الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسألة اكبر من أوكرانيا (1 - 3): ديمقراطية -الحشد- النازي؟!

آلان م نوري
(Alan M Noory)

2022 / 3 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


لا يشك عاقل أن حرب فلاديمير بوتين في أوكرانيا تهدف إلى إعادة العالم إلى عصر التوسع الإمبراطوري السافر و تهدد بتقويض أسس العلاقات الدولية التي ضمنت خلال السبعين سنة الماضية بقاء البشرية في عالم تتكدس فيه أسلحة نووية قادرة على إبادة كل مظاهر الحياة على كوكب الأرض. ولا يحتاج المرء إلى الكثير من الثقافة ليدرك أن بوتين مولع بكل ما يمت بصلة إلى ميول التوسع و عسكرة المجتمع في العهد السوفيتي، من جهة، و شديد الكره لـ"سخاء شيوعي" متخيل في الاستجابة لتطلعات شعوب الاتحاد السوفيتي إلى المساواة على "حساب" القومية الروسية، من جهة أخرى. ثم أن تبني بوتين لمفردات الخطاب المعادي للنازية لتبرير "عمليته العسكرية" في أوكرانيا لا تنسجم مع تاريخه و تاريخ الأوليغارشية الحاكمة في روسيا منذ انهيار الإتحاد السوفيتي. فمطلب "اجتثاث النازية" في أوكرانيا الذي هو من بين شروط بوتين لوقف الحرب لا يمكن فهمه إلا في إطار تصوره للنازية كأيديولوجيا معادية للقومية الروسية بالذات. أي أن نظرته للنازية لا تتجاوز تاريخها المعذّب للروس، بما هم روس، وتهمل كل ما له علاقة بالصفات العابرة للمحلية (Trans-local) للنازية، كتغوّل الدولة على المجتمع المحلي، قبل استعباده للمجتمعات المحتلة، و علاقة مؤسسات التمثيل السياسي بمصالح الطغمة المالية في المجتمع المحلي، قبل توجه الدولة النازية لنهب ثروات المجتمعات المحتلة. واضح أن ما يقوم به بوتين هنا هو تجريد مفهوم النازية من كل ما يتيح المقارنة بينها و بين نظامه السياسي فيحولها إلى كائن أسطوري لا تاريخي يهدد الروس، بشكل استثنائي، تهديدا وجوديا.

ولكن، بغض النظر عن توظيف بوتين الأيديولوجي لفكرة اجتثاث النازية في أوكرانيا،فإن أوكرانيا تشكو من تسرب تدريجي، و علني، لقوى النازية الجديدة المسلحة الدموية إلى كافة أجهزة احتكار العنف (الأمن و الشرطة و الجيش)في البلد، على الأقل منذ 2014. وتسربت أذرعها السياسية إلى أغلبيات و كتل برلمانية تحكمت في آليات تأثير الدولة في الثقافة والوعي الجمعي في البلد، على الأقل منذ منتصف التسعينات. هذه ليست ادعاءات روسية، جديدة، لم يسمع بها أحد من قبل، لتبرير اجتياح أوكرانيا، بل وقائع موثقة و مراقبة من قبل البرلمان الأوروبي والكونغرس الأمريكي والصحافة العالمية على الأقل على مدى العشر سنين الماضية.

لعل أفضل مثال لمدى تغلغل النازية الجديدة في المجتمع الأوكراني هو ما جرى تحت مسميات "اجتثاث الشيوعية"، و "أوكرنة" المجتمع من إعادة كتابة التاريخ الأوكراني بتمجيد كبار المتعاونين مع الاحتلال النازي لأوكرانيا من أمثال ستيفان بانديرا، زعيم منظمة "الإتحاد من أجل تحرير أوكرانيا"، وهي المنظمة التي تعاونت مع ألمانيا النازية منذ الإعداد لغزو بولندا، و شكلت فصائل مقاتلة إلى جانب ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية ضد الإتحاد السوفيتي (أو الموسكوفيين و اليهود، كما يفضل أنصار بانديرا أن يمجدوا ذلك التاريخ). منظمته هذه متهمة بتوجيهها رسميا مذابح ضد البولنديين في غرب أوكرانيا الحالية عام 1944 التي راح ضحيتها حوالي 150 ألف أوكراني-بولندي، أغلبهم من النساء والأطفال. كما ساهمت في تسفير يهود أوكرانيا إلى المعتقلات النازية بتوجيهات و قرارات حزبية علنية. بانديرا هذا أٌعيد له الاعتبار في 2010 وسمي بطلا قوميا لأوكرانيا. ورغم أن هذا اللقب قد سحب منه بعد ادانة البرلمان الأوروبي لهذه الخطوة في العام التالي، إلا أن هذه الإدانة لم تمنع السلطات الأوكرانية المختلفة إلى اليوم من بناء صروح و متاحف له وتسمية الآلاف من الشوارع والساحات الرئيسية في كبرى مدن أوكرانيا بأسمه.

