادئ الرأسمالية، التي تم بالطبع، استبعاد منطقة الاحتلال السوفييتي منها. أصبحت "المُنطقة الثُلاثية" دولةً مُنفصلة في غرب ألمانيا في أيار عام 1949 بتأسيس جمهورية ألمانيا الفيدرالية FRG، والتي يُشار اليها أيضاً باسم ألمانيا الغربية.
تعافى اقتصاد ألمانيا الغربية سريعاً من تداعيات الحرب من خلال التراكم الهائل لرأس المال بموجب خطة مارشال الأمريكية (برنامج استثماري لإعادة إعمار أوروبا). لم يمضِ وقت طويل قبل أن تنمو ألمانيا الغربية لتصبح أقوى سوق اقتصادي في القارة. أصبحت ألمانيا الغربية، مع إعادة تسليحها وانشاء جيش تحت قيادة المئات من العسكريين النازيين السابقين، وكذلك دخولها في حلف الناتو العسكري، أصبحت حصناً أوروبياً حامياً للهيمنة الأمريكية. لقد كانت، منذ لحظة ظهورها، واحدة من أهم مراكز العمل في الحرب الباردة ضد الدول الاشتراكية.

بدايات ديمقراطية مُعادية للفاشية في منطقة الاحتلال السوفييتي

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تولّى مجلس سيطرة الحلفاء، المُكوّن من القادة العامين للقوات المُسلحة للقوى الأربع المُنتصرة الحكم في ألمانيا. تم تنفيذ الأوامر والتوجيهات وفقاً لتقدير القائد العام لكل منطقة احتلال. كان لكل سُلطة احتلال حق الفيتو. لم يقم الاتحاد السوفيتي بتصدير النظام السوفييتي الى منطقة احتلاله عندما حرر ألمانيا من الفاشية، بل قام بوضع مهام بناء دولة مُعادية للفاشية في أيدي الشيوعيين الألمان. استهلت الأحزاب والنقابات والتنظيمات الجماهيرية الديمقراطية المُنشأة حديثاً والمُعادية للفاشية، في وقتٍ مُبكرٍ من حُزيران عام 1945 نشاطها بإذنٍ من الادارة العسكرية السوفييتية في ألمانيا. في عام 1943 قام عدد من الشيوعيين الألمان في المنفى السوفييتي بتأسيس "اللجنة الوطنية لألمانيا الحرة" المُعادية للنازية. مع انتهاء الحرب، عادت العديد من مجموعات حملات اللجنات الى ألمانيا للمساعدة في إعادة تنظيم الحياة العامة وانشاء الهيئات الادارية الألمانية وفقاً لمراسيم الادارة العسكرية السوفييتية هناك. تولّى بعض أعضاء اللجنة أدواراً رئيسية في الحزب الشيوعي الألماني KPD.
في نداءهم الى الشعب الألماني من أجل بناء ألمانيا الديمقراطية المُعادية للفاشية في 11 حزيران عام 1945 دعا الحزب الشيوعي الألماني لأن يستلم زمام "مُكافحة الجوع والبطالة والتشرد" وتغيير بُنى المُلكية القديمة، من أجل "حماية العمال من مشاريع الأعمال الجامحة والاستغلالية". من خلال وقوفه الى جانب جميع القوى الديمقراطية، أنشأ الحزب الشيوعي الألماني، جنباً الى جنب مع الأحزاب المتشكلة حديثاً، جبهةً ديمقراطيةً مُعاديةً للفاشية. في عام 1946 اتحد الحزبان العماليان، الشيوعي الألماني والحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني ليُشكلا الحزب الاشتراكي الألماني الموحّد SED، وهو الحزب السياسي القيادي في منطقة الاحتلال السوفييتي، وفيما بعد الحزب القائد لألمانيا الديمقراطية. أدى هذا الى تنحية الانقسام الذي دام عقوداً داخل الطبقة العاملة، والذي قوّض قدرتها على النضال ضد النظام الحاكم القائم. في عام 1945، بدأ الاصلاح الزراعي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، تمت مصادرة أراضي اقطاعيي اليونكرز (نبلاء يمتلكون أراضٍ ذات مساحات شاسعة وذوي سلطة كبيرة في الجيش البروسي الألماني) تم نقل الأراضي التي تزيد مساحتها عن 100 هكتار (1000 دونم)، بالاضافة الى ملكيات جميع النازيين ومُجرمي الحرب الى صندوق أراضي الدولة. تلقّى أكثر من نصف مليون عامل زراعي وأفراد أُعيد توطينهم وفلاحين لا يملكون أرضاً، تلقّوا قطعةً من الأرض.
في خريف عام 1945 تم انشاء الادارة المركزية الألمانية للتعليم الوطني بتوصيةٍ من الادارة العسكرية السوفييتية في ألمانيا. كانت مهمتها انشاء أنظمة تعليمية ومدارس مُعادية للفاشية وعلمانية واشتراكية. تم انشاء نظام مدرسي حكومي شامل يمنح حقوقاً متساوية في التعليم لجميع الأطفال لأول مرة على الإطلاق. تم فصل المعلمين الذين كانوا على صلة بالنازية من مناصبهم، وتم، في فترةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ جداً، تدريب حوالي 40 ألف شاباً لم يلطخهم النظام الفاشي ليصبحوا معلمين جُدد.

تأسيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية

أعلنت ألمانيا الغربية المُنشأة حديثاً أنها الوريث الوحيد للرايخ الألماني والمُمثل الحقيقي لجميع الألمان. وشَمِلَ ذلك المُطالبة بالمناطق الواقعة شرق نهري أودر Oder ونيس Neisse في بولندا الحالية، والتي كانت جُزءاً من الرايخ الألماني. بعد نهاية الحرب، تم وضع هذه المناطق تحت الادارة البولندية ثم تم ترسيم الحدود الجديدة في اتفاقية بوتسدام. ومع ذلك، لم تعترف ألمانيا الغربية بالحدود، بل ظلت مُحافظةً على مطالبها القومية. وفي الوقت نفسه، في شرق ألمانيا، تم نقل المهام الادارية التي كانت السُلطة العسكرية السوفييتية تُنفذها في البداية، الى مجلس الشعب الألماني The German People’s Council الذي تأسس حديثاً. بعد وقتٍ قصير من تأسيس ألمانيا الغربية، اجتمع مجلس الشعب الألماني في منطقة الاحتلال السوفييتي في 7 تشرين الأول عام 1949 وأسس جمهورية ألمانيا الديمقراطية. أعربت الجمهورية الجديدة، في بيانها الأول، عن التزامها بالسلام والتقدم الاجتماعي والصداقة مع الاتحاد السوفييتي وجميع الدول والحركات المُحبة للسلام.

مجلس الشعب الألماني

كان مجلس الشعب الألماني عبارةً عن لجنة سياسية ومُبادرة قام بها الحزب الاشتراكي الألماني الموحّد، تألفت من مُمثلين عن مُختلف الأحزاب والمُنظمات الجماهيرية في منطقة الاحتلال السوفييتي في عام 1947. لقد تم انشاءه على غرار البرلمان، وقامت لجنة خاصة في مجلس الشعب بوضع مسوّدة الدستور. انعقد مجلس الشعب في مؤتمر الشعب في 7 تشرين الأول عام 1949 ووضع لنفسه اسم Volkskammer (البرلمان الشعبي لألمانيا الديمقراطية)، وتم في تشرين الأول عام 1950 أول تصويت. سيظل هذا البرلمان هو أعلى هيئة دستورية في البلاد حتى عام 1990.
حددت الدولة الجديدة لنفسها تعريف دولة العمال والفلاحين، وأن السلطة السياسية كانت تحت سيطرة الطبقة العاملة وحزبها السياسي. كانت الجبهة الوطنية، وهي ائتلاف من الأحزاب والمُنظمات الجماهيرية، تضمن مُشاركة جميع الفئات الاجتماعية في العملية السياسية. مثّلَ أول دستور لألمانيا الديمقراطية انجازات الثورة الديمقراطية المُعادية للفاشية، وأعلن أن الطبقة العاملة ستمارس سُلطة الدولة. يجب، حسب الدستور، ان يتم الغاء الاحتكارات ومُلكية الأرض الخاصة على نطاقٍ واسع، وأنه يجب بناء اقتصاد وطني، وسيحصل جميع المواطنين على الحق في العمل والتعليم، وتتمتع المرأة بحقوق متساوية. أصبح تعزيز السلام والصداقة الدولية المبدأ المُرشد لسياسة الدولة. وَرَدَ في نشيد ألمانيا الديمقراطية الوطني من تأليف الشاعر يوهانس بيكر Johannes R. Becher:
نهضت من الأنقاض
وواجهت المُستقبل
العالم كله يتوق الى السلام
مدي يدكِ لشعوب العالم
ومع ذلك، فقد شكّل انشاء اقتصاد فعّال وقوي تحدياً وجودياً للدولة الناشئة. رَسَمَت خطة خُمسية أولية توقعاتٍ لزيادة انتاجية العمل في المؤسسات المملوكة للدولة، ومضاعفة الانتاج الصناعي وزيادة حجم أملاك الدولة. تم تضمين ما تبقّى من شركات رأسمالية خاصة (عددها 17500) في خطة التطوير الاقتصادية من خلال السياسيات الاقتصادية والمالية والضريبية. ساعدت هذه الخُطة الخُمسية الأولى جمهورية ألمانيا الديمقراطية على التحول الى التخطيط الاقتصادي الاشتراكي طويل الأمد وأرست أُسس تطوير نظام اشتراكي، والذي تبنته في النهاية عام 1952.