أشهر التنظيمات الأوكرانية المتفاخرة بكونها امتدادا تاريخيا للنهج السياسي لبانديرا هي ميليشيا معروفة بكتائب آزوف التي تتخذ من علم الفصائل الأوكرانية المقاتلة تحت قيادة ألمانيا النازية، أثناء الاحتلال الألماني لوطنهم، رمزا لها. هذه المنظمة متهمة بتحويل مظاهرات سلمية في ميدان أوروبا، وسط العاصمة عام 2014 إلى مصادمات مسلحة بين الشرطة الأوكرانية و المواطنين بسبب أعمال قنص من على أسطح المباني استهدفت الشرطة والمواطنين في نفس الوقت (لاحظ التشابه بينها و بين "الطرف الثالث" في العراق أثناء قمع انتفاضة تشرين). ادى الغليان السياسي الذي نجم عن احداث ميدان أوروبا إلى حرب أهلية، برعت فيه هذه الكتائب، فتحولت في ليلة و ضحاها إلى جزء من المؤسسة العسكرية و الأمنية للدولة الأوكرانية و استولت على الفعاليات الأساسية للدولة دون أن تتخلى عن منطلقاتها الأيديولوجية و اطرها التنظيمية. جرى كل هذا و الشعب الأوكراني بأغلبيته الساحقة يرفض توجهاتهم السياسية، فلم تحصل المنابر السياسية لمنظمات مظلة آزوف في آخر انتخابات برلمانية جرت في البلد إلا على أصوات 2% من مجموع ناخبي أوكرانيا! (وهنا ايضا التشابه شديد الوضوح بين آزوف و البنى التنظيمية الأساسية لما يسمى بـ "حشد الشعبي" في العراق).

بعد حرق 40 متظاهرا لجأوا إلى داخل مبنى اتحاد العمال لمقاطعة أوديسا، عام 2014، من قبل منظمة آزوف و أعمال وحشية كثيرة اخرى، قامت دول غربية عديدة، بضمنها الولايات المتحدة، رغم دعمها للدولة الأوكرانية في الحرب الأهلية، بسن قوانين تمنع مد هذا التنظيم بالسلاح والدعم اللوجستي. هنا برز إلى الواجهة حقيقة أن تنظيم آزوف يضم مقاتلين من 24 دولة و يتمتع بدعم سياسي كبير من مختلف الأحزاب اليمينية الأوروبية و دوائر متنفذة في أجهزة المخابرات والقوات المسلحة في الولايات المتحدة. التفت ادارة الكونغرس الأمريكي، بعد سنة، على قرارها السابق بمناورة برلمانية فسمحت من جديد برفد التنظيم بالمال والسلاح والدعم اللوجستي الأمريكي. وهنا عرف العالم أن هذا التنظيم يدعو إلى "اعادة استيطان" أوروبا و العالم الغربي بالعرق الأبيض المسيحي بدلا من قبول اللاجئين من الأعراق و الأديان المختلفة في أوروبا و الغرب،أو حتى قبول حق مواطنين أصلاء من اعراق مختلفة و تقاليد ثقافية مختلفة، من أجل الحفاظ على الهوية "البيضاء المسيحية" لهذه البلدان. هذه الأجندا العنيفة العابرة لحدود الدولة الأوكرانية التي تحاول تغيير التركيب الديمغرافي الديني لأوكرانيا و امتدادها في العالم "الأبيض المسيحي" بالقوة والترهيب والتهجير القسري، هي وجه آخر من أوجه التشابه المخيف بين آزوف و التنظيمات المتحكمة في الحشد الشعبي في العراق.