انضمت ألمانيا الديمقراطية عام 1950 الى مجلس التعاون الاقتصادي RGW/COMECON الذي تأسس في موسكو في العام السابق. كان المجلس عبارة عن ائتلاف للتعاون الاقتصادي بين الاتحاد السوفييتي ودول الديمقراطية الشعبية مثل بولندا وهنغاريا وبلغاريا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا، وانضمت اليه لاحقاً دول أُخرى، بما في ذلك كوبا وفييتنام. لم تتحدد ظروف هذا المجلس عن طريق الشروط الاقتصادية الرأسمالية، بل من خلال التعاون الاشتراكي. كان الهدف من مجلس التعاون الاقتصادي انشاء منطقة اقتصادية مُشتركة للديمقراطيات الشعبية وتنسيق خُططها الاقتصادية الوطنية. بدأ التعاون الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي والثقافي بين هذه الدول من خلال العديد من الاتفاقيات الثنائية. في نفس السنة، اعترفت جمهورية ألمانيا الديمقراطية بالحدود بين ألمانيا وبولندا على طول نهري أودر ونيس باعتبارها "حدود سلام" مُعترف بها على النحو المنصوص عليه في اتفاقية بوتسدام. اتخذت البلاد، من خلال القيام بذلك، خطوةً مُهمةً نحو التصالح مع أعدائها السابقين، حيث تخلّت عن جميع المُطالبات السابقة للرايخ الثالث بالأراضي الشرقية.
بحلول منتصف الخمسينيات، تم دمج الدولتين الألمانيتين في الكتلتين الشرقية والغربية. أثّر نظام التحالف هذا على اقتصاد وسياسة وجيش كل دولة. أصبحت جمهورية ألمانيا الديمقراطية عام 1955 عضواً في حلف وارسو وهو تحالف عسكري لدول الكتلة الشرقية التي كانت ذات طبيعة دفاعية، وكان هدفه السلام في أوروبا. كانت ألمانيا الديمقراطية شديدة الحساسية لتهديد حربٍ مُحتلمة، خلال سباق التسلّح الذي فرضه الغرب، باعتبارها منطقة عازلة لأوروبا الغربية، تقع في طليعة المواجعة بين الشيوعية والرأسمالية.

اقتصاد جيد، لكن لمن؟

يُقاس النجاح الاقتصادي بشكلٍ عام بالايرادات والأرباح. على الرغم من أن هذه المقاييس كانت مُهمةً بالنسبة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية، الا أنها لم تكن في صميم سياستها الاقتصادية. كان الهدف الانتاجي للبلاد هو تحسين ظروف معيشة وعمل الناس باستمرار، وليس مساعدة الأغناء ومُلاك الأراضي على زيادة أرباحهم. ان حقيقة أن جمهورية ألمانيا الديمقراطية قد أنفقت المليارات على القضايا الاجتماعية مثل الاسكان والاجازات ورعاية الأطفال والرعاية الصحية، هي ببساطة أمر لا يُمكن لاقتصاد نيوليبرالي موجّه بالربح اليوم أن يعقله. يوضح لنا التاريخ الاقتصادي لجمهورية ألمانيا الديمقراطية كيف يبدو الأمر عندما يتم اعطاء الأولوية المالية لاحتياجات الناس.

نقطة انطلاق اقتصاد ألمانيا الديمقراطية بعد عام 1945

في نهاية الحرب، كان أكثر من 25% من المنازل في شرق ألمانيا مُدمراً وغير صالح للسكن بسبب الغارات الجوية التي شنها الحلفاء. كانت الاستفادة من البُنية التحتية، وبالتالي تأمين المواد الخام والمواد الغذائية، محدوداً بشكلٍ كبير بسبب تحطّم الطُرُق والسكك الحديدية والجسور. بالاضافة الى ذلك، انتقلت أصول ضخمة الى ألمانيا الغربية حيث فرّ أصحاب الشركات وكبار موظفي الدولة النازية السابقة الى المناطق الغربية من أجل الهروب من العقوبة أو مُصادرة الأموال.
سُرعان ما أوقفت مناطق الاحتلال الغربي مدفوعات التعويضات الى الاتحاد السوفييتي، في انتهاكٍ لقرارات بوتسدام. كان على الاتحاد السوفييتي أن يأخذ هذه الموارد من منطقة احتلاله باعتباره البلد الأكثر تضرراً. تم تفكيك ألفين واربعمائة شركة من شرق ألمانيا بما في ذلك صناعة السيارات بالكامل تقريباً وأكثر من نصف الصناعات الكهربائية والحديدية، فضلاً عن الصناعات الثقيلة وصناعات البناء، ونقلها الى الاتحاد السوفييتي. من أجل تزويد سكانه في بلده، أخذ الاتحاد السوفييتي أيضاً البضائع التي تم انتاجها في منطقة الاحتلال السوفييتي في ألمانيا والتي كان من المُفترض أن تسد حاجات بعض سكان ألمانيا الديمقراطية. لم تعد ما نسبته 70% من القدرة الصناعية ما قبل الحرب مُتاحةً، ممات يعني أن مستويات المعيشة والانتاجية في الشرق كانت تقريباً نصف ما كانت عليه في الغرب.
في السنوات الثماني الأولى بعد الحرب، تم منع ما يَقرُب من ثُلث انتاج ألمانيا الديمقراطية من المساهمة في اقتصاد البلاد. بالاضافة الى ذلك، صار التفاوت في القدرة الصناعية أكبر مع تقسيم ألمانيا. تم انتاج آلات التنجيم وكذلك المسابك ومصانع الصُلب في غرب ألمانيا قبل الحرب وأثناءها. في الواقع، كانت صناعة المواد الخام بأكلمها، بما في ذلك صناعة الفحم والصلب موجودةً هُناك، مما ترك منطقة الاحتلال السوفييتي، أو جمهورية ألمانيا الديمقراطية مفصولةً تماماً عن كل هذه الموارد. كان هذا الوضع صعب للغاية على المُخططين الاقتصاديين في ألمانيا الديمقراطية، حيث سعوا الى تعويضه من خلال زيادة الانتاجية.
كان من الضروري، ودون أي انقطاع، أن يبذل الناس جهود كبيرة ويعانوا من حرمانٍ كثير من أجل بناء الاقتصاد. أعادت ألمانيا الديمقراطية بناء صناعاتها الثقيلة من الألف الى الياء في وقتٍ قياسي. ونتيجةً لذلك، تراجع انتاج الضروريات اليومية مثل الملابس والمواد الغذائية في البداية. لم يكن بمقدور البلاد أن تتوقف عن تقنين الحُصص الغذائية الا بحلول عام 1958. كانت هذه من بين المصاعب التي سببتها الحرب.
شيئاً فشيئاً، قطعت ألمانيا الغربية التجارة التي تقوم بها مع ألمانيا الديمقراطية، والتي كانت مُهمةً جداً بالنسبة الى الأخيرة. حتى عندما كان هناك بعض الشركات الفردية التي لا تزال قادرة على ممارسة الأعمال التجارية مع جمهورية ألمانيا الديمقراطية، فقد فرضت سلطات ألمانيا الغربية مجموعةً متنوعةً من العقوبات ضدها حيث تم سحب القروض المُقدمة لها أو فرض ضرائب خاصة عليها. ومع ذلك، ركزت مُعظم تكتيكات الضغط المُمارس، على تخريب حُصص التسليم المُتعاقد عليها ووقف عمليات التسليم. كانت هذه الاجراءات بمثابة العصا في دولاب التجارة بين الألمانيتين، وكانت سبباً في تعطيل الامكانية الوحيدة لألمانيا الديمقراطية للحصول على المواد الخام والمعدات الثقيلة التي لم يتمكن رفاقها في أوروبا الشرقية من انتاجها بسبب الصعوبات الاقتصادية التي يُعانون منها. علاوةً على ذلك، كانت الشركات الألمانية الغربية تصنع مُنتجات موصى عليها خصيصاً لتلبية احتياجات ألمانيا الديمقراطية. هذه الشركات فقط كانت قادرة على الانتاج بنفس مستوى السلع وتقديم عروض لشُحنات مُعفاة من الرسوم الجُمركية من المناطق المُجاورة لألمانيا الديمقراطية. لم يكن هناك رسوم جمركية لأن ألمانيا الغربية لم تعترف بألمانيا الديمقراطية كدولة، وبالتالي فهي ليست دولة أجنبية. بهذه الطريقة، عملت سياسة المانيا الغربية بحصر المُنتجات التي ترد الى ألمانيا الديمقراطية، كأداة للابتزاز الاقتصادي.

كانت ألمانيا الديمقراطية، التي يبلغ عدد سكانها 17 مليون نسمة فقط، دولة صغيرة لا يُمكنها المُنافسة في العلوم والتكنولوجيا الا من خلال المُشاركة مع الخبراء على الصعيد الدولي لكن الحرب الباردة وسياسة الحظر منعتها من المُشاركة في مشاريع متخصصة وتعاونية حول العالم. هذا بالضبط ما حدث عندما منعت اللجنة التنسيقية للرقابة متعددة الأطراف على الصادرات CoCom، بقيادة الولايات المتحدة اعتباراً من عام 1949 تصدير التكنولوجيا الغربية الى الكُتلة الشرقية. منع هذا الشرق من الاستفادة من التقدم التكنولوجي العالمي ومن الاستفادة من الخبرات الدولية في مجالات العلوم والبحث والتطوير. كان لا بد لألمانيا الديمقراطية من انفاق موارد هائلة بالاضافة الى تطور علمي وتكنولوجي كبير لسد الثغرات التي خلفتها تدابير الحظر هذه في اقتصاد البلاد.

طوّرت ألمانيا الغربية مبادئ إرشادية في منتصف الخمسينيات من خلال مذهب Hallstein Doctrine من أجل عزل واضعاف ألمانيا الديمقراطية اقتصادياً. كان بموجب هذا المذهب اعتبار كل اعتراف رسمي واقامة علاقات دبلوماسية مع ألمانيا الديمقراطية بأنه "عمل مُعادي". كانت أي دولة تُشكك في الحق الحصري لألمانيا الغربية في التمثيل السيادي لألمانيا بأكملها تتعرض لمجموعة متنوعة من التهديد بالعقوبات الاقتصادية والساسية وبقطع العلاقات الدبلوماسية أصبح مذهب هالشتاين عائقاً كبيراً أمام التجارة: لم تكن جوازات سفر ألمانيا الديمقراطية مُعترف بها، وتم حظر العلاقات الدبلوماسية والسفارات واتفاقيات التجارة والدفع، وتم فرض تقييد على سياسة الترخيص licensing policy.
ان امكانية ألمانيا الغربية غير المُقيدة للحصول على المواد الخام، والأصول التي هربت اليها بعد الحرب، جنباً الى جنب مع رفضها تقديم تعويضات الحرب، قد وفّر للبلاد نقطة انطلاق مُختلفة جوهرياً بعد الحرب. يُمكن مُلاحظة هذه الامتياز البُنيوي من خلال النظر في المواقع الصناعية الحاسمة في الغرب، ومدفوعات التعويضات المُنخفضة بشكلٍ كبير، والقدرة على الحصول على المواد الخام. بالاضافة الى ذلك، ضخت الولايات المتحدة رأس المال في ألمانيا الغربية مما صنع انتعاشاً سريعاً للاقتصاد ووفر ظروف عملٍ أفضل لشعب ألمانيا الغربية. أدّى عدم المساواة هذا أيضاً الى هجرة العديد من الناس من الشرق الى الغرب. 50% ممن الذين غادروا كانوا من الشباب وذوي الكفاءات. غادر ثُلث الأكاديميين جمهورية ألمانيا الديمقراطية في الخمسينيات. كانت هذه خسارة فادحة، حيث قامت الدولة بتمويل تعليمهم. مع بناء الجدار عام 1961 أغلقت قيادة ألمانيا الديمقراطية الطريق عبر برلين الغربية الى ألمانيا الغربية وأوصدت الأبواب أمام المزيد من الهجرة.

الانجازات الاقتصادية لجمهورية ألمانيا الديمقراطية

في الخمسينيات استمرت الثغرات في سلسلة الانتاج التي سببتها الحرب والتعويضات في التأثير على اقتصاد ألمانيا الديمقراطية. أدت العزلة الاقتصادية للبلاد الى خيارات عملية: ان لم يكن هناك امكانية لجلب الحديد من الغرب فلا بد من تعدينه محلياً، بغض النظر عن جودته أو تكلفة انتاجه. ان لم يتوفر الفحم والنفط، فانهم سيستخدمون الشيء الوحيد المُتبقي: الفحم البني. كان الفحم البني، أو الليجينيت lignite هو الوقود الخام الوحيد المتوفر في الشرق بكميات كبيرة. على الرغم من أن استخدامه لم يكن صديقاً للبيئة، الا أنه لم يكن هناك أي بديل بسبب الظروف الخارجية. كانت اقامة صناعات الحديد والصلب والآلات في ألمانيا الديمقراطية كأساس لتطورها الصناعي هي المحور الرئيسي للتنمية في سنوات ألمانيا الديمقراطية الأولى. لذلك، توخّت الخُطة الخُمسية الأولى هدف مُضاعفة الانتاج الصناعي في الأعوام 1951-1955.
نتيجةً لذلك، صارت المصانع الضخمة التي تم بناؤها في جميع أنحاء الجمهورية تجلب الشباب الى مناطق كانت غير مستقرة سابقاً. تم بناء قُرى ومُدن جديدة وأصبحت موطناً لآلاف الأشخاص. غيّرت ألمانيا الديمقراطية، خلال 40 عاماً وجه المنطقة الريفي المُتخلف سابقاً بشكلٍ جذري. تمكنت البلاد، مع الاستقرار التدريجي للاقتصاد من جذب حجم مُتزايد من الاستثمار. زاد هذا الحجم في السنوات ما بين 1950-1960 بأكثر من ثلاثة أضعاف.

كان لدى جمهورية ألمانيا الديمقراطية أيضاً هَدَف طَموح يتمثل في التغلّب على الفروق الاقتصادية والاجتماعية بين المناطق الشمالية والجنوبية والقضاء على التناقضات بين التصنيع الحضري والريفي. كانت درجة التصنيع في الجنوب أعلى منها في الشمال. من أجل تسوية التفاوت بين المناطق الحضرية والريفية، طوّرت ألمانيا الديمقراطية نظاماً زراعياً جديداً، تميّز بالاصلاح الزراعي وجتمعة وسائل الانتاج الزراعية. سُرعان ما بدأت الدولة في تطوير وتوسيع مناطقها المُنتجة للطاقة في المناطق الزراعية التقليدية وبنت مُجمّعات صناعية واسعة النطاق كانت في ذلك الحين من بين أحدث المصانع في أوروبا. كما قامت ببناء محطات توليد طاقة جديدة، بما في ذلك أكبر مصنع لتكرير اليجينيت في أوروبا عام 1955.
غيّرت مراكز الانتاج الحديثة بشكلٍ مُتزايد وجه المناطق التي كانت بالكاد قادرةً في السابق على اطعام سكانها الفقراء. على سبيل المثال، تسارعت وتيرة تطوير الصناعات البحرية والموانئ وأصبحت صناعات الصيد وبناء السفن القوة الدافعة لمنطقة ساحل البلطيق. تم انشاء مصانع مُعالجة الأسماك الكبيرة، وبُنِيَت مُجمّعات لبناء السفن وتوريد المواد اللازمة لها وصيانتها بينما خضعت البضائع المُستوردة للمعالجة الصناعية. وبتأثير من نمو مرافق الموانئ، تعززت التجارة في المنطقة، وتمكنت المناطق الشمالية من اللحاق ببقية البلاد.
على الرغم من ألمانيا الديمقراطية قد انطلقت من ظروفٍ غير مواتية ومن عددٍ من المشاكل البُنيوية، الا أنها حققت متوسط نمو اقتصادي بنسبة 4.5% خلال أربعين عاماً من وجودها. على الرغم من ذلك، كانت لا تزال مُتخلفةً بشكلٍ عام عن ألمانيا الغربية(جـ). في ذلك الوقت، كما هو الحال اليوم، يعزو الغربيون هذا القصور الى فشل الاقتصاد المُخطط. هذا يُديم الاسطورة القائلة بأنه لا يوجد بديل لاقتصاد السوق. ومع ذلك، فإن الأرقام المُتاحة تُجبرنا على إخضاع هذه الرواية للمُسائلة. لم يحدث في أي وقتٍ من الأوقات خلال الأربعين عاماً من وجود ألمانيا الديمقراطية أن واجهت ركوداً أو تراجعاً في النمو الاقتصادي على الرغم من ظروف الانطلاق غير المُتكافئة.
كانت البلاد أيضاً تمتلك قدرةً وامكانات هائلة في (البحث والتطوير). تم توظيف 23 شخص مُقابل كل 1000 عامل صناعي في هذه المجالات، مما وضع جمهورية ألمانيا الديمقراطية على قدم المُساواة مع الدول الصناعية الغربية الأُخرى(د). على الرغم من أن ألمانيا الغربية كانت تُنفق أكثر على البحث، الا أن ألمانيا الديمقراطية كانت قد سجلت 12 ألف براءة اختراع بحلول عام 1988(هـ)- وهو سابع أكبر عدد في جميع أنحاء العالم. ونتيجةً لذلك، تمكنت ألمانيا الديمقراطية من زيادة انتاجها بمقدار 12.3 بحلول عام 1989 ومضاعفة الانتاج المحلي خمس مرات الى 207.9 مليار يورو بمعايير اليوم، مما جعلها واحدة من أكبر 15 دولة صناعية في ذلك الوقت. كان نصف الدخل القومي لألمانيا الديمقراطية من التجارة الخارجية. في عام 1988، قامت بتصدير واستيراد ثلثي بضائعها من والى المنطقة الاقتصادية الاشتراكية والى ما مجموعه سبعين دولة، ومع ألمانيا الغربية باعتبارها أكبر شريك تجاري غربي لها. جعل هذا الحجم الكبير من الصادرات ألمانيا الديمقراطية رقم من أكبر المُصدرين العالميين ورقم 10 في أوروبا. ثبُتَ، من خلال التخطيط الاقتصادي الحازم، أنه يُمكن الحفاظ على توازن الصادرات والواردات طوال 40 عاماً من وجود البلاد.
كان المارك الألماني الشرقي عملةً محليةً غير قابلة للتحويل في التجارة الخارجية أو السفر الدولي. من أجل الحصول على عملة قابلة للتحويل، والتي كانت الدولة بحاجة ماسّة اليها للشراء من السوق العالمية، غالباً ما كانت ألمانيا الديمقراطية تبيع سلعها بأسعار منخفضة جداً أقل من قيمتها الفعلية. أدى هذا الى بروز ترتيب صارت ألمانيا الغربية بموجبه تُزوّد ألمانيا الديمقراطية بكميات كبيرة من المواد الكيميائية والمواد الخام الأُخرى (الفحم، فحم الكوك، النفط الخام) ثم تشتري المُنتجات المُكررة (بنزين المُحركات، الديزل، البلاستيك) بثمنٍ قليل. كانت ألمانيا الديمقراطية تتأثر بيئياً بسبب عمليات التكرير هذه.

من أجل تحسين وضع الصرف التبادلي الأجنبي، تم تكليف عدد من الشركات المملوكة للدولة في ألمانيا الديمقراطية منذ السبعينيات فصاعداً لتصنيع مُنتجات الشركات الغربية بموجب مُخطط انتاج مُصرّح به، جُزئياً باستخدام المواد الخام التي يوفرها الغرب. سَمَحَ ذلك للشركات الغربية أن تستفيد من الأُجور المُنخفضة نسبياً في ألمانيا الديمقراطية، على الرغم من أنه من غير المُجدي مُقارنة الأُجور في الشرق والغرب دون مُراعاة عوامل مثل "الراتب الثاني" الذي كانت ألمانيا الديمقراطية تصرفه في شكل دعم أسعار الايجار والمواد الغذائية الأساسية وكذلك الخدمات الاجتماعية المجانية.
استخدمت ألمانيا الديمقراطية الأموال من مُنتجاتها المُصدّرة لدفع ثمن استيراد المواد الخام الأساسية وكذلك لبناء المرافق الحديثة اللازمة لبناء اقتصادها. لقد شيّدت بعض هذه المرافق بمساعدة الشركاء التجاريين الرأسماليين، على الرغم من أن هؤلاء الشركاء لم يتلقوا حصة مالية في المرافق المُشيّدة كما جرت العادة مع تصدير الرأسمال. مَنَعَ هذا رأس المال الأجنبي من اتخاذ موطئ قدم له في ألمانيا الديمقراطية.