تدافع المؤسسة الرسمية الأوكرانية عن العلاقة بين آزوف و الدولة "الليبرالية" بزعم أن المؤدلجين النازيين الجدد لا يشكلون إلا حوالي 25% من مجموع أعضاء المنظمة، وإن أغلب الأعضاء هم مواطنون عادييون يحبون بلدهم و يدافعون عنها… ما تحاول هذه التصريحات الإلتفاف عليه هو حقيقة أن هذه الـ 25% هي البنية القيادية المتنفذة في هذا التنظيم وهي التي تفرض ايديولوجيتها على كامل التنظيم و على مرافق الدولة "الليبرالية" أيضا! وهذا بالضبط ما يجري في العراق.

و اينما تبنت الدولة الأيديولوجية الليبرالية الإقتصادية، بالتعايش مع ميليشيات مؤدلجة موازية للدولة و مشاركة في سلطاتها، كان نهب المال العام والفساد اﻹداري و التغييب الانتقائي لسلطة القانون من السمات الأساسية لمعاش المواطنين في ذلك البلد. و تصبح هذه الميليشيات العمود الفقري لإستمرار وإعادة إنتاج هيمنة هكذا نظام سياسي. نظرة سريعة إلى البلدان في اسفل قائمة المؤشر العالمي للفساد تؤيد فكرة أن المشترك بين هذه البلدان البائسة هو هذا الدمج "القانوني" بين منظمات ايديولوجية معادية لفكرة الدولة المعاصرة و اجهزة احتكار العنف. العام الماضي، كان العراق، بعد التحسينات (!)، يحتل المرتبة 157 في أسفل سافلي القائمة، وكانت أوكرانيا تحتل بجدارة المرتبة 122 و البلدين هما في نفس المرتبة التصنيفية التي تؤشر إلى مستويات عالية من الفساد.

ملخص القول هو أن العمل التطوعي لـ "الدفاع عن الوطن" و عن "المقدسات..والأعراض…والخطوط الحمر…الخ", لا يمكن أن يٌكسب المدافع حقوق تتعارض مع مفهوم دولة المواطنة. دمج المتطوعين بالمؤسسات الأمنية والشرطية والعسكرية لا يمكن أن يكون بإبقاء التنظيمات الأيديولوجية و البنى القيادية التنظيمية لهذه المنظمات، حتى وإن لم يكن لها ماض دموي اجرامي…فما بالك لو أنها كان لها هكذا ماض و اعتبرتها تعريفا لهويتها! كما أن الدولة التي تريد أن تُحترم بين دول العالم المتحضر لا يمكنها أن تمنح حصانة قانونية لمنظمات تكون هويتها و نشاطاتها اعتداءا على المصالح المشروعة لدول الجوار، دون أن تدفع ثمنا غاليا في استقلالها و لحاقها بركب العالم المتحضر!

بوتين يبحث عن ذرائع للتوسع الروسي بفرض أسس جديدة للنظام العالمي تتقبل توسع القوي على حساب الضعيف. والعالم سيكون أأمن بفشله. ولكن مهما كان مصير هذه المغامرة الخطيرة لبوتين، لا يمكن لأوروبا والعالم أن يهنأوا بالسلم و الأمن بوجود ديمقراطيات "الحشد" النازي، أو غيرها من المسميات و المقدسات التي لا تختلف عنها من حيث الجوهر…فالمسألة أكبر من أوكرانيا!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة و17 دولة تطالب حماس بإطلاق سراح الرهائن الإ


.. انتشال نحو 400 جثة من ثلاث مقابر جماعية في خان يونس بغزة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصف 30 هدفا لحماس في رفح • فرانس 24


.. كلاسيكو العين والوحدة نهائي غير ومباراة غير




.. وفد مصري يزور إسرائيل في مسعى لإنجاح مفاوضات التهدئة وصفقة ا