أُممية ألمانيا الديمقراطية

حتى مع تنامي سُمعة جمهورية ألمانيا الديمقراطية كشريق اقتصادي موثوق به وعادل في جميع أنحاء العالم، ظلّت محرومةً من الاعتراف القانوني الدولي خارج الكُتلة الاشتراكية حتى أوائل السبعينيات. ان دعم ألمانيا الديمقراطية لحركات التحرر المُعادية للاستعمار-أي الحركات الوطنية المُضادة للتبعية ما بعد الاستعمارية والتدخل الامبريالي في المستعمرات السابقة- كفل تعاطفاً مُتزايداً في البلدان النامية معها، حيث صنعت ألمانيا الديمقراطية لنفسها إسماً كبطلة في الكفاح ضد الاستعمار والاستعمار الجديد. كانت السياسة الخارجية الغربية مُتخلفة: تم الحفاظ على المُستعمرات بيدٍ من حديد، وتم الحفاظ على أنظمة الأبارتهايد ودعم فاشيات سالازار في البرتغال واسبانيا فرانكو حتى السبعينيات، وكانت هناك مُحاولات مُستمرة لإقامة الأنظمة الدكتاتورية والأنظمة الدُمى في المُستعمرات السابقة والأراضي التابعة، وإقامة الأنظمة العميلة كما في "فييتنام الجنوبية" بطريق المذابح الجماعية. لقد ضمنت الدول الغربية انتصاراتها المؤقتة والدموية بطرق لا علاقة لها بالديمقراطية والحرية وحقوق الانسان-حتى وفق معاييرها الخاصة بها.
في المقابل، دعمت ألمانيا الديمقراطية عدداً من حركات التحرر، وكان من بينها جيش الشعب الفييتنامي أثناء حرب فييتنام، جبهة التحرير الوطني الساندينية FSLN في نيكاراغوا، جبهة التحرير الموزمبيقية FRELIMO، واتحاد الشعب الزيمبابوي الافريقي، حزب الاستقلال الافريقي لغينيا والرأس الأخضر PAIGC، الحركة الشعبية لتحرير أنغولا MPLA. في الوقت الذي كان الغرب فيه يشوه صورة نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الافريقي ANC بوصفهم ارهابيين و"عنصريين" ويُمارس البزنس مع نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا-حتى أنه كان يؤمن له شحنات الأسلحة، دعمت ألمانيا الديمقراطية حزب المؤتمر الوطني الافريقي وزوّدت مُقاتليه بتدريباتٍ عسكرية وطبعت منشوراتهم ورعت جرحاهم. بعد أن أنطلق الطلاب السود في بلدة سويتو في انتفاضة ضد نظام الفصل العنصري في 16 حُزيران عام 1976 بدأت ألمانيا الديمقراطية بالاحتفال بيوم سويتو Soweto Day كدليل على التضامن مع نضال الشعب في جنوب افريقيا. دعمت ألمانيا الديمقراطية، في المُستعمرة الألمانية السابقة ناميبيا، دعمت النضال من أجل الاستقلال واستقبلت عدة مئات من الأطفال حتى يمكنهم أن يحصلوا على التعليم وأن يكبروا بأمانٍ وسلام. عندما تم حلّ جمهورية ألمانيا الديمقراطية في نهاية المطاف، قامت ألمانيا المُوحّدة بترحيل هؤلاء الشباب تاركين لهم أمر تدبير أنفسهم بأنفسهم.

لم يكن الموقف الأُممي لألمانيا الديمقراطية والتزامها بالتضامن مُجرّد مسألة تتعلق بالسياسة الخارجية أو مُجرّد أعمال مجموعات مُجتمع مدني، بل كانت ظاهرة جماهيرية واسعة الانتشار في جميع أنحاء المُجتمع وكانت مُتجذرة بعمق في الحياة اليومية. انعكست الصداقة بين الأُمم في الجداريات الضخمة ذات التصاميم الفنية وكذلك في الرسائل والطوابع. تم جمع التبرعات من المواطنين مركزياً من خلال لجنة التضامن في ألمانيا الديمقراطية والتي تلقت ما مجموعه 3.7 مليار مارك ألماني شرقي بين عامي 1961-1989. تم تنظيم جميع التبرعات بشكلٍ أساسي من خلال المُنظمات الجماهيرية مثل اتحاد النقابات الألمانية الحرة حيث ساهم العمل في مجموعة كبيرة من أعمال التضامن. كان شراء الطوابع التضامنية، والعمل الزائد عن الهدف المنصوب، والتبرع بالأجر الاضافي لصندوق التضامن هي غيضٌ من فيض.
كان أبطال حركات التحرر في جنوب الكرة الأرضية معروفين جيداً لمواطني ألمانيا الديمقراطية حتى مع استمرار الغرب في تصويرهم كمجرمين ومتسولين جاهلين لن يكون لهم أي مستقبل بدون مساعدة الغرب. كانت معروفةً أسماء ومصائر أشخاص مثل باتريس لومامبا وكوامي نكروما وأحمد سيكو Ahmed Sékou وجوليوس نيريري Julius Nyerere واوغستينو نيتو Agostinho Neto وسامورا ماشيل Samora Machel ونيلسون مانديلا. حتى أن التضامن امتد الى داخل عش الدبابير نفسه. عندما حوكِمَت انجيلا ديفيس كإرهابية في الولايات المُتحدة قدّم لها مُراسل ألمانيا الديمقراطية الزهور في يوم المرأة. في استعراض أكبر للتضامن، قاد طلاب جمهورية ألمانيا الديمقراطية حملة المليون وردة لأنجيلا ديفيس، والتي قاموا خلالها بإرسال شاحنات مُحملة بالبطاقات المرسومة يدوياً اليها في السجن. استعجب القاضي كيف كان كل طفل في ألمانيا الديمقراطية يعرف من تكون انجيلا ديفيس.

على الرغم من أنهم غير معروفين، الا أن هناك عدد كبير من مواطني ألمانيا الديمقراطية-الشباب والعلماء والعملاال-الذين شاركوا في مشاريع التضامن في جميع أنحاء العالم. تم نشر ستين فرقة من فِرَق الصداقة من منظمة الشباب الألماني الأحرار FJD في 27 دولة من أجل تبادل المعارف والمساعدة في البناء وخلق فرص التدريب وتحسين ظروف الاكتفاء الذاتي الاقتصادي بين عامي 1964-1988. لا يزال عدد من هذه المشاريع قائماً حتى اليوم، على الرغم من أن بعضها قد تغير اسمها، مثل مستشفى كارل ماركس في ماناغولا (نيكاراغوا)، مستشفى الصداقة الألمانية الفييتنامية (هانوي، فييتنام)، مصنع كارل ماركس للاسمنت (سيينفويغوس، كوبا).
في الوقت نفسه، جاء العديد من الشباب من جميع أنحاء العالم الى ألمانيا الديمقراطية للدراسة. كان من أول الطلاب الأجانب 11 شاباً نيجيرياً حضروا المؤتمر العالمي للشباب والطلاب في برلين الشرقية عام 1951. عندما رفضت حكومة الاستعمار البريطانية عودتهم الى بلادهم، عُرِضَ عليهم الدراسة في جامعة لايبزغ. تطوّر الفصل التحضيري الذي تعلموا خلاله اللغة الألمانية، الى معهد سُمّيَ معهد هيردر Herder Institute، حيث صار مكاناً يدرس فيه الطلاب الأجانب دورة لغة مدتها سنة واحدة للتحضير من أجل دراستهم. هذا المعهد الذي أرسل مُحاضرين الى جامعات أجنبية عدة، قد تخرّج منه أكثر من 22 ألف طالب قدموا من 134 دولة.
انعكس الاهتمام الخاص الذي أوليَ للدول الافريقية والحركات الافريقية المُناهضة للاستعمار في ازدياد عدد الطلاب من هناك بشكلٍ عام. أكمل أكثر من 50 ألف طالب أجنبي تعليمهم بنجاح في جامعات وكُليات ألمانيا الديمقراطية. تم تمويل الدراسة من ميزانية الدولة. لم تكن هناك رسوم دراسية كقاعدة عامة، وحصل عدد كبير من الطلاب الأجانب على مِنَح دراسية وتم توفير تكاليف اقامتهم مباني سكن الطلاب. كما رحبت جمهورية ألمانيا الديمقراطية بالأطفال مثل الأطفال الناميبيين الذين تم انقاذهم من مخاطر حرب الاستقلال، وتم العزم على تخصيص مدرسة الصداقة Schule der Freundschaft في أواخر السبعينيات لتوفير التعليم والتدريب المهني لـ899 طفلاً وشاباً موزمبيقياً بدءاً من الثمانينيات.
بالاضافة الى الطلاب، جاء العديد من العمال غير المهرة-العمال المتعاقدين- الى جمهورية ألمانيا الديمقراطية من الدول الحليفة بحثاً عن تدريب وظيفي والعمل في الانتاج. أدت اتفاقية تعليم وتوظيف العمال الأجانب الى جلب العمال من موزمبيق وفييتنام وأنغولا وبولندا وهنغاريا. تم انهاء هذه العقود بعد حل جمهورية المانيا الديمقراطية، مما كان يعني أن معظم هؤلاء العمال فقدوا تصاريح اقامتهم ولم يتلقوا رواتب أو أي تعويض. على الرغم من أن المانيا الغربية قد دعمت في السابق هجرة العمل المؤقتة، الا أن عناوين الصحف في أوروبا الغربية أعلنت في نهاية الثمانينيات عن "امتلاء القارب"، حيث تمتعت الأحزاب اليمينية في تلك الفترة بنجاحٍ مُتزايد، وبمجرد دمج ألمانيا الديمقراطية، استعدت ألمانيا الغربية لإلغاء الهجرة.
حتى النهاية، عملت المانيا الديمقراطية على تعميق التزامها بالأُممية. ارتفع عدد العمال الأجانب المتعاقدين من 24 ألف عام 1981 الى 94 ألف في عام 1989. في نفس العام، أشارت الصين الى أنها تريد زيادة عدد عمالها المتعاقدين بشكلٍ كبير في المستقبل. كان من المُمكن لهاذا أن يكون مناسباً جداً لألمانيا الديمقراطية، التي، على عكس الغرب، لم يكن لديها قوة عاملة كبيرة بما يكفي. وبالمثل، شددت الصين، الى جانب الدول الاشتراكية الأُخرى، على أنه يُمكنها الاستفادة من اقتصاد ألمانيا الديمقراطية المتنامي. في نفس العام، حصل جميع الأجانب في جمهورية ألمانيا الديمقراطية على حق التصويت الكامل وبدأوا بتسمية المُرشحين بأنفسهم. هذا الحق غير موجود للمواطنين غير الألمان في ألمانيا المُعاصرة. مثال حيّ آخر على التعاون الأُممي بين الدول الاشتراكية، هو العلاقة بين ألمانيا الديمقراطية وفييتنام. استثمرت ألمانيا بكثافة في زراعة البن في فييتنام من خلال تمويل موارد زراعتها وتقديم الخبرات وتطوير البُنى التقنية والاجتماعية التي لا يزال بعضها موجوداً حتى اليوم. واحدة من نتاجات هذا التعاون أن صارت فييتنام ثاني أكبر مُنتج للبن في العالم.
على عكس العلاقات التجارية بين الدول الرأسمالية، لم تكن ألمانيا الديمقراطية تشتري حصة من مشروع ما في دولةٍ ما. المبدأ الذي طبقته هو أنها لم تضع خطوط عامة جامدة، بل كان شكل التعاون مع الدول الشريكة يعتمد على الاحتياجات الاقتصادية لكلٍ منهما. كان هذا تنظيماً اقتصادياً يهدُف الى التعاون وتعزيز السيادة بدلاً من المنافسة والتبعية.
كان هذا النوع من التعاون التضامني على نقيضٍ تام من مساعدات التنمية الغربية، والتي استفادت الدول الأكثر ثراءاً منها للحفاظ على مركز سلطتها وفرض مبيعات صناعاتها الخاصة على حساب تنمية الدول الأُخرى. بما أن أفعال الغرب الايثارية المزعومة مدفوعة بالتلهف الى الأرباح وليس بالتضامن، فإن هذا الايثار المزعوم يميل الى أن يكون امبريالياً من حيث أنه يضع شروطاً للمساعدة تحت رعاية رأسمالية تستفيد منها الشركات. في المقابل، عملت جمهورية ألمانيا جنباً الى جنب مع حلفاءها الاشتراكيين، على قدم المساواة وحسب الحاجة. دعمت ألمانيا الديمقراطية، والدول الاشتراكية الأُخرى، في البلدان التي قدمت فيها المساعدة، دعمت انشاء اقتصاد يعتمد على الذات من خلال بناء الصناعات والبُنية التحتية المحلية وفقاً لاحتياجات البلد المعني.

اكتسب هذا الموقف اعترافاً سياسياً دولياً. كانت جمهورية تنجانيقا وزنجبار(تنزانيا لاحقاً) هي أول دولة خارج كتلة الدول الاشتراكية اعترفت دبلوماسياً بألمانيا الشرقية عام 1964. لذلك أرسلت ألمانيا الديمقراطية سفناً مُحملة بمواد البناء بالاضافة الى المهندسين وعمال البناء الى الجمهورية. أقام هؤلاء العمال منطقتين اسكانيتين كبيرتين على أرخبيل زنجبار والتي تؤمن حتى اليوم مساكن لحوالي 20 ألف شخص. أدى هذا الى انفراج في الاعتراف الدولي في جميع أنحاء العالم الجنوبي. في عام 1969 أقام السودان والعراق ومصر علاقاتٍ دبلوماسية مع ألمانيا الديمقراطية، وحذت جمهورية افريقيا الوسطى والصومال والجزائر وسيريلانكا وغينيا حذوها في عام 1979.
تخلّت الحكومة الائتلافية المُكونة من الديمقراطيين الاشتراكيين والحزب الليبرالي عن مبدأ هالشتاين عام 1969 وتسامحت مع الاعتراف القانوني بجمهورية ألمانيا الديمقراطية، تحت ضغط موجة الاعتراف الدولي بها. ولكن في ألمانيا الغربية، تم الابقاء على موضوعة أن كل مواطن في ألمانيا الديمقراطية هو مواطنها حتى النهاية المريرة. بين عامي 1972 و1974 عندما بدأت الدول الغربية لاقامة علاقات دبلوماسية مع ما أشارت اليه باسم "الدولة الألمانية الثانية" كانت ألمانيا الديمقراطية قد حققت ما كانت تناضل من أجله طوال العشرين عاماً الماضية: الاعتراف الدولي.
في حُزيران عام 1973 تم قبول كُل من ألمانيا الغربية وألمانيا الديمقراطية في الأُمم المتحدة، حيث شنت الأخيرة حملةً شديدة ضد الأسلحة النووية ودعت الى السلام الدولي ونزع السلاح، ولعبت دوراً حاسماً في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، من بين اتفاقيات ومبادرات أُخرى.

أنتِج أكثر، ووزع بعدل، وعِش حياةً جيدة

استندت الخطة الاشتراكية لألمانيا الديمقراطية على وجهة النظر الماركسية القائلة بأنه لا يُمكن انشاء مُجتمع عادل الا من خلال استخدام وسائل الانتاج ذات المُلكية العامة. كان للمُلكية الاشتراكية ثلاثة أشكال مُمكنة: المُلكية العامة التي يملكها المُجتمع بأسره، والمُلكية المُشتركة المملوكة للتعاونيات، والمُلكية التي تمتلكها المنظمات الاجتماعية. نَصّ الدستور على أن تشغيل المؤسسات التجارية الخاصة، والتي استمرت في الوجود بحدها الأدنى، يجب أن يُلبّي الاحتياجات الاجتماعية ويعمل على زيادة الثروة الاجتماعية ورفاه الشعب" بالاضافة الى ذلك، لم يُسمَح بـ"شركات الأعمال خاصة" التي تُنشئ من أجل اقامة السلطة الاقتصادية. تم تطبيق هذه المبادئ الدستورية بصرامة. وبحلول عام 1989 ارتفعت نسبة المُلكية العامة في الصناعة والتجارة الى 98%.

كان نهج جمهورية ألمانيا الديمقراطية في الادارة الاقتصادية مرتبط بشكلٍ وثيق بمسألة المُلكية. كانت العمليات الاقتصادية، في الاقتصاد الاشتراكي المُخطط، محكومةً بشكلٍ مركزي من قِبَل الدولة والحزب الحاكم. تم تكليف الشركات بمهام مُحددة مُجدولة فيما يتعلق بكمية مُنتجاتها وبُنيتها وتوزيعها، كما يتم تخصيص الأموال اللازمة للاستثمار والقوى العاملة والمواد. تمت جدولة الأهداف الاقتصادية الوطنية في الخُطط المُستقبلية في الغالب على مدى فترة 5 سنوات، كما يتم كذلك تخطيط تطور القدرة الاقتصادية اللازمة. تماشياً مع مبدأ المركزية الديمقراطية، يتم تسليم خطة السلطات أولاً الى المُجمّعات (Kombinates)(1) والمزارع، ثم يتم اتخاذ القرارات بناءاً ما تقوم هذه الوحدات بتزويد السلطات به من ملاحظات وتعديلات.

كانت هيئات التخطيط تُحدد أسعار جميع السلع والخدمات بحيث تكون الأسعار موحّدة في جميع أنحاء البلاد. وبالمثل، تم التخطيط لتدريب العمال المَهَرة وكوادر الجامعات بشكلٍ مركزي وتنفيذها وفقاً للمتطلبات الاقتصادية والمناطق المُراد تزويدها بالعمال. استندت ألمانيا الديمقراطية الى مبدأ أن العمالة الكاملة الدائمة هي أفضل سياسة اجتماعية وحق من حقوق الانسان. لذلك كان الحق في العمل لا غنى عنه في المُجتمع الاشتراكي وتم تدوينه في الدستور: "لكل مواطن في ألمانيا الديمقراطية الحق في العمل واختياره بُحرّية وفقاً لاحتياجات المُجتمع ومؤهلاته الشخصية".
كان الهدف المُعلَن، والذي تم تدوينه بشكلٍ أكبر في العديد من الأحكام القانونية ومفاهيم السياسة الاقتصادية هو تنظيم العمل بحيث يُشارك الجميع في العمل وفقاً لقدراتهم ويحصلون على نصيبهم الفردي من الناتج المحلي وفقاً لأدائهم. كفل مبدأ الأداء الاشتراكي هذا أن مُساهمات الأفراد في المُجتمع تُحدد درجة اقرار المُجتمع بعملهم. وهكذا، كان في ألمانيا الديمقراطية مبدأ الجدارة: "من كُلٍ حسب قدرته، الى كُلٍ حسب مُساهمته" وهو تعديل لما قاله ماركس "من كُلٍ حسب قدرته، الى كُلٍ حسب حاجته" والتي قالها ماركس لأول مرة في نقده لبرنامج غوتا عام 1874. كانت المُباراة الاشتراكية أداة عمل مُهمة، حيث تم اطلاقها في عام 1947 في عددٍ من المصانع المملوكة للدولة في منطقة الاحتلال السوفييتي تحت شعار " أنتِج أكثر، ووزع بعدل، وعِش حياةً جيدة"، وبهذا الشعار التزم أعضاء مجموعات العمال بزيادة الانتاجية من أجل تنفيذ الخطة أو تجاوز هدفها.
في قانون العمل، تم تثبيت حقوق وواجبات العمال، مثل اتخاذ القرارات المشتركة في الأعمال، والمشاركة في ضبط ظروف العمل واحترام كرامة الطبقة العاملة، الذي يُرجّح أنه الأول من نوعه في العالم.
يتم توقيع الاتفاقيات الجماعية سنوياً بين الادارة والعمال، والتي كانت تُلبّي احتياجات الخطة وتحسين ظروف العمل والمعيشة للعمال. كان 98% من العمال أعضاءاً في اتحاد النقابات العمالية الألمانية الحرة. تم الاتفاق على ترتيبات ملموسة بين القيادة النقابية للشركة وادارة المصانع من أجل ضمان صحة ورفاه العمال وتحسين ظروف العمل وتطوير الأنشطة الفكرية والثقافية والرياضية وتطوير تدريبهم ومواصلة تعليمهم. كما تم ايلاء اهتمام خاص لتحسين ظروف عمل النساء وتنمية النشاطات الثقافية والرياضية ومواصلة تعليمهن. يتم تنفيذ الخطة ثم مراجعتها في الاجتماعات العامة التي تعقدها ادارة المصنع ولجنة المُحاسبة النقابية. كانت الاتفاقيات الجماعية تضمن مشاركة العمال في التخطيط وادارة المصنع.
كان مواطنو جمهورية ألمانيا الديمقراطية يحظون بمستوى ضمان اجتماعي مرتفع. تم ضمان مصدر عمل ومكان سكن للجميع. أنفقت الدولة مليارات الماركات على شكل دعم للايجارات السكنية والمواد الغذائية الأساسية، في حين كانت الايجارات المنخفضة وأسعار السلع الاستهلاكية والكهرباء والمياه والنقل المُنخفضة تؤمن حياةً معيشةً يوميةً مُريحة. في بداية السبعينيات، تم اطلاق برنامج بناء المساكن في مُحاولة كبيرة لحل مسألة عدم كفاية الاسكان. في حين كان مبدأ "شقق للجميع" حتى ذلك الوقت، صار الهدف الآن "لكُلٍ شقته الخاصة". ومع ذلك، فإن التركيز على بناء وحدات سكنية جديدة ومعقدة، وكذلك انشاء البُنى التحتية الاجتماعية والتي تتمضن المدارس ورياض الأطفال والمرافق الرياضية والعيادات الشاملة والمتاجر والمطاعم ودور السينماـ قد قلل من الامكانات اللازمة للتجديد الضروري لأحياء المُدن القديمة. ولكن، أُعيد بناء أكثر من مليون مسكن وتم تشييد مليوني منزل جديد. كان نصف مواطني جمهورية ألمانيا الديمقراطية قادرين على الانتقال الى منزل جديد في السنوات العشر الأخيرة للجمهورية.
كان التعليم والرعاية الصحية مجانيين، وكانت مجموعة واسعة من الأنشطة التعليمية والثقافية والترفيهية مُتاحة للجميع. كما تصدرت ألمانيا الديمقراطية العالم من حيث عدد النساء في القوى العاملة: كان 92% من النساء موظفات وحوالي 50% من طلاب الجامعات من النساء عام 1989. كان من المُمكن للأمهات العاملات أن يكنّ لهن مهنة واسرة من خلال تدابير اجتماعية وسياسية خاصة مثل سنة الأمومة ويوم الأُسرة (اجازة مدفوعة الأجر للمرأة) وبرامج دراسية خاصة للنساء، ومساعدة الدولة للأُمهات الجُدد، ورعاية الطفل الشاملة، وخدمات تعليم الأطفال. كانت ألمانيا الديمقراطية أيضاً دولة تعتني بالأطفال عناية هائلة. كان رياض الأطفال ومراكز الرعاية والوجبات المدرسية والمخيمات الصيفية والأنشطة الرياضية مجانية وفي متناول الجميع.

كان جزء كبير من القدرة الاقتصادية والعمالية والاستثمارية للبلد يُنفَق على هذه المزايا الاجتماعية، ولكن كان هذا يعني أيضاً أن المُجتمع لم يعد مُنقسماً وفقاً لمقدار المُلكية التي يمتلكها الفرد، وكان يعني تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء. كانت ألمانيا الديمقراطية مُجتمعاً عادلاً قائماً على التضامن. حسب تعبير الكاتبة دانييلا دان Daniela Dahn من ألمانيا الديمقراطية، كان مُجتمعاً "العمل الجماعي فيه مهم أكثر من المُمتلكات". لم يكن هناك أحياء للأثرياء. بدلاً من ذلك، كان الجميع يتواجدون في نفس المكان. لم يكن هناك مدارس نخبوية، فقط تعليم مجاني للجميع ودعم للأطفال الموهوبين. كانت هناك حياة ثقافية غنية في متناول الجميع. لم يُترَك أحدٌ ليتدبر شؤونه بنفسه. كان التشرد والبطالة مُنعدمان فعلياً. ان هذه الجوانب من الاشتراكية في ألمانيا الديمقراطية بالتحديد هي التي سيتم دراستها في الاصدارات اللاحقة من هذه السلسلة.

التناقضات في مُمارسة الاقتصاد المُخطط

"ان كنت ترغب في انشاء نظام اجتماعي أفضل، يجب أن تتعلم هذا الدرس: انه يعمل فقط ان استفاد منه غالبية الشعب. يجب أن نعرف أن ظروف العمل الجيدة والوضع الاجتماعي الجيد سُرعان ما يتم أخذها كأمر مُسلّم به. يستسلم الناس لإغراء المُلكية والاستهلاك اذا اعتقدوا أن نظاماً آخر يُمكنه أن يوفر لهم شيئاً أفضل... كان هدف النظام الاجتماعي في ألمانيا الديمقراطية هو تلبية حاجات شعبها الثقافية والمادية المُتزايدة باستمرار. كان من المُفترض أن يتحقق هذا الهدف من خلال زيادة الانتاجية بشكلٍ حاد. لو تجاوزت الاشتراكية الرأسمالية في الانتاج لكانت الاشتراكية هي المُنتصر... تم تشجيع الشعب على انجاز هذه المهمة في التسعينيات. لكنه كان هدفاً مُضلل وغير واقعي. غير واقعي لأن دولة رأسمالية متطورة تستغل البشر والطبيعة مثل ألمانيا الغربية لا يُمكن تجاوزها في الانتاجية والكفاءة. وهو مُضلل، لأنه في المُجتمع الاشتراكي لا ينبغي أن يكون الاستهلاك هو الهدف الرئيسي للحياة. لم تتمكن قيادات الدول الاشتراكية في أوروبا من فهم ذلك، وبالتالي لم تتمكن من نقلها الى شعوبهم. أدرك الناس أن هذا كان وعداً زائفاً ولم يعودوا مستعدين لتحمل الوهم. أرادوا أن يُؤخذوا على محمل الجد ونزلوا الى الشوارع تحت شعار "نحن الشعب".

كلاوس بليسينغ، خبير اقتصادي ورئيس قسم الهندسة الميكانيكية والتعدين في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الألماني الموحّد.

أنتج عالم السِلَع اللامحدود الغربي وثقافته احتياجات جديدة، خاصةً بين شباب ألمانيا الديمقراطية ، والتي كانت تُعتَبَر "غير اشتراكية" بسبب ارتباطها بالرأسمالية. لم تستطع الخُطط الاقتصادية مواكبة تطلعات الكثير من المواطنين الذي يعرفون بشأن مستويات الاستهلاك الغربية، مما أدى الى احباطهم. تكثّف الاحباط عام 1974 عندما تمكن مواطنو ألمانيا الديمقراطية الذين يمتلكون عملات قابلة للتحويل-على سبيل المثال، من خلال حصولهم عليها كهدايا من الأقارب في ألمانيا الغربية أو حتى من خلال مدخولاتهم نتيجةً نشاطاتهم الخارجية-من شراء سِلَع غربية مستوردة في متاجر خاصة تُسمى Intershops. من جانب القيادة السياسية، لم يتم اثبات توقّع أن المُنجزات السياسية-الاجتماعية للدولة ستزيد بشكلٍ مُباشر من رغبة الشعب العامل في الأداء، وبالتالي زيادة انتاجية العمل. أدى الانفاق على الاعانات ودعم الدولة للقطاعات الاجتماعية الى تآكل الناتج الاقتصادي دون تحفيز الانتاج بنفس القدر، بينما دفعت المُنافسة مع جيرانها الغربيين بشكلٍ مُتكرر ألمانيا الديمقراطية الى اتخاذ تدابير اجتماعية لا تستطيع تحملها.

بهدف تقديم رؤية أكثر يومية للعلاقة بين أداء عمل الأفراد ووضعهم الاقتصادي-الاجتماعي، بدأت عملية التحديث الاقتصادي في الستينيات. تم تصميم نظام اقتصادي جديد للادارة والتخطيط، والذي جعل الشركات من خلال الأرباح والمكافئات أكثر توجهاً نحو الأداء وأكثر مسؤولية. ولكن هذا المفهوم في ألمانيا الديمقراطية لم يجد أي صدى في أيٍ من الدول الاشتراكية الصديقة الأُخرى. كان لا يزال هناك نقص في التنسيق بخصوص التطور العلمي التكنولوجي بين أعضاء مجلس التعاون الاقتصادي.
كان من المُسلّم به أنه سيتم انتاج ما يكفي وبكفاءه من خلال مبدأ "الوحدة بين المبدأين الاقتصادي والاجتماعي"، ولكن أدت الظروف الاقتصادية الخارجية المتدهورة الى اجهاد الاقتصاد الوطني، لا سيما فيما يتعلق بارتفاع تكاليف الطاقة بين عامي 1970-1990، حيث ارتفع سعر النفط 13 ضعفاً وتضاعفت تكلفة انتاج الفحم البُنّي.

على الرغم من ذلك، التزمت الحكومة بوعودها بتقديم مزايا اجتماعية ولم تُسائل الدعم المُرتفع الذي قدمته للاستهلاك والايجارات. وكانت النتيجة أن التحديثات المطلوبة بشكلٍ عاجل لم تحدث أبداً، كما هو الحال في صناعات المواد الخام والصناعات الكيميائية. لا يُمكن أن توجد سياسة اقتصادية واجتماعية لصالح الشعب الا ان كانت هناك نسبة عالية من المُلكية التي تعود الى المُجتمع. كانت هذه النسبة عالية جداً لدرجة أنها أعاقت المُبادرات في المِهَن الماهرة والمشاريع الصغيرة وتجارة المفرّق. كانت احدى مشكلات الاقتصاد هي أن الخُطط والميزانية العمومية كانت دائماً ضيقة ومُبالغ فيها في كثيرٍ من الأحيان، مما لم يترك الا هامشاً ضئيلاً جداً من الخطاً للتطورات غير المُتوقعة.
نظر مواطنو ألمانيا الديمقراطية الى الغرب "الغني" وبدأوا بمقارنته بمستويات معيشتهم ولم يكونوا راغبين بتقييم القوة الشرائية لأموالهم وفقاً لتكاليف السلع اللازمة للحياة اليومية. ربما كان سعر 5000 مارك لتلفزيون ملوّن جديد مصدر احباط، لكن حقيقة أن أن كيلوغرامين من الخبز يُكلفان مارك واحد فقط هو أمر مُسلّم به ولا يُفكرون به. تم دعم المواد الغذائية الأساسية وسلع الاستهلاك اليومي، في حين أن أسعار المُنتجات غير الأساسية كانت تهدُف الى تغطية التكاليف وتحقيق ربح. لم يكن هذا الارتباط واضحاً لقطاعات كبيرة من سكان ألمانيا الديمقراطية. علاوةً على ذلك، لم يكن هناك سعر صرف رسمي بين المارك الألماني الشرقي والمارك الغربي. كان مارك ألمانيا الديمقراطية عملة محلية صرف، لكن مُقارنة الأسعار النسبية للسلع اليومية نفسها في الشرق والغرب خلُصَت الى أن القوة الشرائية للمارك في ألمانيا الديمقراطية عام 1990 كانت في الواقع أعلى بنسبة 8% من القوة الشرائية للمارك الألماني الغرب.

النهب الاقتصادي لجمهورية ألمانيا الديمقراطية

تعرضت الدولة الاشتراكية الألمانية الأولى للتحيّز ومحاولة نزع شرعيتها أثناء وجودها وبعده. اليوم، ترسم سياسات الاعلام الألماني عن ألمانيا الديمقراطية صورة "دكتاتورية شمولية" بـ"اقتصاد ضعيف". يتم انكار الأداء الاقتصادي الملحوظ والمؤشرات الاجتماعية الجيدة في البلاد، وتستمر الرواية المُنتشرة حول ضم دولة مُفلسة.
ومع ذلك، لم تكن ألمانيا الديمقراطية دولة "مُتهالكة" كما يُزعَم، كانت هناك بعض المصانع القديمة، ولكن كانت هناك أيضاً مصانع عالية الانتاجية.
كان نصف جميع المعدات الصناعية ذات عمر أقل من 10 سنوات، وأكثر من رُبعها كان ذو عمر 5 سنوات، وهي أرقام مُذهلة بالمقارنة مع بلدان أُخرى. كان هناك العديد من المصانع الحديثة ذات الآلات التي يتم استيرادها جُزئياً من الغرب وانتاجها جُزئياً بواسطة الصناعة الهندسية الميكانيكية في ألمانيا الديمقراطية أو بواسطة مصانع خاصة. كان من المُمكن أن تظل هذه المصانع قيد التشغيل، ولكن عند حل الجمهورية، قامت الوكالة الاستئمانية The Trust Agency(2)، التي كانت مسؤولةً عن اقتصاد ألمانيا الديمقراطية، بخصخصة المصانع سريعاً والقضاء على المنافسين من ألمانيا الديمقراطية.
من أجل مواجهة الأسطورة المُستمرة بأن ألمانيا الديمقراطية قد أفلست، من الجدير النظر في ديون الألمانيتين الغربية والديمقراطية: بلغت ديون ألمانيا الديمقراطية للدول غير الاشتراكية حوالي 20 مليار مارك ألماني عام 1989. بعد توحيد ألمانيا، تم تضمين ما يُسمى بـ"الديون القديمة" والتي تتكون من قروض بناء المساكن وديون الميزانية الداخلية للدولة، في حسابات الدين المحلي لألمانيا الديمقراطية، وبذلك ارتفع إجمالي الدين المحلي الى 86 مليار مارك ألماني. علاوةً على ذلك، كان على المصانع في الاقتصاد المُخطط الألماني دفع ايراداتها للدولة. قامت الدولة بتحويل أموال الاستثمار من هذه الايرادات الى المشاريع الزراعية والصناعية. كانت هذه التحويلات، كوحدات اقتصادية مُستقلة، اجراءات مُحاسبية داخلية لم يتم تسجيلها على أنها "ديون" في مُجمل النظام، لقد وازنت بعضها البعض وبالتالي لا ينبغي احتسابها كجزء من رصيد الدين. تدين دول اشتراكية أُخرى لجمهورية ألمانيا بـ9 مليار مارك. بإختصار، يُمكن تقدير اجمالي الدين المحلي بحوالي 77 مليار مارك ألماني.
تُظهر المُقارنة مع اجمالي الدين المحلي لألمانيا الغربية البالغ حوالي 475 مليار مارك ألماني أن كل ألماني غربي ساهم بما يقرب من ضعفين ونصف اخوتهم واخوانهم "الفقراء" لألمانيا الموحدة. في عام 1989 بلغت ديون ألمانيا الديمقراطية حوالي 19% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما كان الدين في ألمانيا الغربية 42% من الناتج المحلي الإجمالي.
في ضوء هذه الأرقام، لا أساس مُطلقاً للحديث عن افلاس ألمانيا الديمقراطية عام 1989. سددت ألمانيا الديمقراطية ديونها الخارجية وديونها المحلية (مثل الأجور والإعانات والمعاشات التقاعدية) حتى النهاية.
قدّرت وكالة الاستئمان الألمانية الغربية عام 1990 القيمة الاقتصادية لجمهورية ألمانيا الديمقراطية بنحو 600 مليار مارك ألماني. ولكن، هذا الحساب لا يشمل المُمتلكات العامة مثل المياه ومحطات الطاقة والثروات المعدنية والأراضي، وكلها تُمثل كماً هائلاً من الأُصول الثابتة. بالإضافة الى ذلك، استحوذت الوكالة الاستئمانية على ما يقرب من 4 ملايين هكتار (40 مليون دونم) من الأراضي الحرجية والزراعية، والتي تم تقييمها بـ440 مليار مارك ألماني، بالإضافة الى مُمتلكات سكنية واسعة النطاق وأُصول تابعة لننظمات جماهيرية وأحزاب سياسية. يُمكن اضافة 240 مليار مارك ألماني من اصول الدولة الإدارية والمالية الى جانب أصول الدولة في شكل مبانٍ وقطع أراضي وأُصول أجنبية، حيث تبلغ هذه الأخيرة مليار مارك ألماني. من خلال جمع هذه الأرقام، والذي بعضها هو مجرد تقديرات، من الواضع أن الشرق يمتلك اصولاً مادية اجمالية تبلغ حوالي 1.4 تريليون مارك ألماني. هذه هي القيمة الحقيقية تقريباً لإقتصاد جمهورية ألمانيا الديمقراطية. أطلع بيع الاقتصاد العنان لموجة من الدمار على القطاع الصناعي لم تشهدها البلاد منذ الحرب العالمية الثانية. أدى ذلك الى زيادة هائلة في الثروات التي تمتلكها شركات ألمانية غربية ومُلّاك أراضي تمت مصادرة أراضيهم سابقاً. تسببت البطالة والتمييز الهيكلي في مُغادرة ما يقرُب من 4 ملايين شخص (معظمهم من الشباب) ألمانيا الشرقية. انخفض معدل المواليد بشكلٍ كبير وتفكك الاقتصاد وانحل المُجتمع بشكلٍ عام وتُرِكَت المناطق التي كانت مُزدهرةً سابقاً في حالة خراب. تم اغلاق المدارس والمكاتب والمؤسسات الثقافية والمرافق العامة في جميع أنحاء ألمانيا الشرقية، وانحلت البُنية التحتية. كان السياسيون في ألمانيا الغربية يعدون الناس "بوضعٍ مُزدهر"، ولكن ما ظَهَر فعلاً بدل ذلك مناطق فقيرة منزوعة التصنيع.
سُرعان ما أًصيب العديد من المواطنين بخيبة أمل. نَزَلَ عدد غير قليل منهم الى الشوارع عام 1989 من أجل "اشتراكية أفضل" مع مطالب بمزيد من الديمقراطية وشعار "نحن الشعب" وثبُتَ أن فكرة امكانية نقل بعض الضمانات الاشتراكية الى ألمانيا الرأسمالية أنها مُجرّد وهم، وبدلاً من ذلك، سُرعان ما وجدوا أنفسهم معزولين اقتصادياً وغالباً في ظروف معيشية غير مُستقرة. تم نبذ انجازاتهم الاجتماعية ولم يتم الاعتراف بها واختفت تماماً. استغلت الدوائر اليمينية في ألمانيا الغربية هذا الاستياء المُتزايد. كانت الجماعات السياسية اليمينية موجودةً هناك دائماً، وغالباً ما كانت تُحارب بفتور، حيث وجدت "رؤية" اعادة ظهور ألمانيا العُظمى على أساس الأفكار اليمينية صدىً واسع أثناء توحيد ألمانيا، بينما بذلك وسائل الاعلام كل جهودها لتشويه الأفكار اليسارية باستمرار بعد الفشل المزعوم للمشروع الاشتراكي.
كما مهدّت الثروة المنهوبة من الشرق الطريق لألمانيا لتُصبح القوة الأوروبية المُهيمنة التي لا تزال تُعامل العمال من أوروبا الشرقية كمواطنين من الدرجة الثانية، وتضع افريقيا بشكلٍ مُمنهج في وضع اقتصادي غير مُتكافئ، وتقتل الناس فعلياً خارج حدودها. من المهم مُحاربة هذه الامبريالية ولكن أيضاً من المهم معرفة مصدرها وما هي البدائل التي قد تكون مُمكنة. يُظهر تاريخ التطور الاقتصادي لجمهورية ألمانيا الديمقراطية، على سبيل المثال، ما هو مُمكن في ظل الاشتراكية- حتى في الظروف القاسية.
سيتم توسيع الحديث عن الكفاءة الاقتصادية لألمانيا الديمقراطية وانجازاتها في مجال السياسة الاجتماعية الموضحة هُنا بإيجاز في الدراسات المُستقبلية مع أمثلة ملموسة لما تبدو عليه السياسة والحياة اليومية. يُمكن لهذه الانجازات التاريخية أن تُلهمنا أفكاراً جديدة حول كيفية بناء عالم عادل في خِضَم التحديات التي نواجهها اليوم. وبهذه الطريقة، يُمكن الاستفادة من تجارب ألمانيا الديمقراطية عملياً في سياقها التاريخي من أجل مواجهة التناقض الذي لا يُمكن حله المُتمثل في حيش حياة كريمة في مُجتمعٍ رأسمالي.

* ترجمة للتعريف حول المركز:
https://ifddr.org/en/about/

أ- لا أعتقد أنه يُمكن تسمية مجموعة الدول التي كانت تُحارب الفاشية الأوروبية واليابان العسكرية، تحالفاً. في البداية، الولايات المتحدة وبريطانيا لم تدخلا الحرب على الساحة الأوروبية الا متأخراً بعدما اندحرت القوات الفاشية على الجبهة الشرقية. ثانياً، وقبل الحرب، ساهمت الاحتكارات الأمريكية والبريطانية مساهمة هائلة في تسمين الصناعات الألمانية، وخصوصاً الحربية منها. ثالثاً، كانت الأوساط الحاكمة في الدول الرأسمالية، تسعى جاهدةً للانتظار ريثما تنقض الفاشية الألمانية على الاتحاد السوفييتي. وأخيراً، وقبل الحرب كذلك، حاول الاتحاد السوفييتي أن يُحذر البريطان والأمريكان والفرنسيين من الغول الفاشي، وأن يُنشئ جبهةً أوروبيةً مُعاديةً للفاشية، لكن كانت كل تحذيراته ومحاولاته تلقى آذاناً صمّاء.
كذلك، أنا أرفض تماماً، وعلى عكس مؤلفي هذا المنشور، اعتبار الحرب الباردة حُقبة زمنية ذات محتوى يتضمن صراعاً بين الاتحاد السوفييتي والولايات المُتحدة. هذا الفهم تسطيحي، بل وحتى رجعي. الحرب الباردة، هي اجراءات سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية امبريالية، نابعة من تضامن البرجوازيات الحاكمة في جميع الدول الرأسمالية، تقوم بها، من أجل مُحاربة الدول الاشتراكية جميعها (وليس الاتحاد السوفييتي وحسب) وحركات التحرر. إنها دفاع البرجوازيات العالمية عن المُلكية الخاصة وخوفها من فقدان ثرواتها الطائلة.
ب- لا أعتقد أن هذا كان صحيحاً كذلك. لا يجب الحديث عن "الاعتداء"، وكأنه كذلك، دون تحديد ماهيته. قامت الدول الرأسمالية بإعادة تسليح ألمانيا الغربية والسماح للشركات الألمانية الاحتكارية (التي سبق أن خاضت الحرب النازية) باعادة بناء قدراتها التسليحية. كذلك، كان النازيون القُدامى والجُدد يعتلون شتى المناصب السياسية في ألمانيا الغربية، وكانوا يُنادون ببعث مجد ألمانيا والانتقام من الاتحاد السوفييتي. على سبيل المثال، (كان قائد القوات البرية في حلف الناتو في بداية الستينيات، عضواً سابقاً في الحزب النازي، ومُرتكب جرائم ابادة بشعة على الجبهة الشرقية). لذلك عند الحديث عن "الاعتداء"، يجب توضيح "اعتداء" من على من؟
جـ- أنا لا أتفق مع كاتبي المقال بصدد هذه الطريقة في المُقارنة بين اقتصاد اشتراكي واقتصاد رأسمالي. ينتعش الاقتصاد الرأسمالي بالنهب الداخلي والخارجي. أما الاقتصاد الاشتراكي فتختلف آلياته تماماً. إن كان على البحث السوسيولوجي العلمي أن يُخضع كلا النظامين للمقارنة، فإنه يجب أخذ مُلكية وسائل الإنتاج وآلية إعادة توزيع الثروة بعين الاعتبار.
د- هناك مؤشر عالمي مُعتمد فيما يخص هذا المجال. يُمكن قياس عدد الأشخاص الذين يتم توظيفهم في البحث العلمي لكل 1000 موظف صناعي. ان أكثر الدول توظيفاً للباحثين العلميين، لكل ألف عامل صناعي لعالم 2020 هي السويد وفنلندا وكوريا الجنوبية والصين بمعدل 15 لكل ألف موظف.
هـ- كانت الدول الاشتراكية طليعية في تسجيل براءات الاختراع: الاتحاد السوفييتي، تشيكوسلوفاكيا، ألمانيا الديمقراطية، بولندا. هذا هو ترتيب الدول الاشتراكية على التوالي، فيما يخص أكثرها تسجيلاً للبراءات.
1- المُجمّع Kombinatte
منذ نهاية الستينيات تم دمج الشركات والمشاريع الفردية المملوكة للدولة في الصناعة وكذلك في قطاعي النقل والبناء في وحدات اقتصادية أكبر تُسمّى المُجمعات. بحلول عام 1989 كان حوالي 80% من جميع المواطنين يعملون في مُجمّعات، حيث تم تجميع انتاج وتوزيع وبيع صناعة واحدة، او حتى مجموعة فروع تكميلية لصناعات مُتعددة في نوعٍ من وحدات المشروعات الاشتراكية. كان لدى المُجمّعات معاهد للبحث والتطوير وتعاونت مع الأكاديميات والجامعات. كان الهدف من تشكيل المُجمّعات هو انشاء بُنى صناعية أكثر مُلائمة واستدخال أنواع جديدة من الحلول التكنولوجية وتحسين السيطرة المركزية. كانت المصانع التي تنتمي الى مُجمّع، مثلها مثل المُجمّع ككل، تتلقى مهام التخطيط الخاصة بها من هيئة تخطيط الدولة.
2- الوكالة الاستئمانية
تأسست الوكالة عام 1990 أثناء عمكلية التوحيد لخصخصة المشاريع المملوكة لألمانيا الديمقراطية وفقاً لمبادئ اقتصاد السوق وتصفية الشركات "غير التنافسية". لقد استحوذت على أكثر من 8500 مشروع مع 45000 موقع وظّفت حوالي 4 ملايين شخص وخصخصة 6500 مشروع، وبيعها بأقل من قيمتها-غالباً بسعرٍ رمزي. تم بيع حوالي 80% من هذه الشركات لألمان غربيين، و15% لمستثمرين أجانب و%% لمواطنين من ألمانيا الديمقراطية. فُقِدَ ثُلثي جميع الوظائف في ألمانيا الديمقراطية، على الرغم من أن المُستثمرين الألمان الغربيين دعمتهم دولتهم عند الشراء. مرت انتهاكات ععمية تصفية اقتصاد ألمانيا الديمقراطية-مثل فقدان الوظائف- دون أي عقاب، وفي أثناء تلك العملية تم الغاء العديد من حقوق العمل التي ناضلت النقابات العمالية في ألمانيا الغربية من أجلها. كان هذا نهج، يترك شرق ألمانيا حتى يومنا هذا أضعف اقتصادياً من الغرب مما ولّد لامساواة اجتماعية مستمرة. ونتيجةً لذلك، لا يوجد الآن سوى 850 ألف وظيفة صناعية في أراضي ألمانيا الديمقراطية السابقة، أي أقل من 4 الى 5 مرات مما كانت عليه في الجمهورية السابقة. في القطاع الزراعي، جذبت الأرض التي استولت عليها الوكالة الاستئمانية اهتمام المُشترين المُضاربين حول العالم ولم يتمكن الفلاحين المحليين من تحمّل ارتفاع أسعار الأراضي. تمتلك الشركات الزراعية الألمانية الغربية ودول من الاتحاد الأوروبي الأُخرى هذه الأراضي الآن.

ترجمة لمقالة:
RISEN FROM THE RUINS
The Economic History of Socialism in the German Democratic Republic
https://ifddr.org/en/studies/studies-on-the-ddr/risen-from-the-ruins/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حشود غفيرة من الطلبة المتظاهرين في حرم جماعة كاليفورنيا


.. مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين في باريس خلال عيد العمال.. وفلس




.. على خلفية احتجاجات داعمة لفلسطين.. مواجهات بين الشرطة وطلاب


.. الاحتجاجات ضد -القانون الروسي-.. بوريل ينتقد عنف الشرطة ضد ا




.. قصة مبنى هاميلتون التاريخي الذي سيطر عليه الطلبة المحتجون في