الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغز (قصة قصيرة)

زهير صادق الحكاك

2022 / 3 / 19
الادب والفن


في الصالة الكبرى لأفخم فندق في المدينة، تجمع عدد من الناس، رجالا ونساء، يتكلمون ويضحكون، وكأنهم في احد الأعياد. انه فعلا عيد لخمسين طالب وطالبة أنهوا دراستهم، وليحتلفوا بتخرجهم اطباء المستقبل، وأساتذتهم يتنقلون من الحلقات يصافحون طلبتهم مهنئين لهم ولذويهم.
كان بين الحضور رجل أشيب الشعر، متوسط القامة، يرتدي بدلة سوداء ، وقف منزويا، بيده كأس من العصير ، يراقب من بعيد أحد الشبان المتخرجين، ويتابعه بنظرات مستمرة قلقة كأنه خائف ان يغيب عن نظره. الشاب واقف مع زملائه ، طويل القامة، حنطي البشرة، شعره أسود متموج، وقد نزلت خصلة منه على جبينه. كان قليل الكلام، يبتسم بين حين وآخر ، ثم يرتشف قليلا من عصيره.
ظل الرجل يراقب الشاب لنهاية الاحتفال، ولما لم يبق الا القليل من الطلبة. تقدم الرجل بثقة تامة إلى الشاب، التقت عيناهما، فسأله الرجل بأنكليزية واضحة:
- هل أسمك ليون
- نعم،
- هل نستطيع الكلام على أنفراد لبعض الوقت؟، ما رأيك لو نلتقي غدا صباحا لنتكلم.
- نتكلم عن ماذا؟ أجابه ليون وقد بدا الأنزعاج في وجهه
- ارجوك لا تنزعج، انا المحامي روبرت ديوك، سنتكلم عن المنحة التي حصلت عليها للدراسة في السنوات السبع الماضية.
انذهل الشاب من كلام المحامي، ونظر بوجهه ، وعيناه تتساءل، كيف يعرف هذا المحامي هذا عنه؟ مرت لحظة صمت، انبرى بعدها ليون مخاطبا المحامي:
- حسنا، سنلتقي في العاشرة صباح الغد، في كافتيريا المجمع التسويقي. ودعه بانحناءة بسيطة من رأسه واتجه نحو باب الصالة، تاركا المحامي يتابعه بنظراته وعلى شفتيه ابتسامة غامضة.
في صباح اليوم التالي، دخل ليون الكافتيريا ليجد المحامي قد حجز طاولة، منزوية بعض الشي . سلم عليه وجلس ونظرات الشك ما زالت متسمرة على وجهه . قال له بكل رفق وحنية:
- أنا أعرف انك تحب ان تشرب الكاباتشينو في الصباح، لذا طلبت لك قدحا كبيرا منه.
- الظاهر أنك تعرف الكثير عني، ولكن أنا لا اعرفك.
- نعم أنا أعرف الكثير عنك، لأني كنت مكلفا بمراقبتك من بعيد طوال سنوات دراستك، دون التقرب منك، وحل اي مشكلة قد تقع فيها، ولكن اشهد الله انك كنت طالبا نموذجيا.
- الا تشعر كم هو استغرابي وقلقي من هذا الكلام، عدد كبير من الاسئلة تدور في رأسي، أرجوك تكلم وخفف عني هذا القلق، قالها ليون وبشيء من العصبية.
- انا كما قلت محامي . قبل عدة سنوات ، دخل مكتبي رجل كبير في السن وطلب مني خدمة لم اسمع بمثلها طوال حياتي العملية. قال لي انه ربح جائزة اللوتو وأصبح غنيا وله مدخولا شهريا جيدا ويريد مني أن أرعاك عندما تدخل الجامعة، وحتى تخرجك وبدون أن تشعر بشيء. وعندما انهيت الدراسة الثانوية وقررت أن تدرس الطب، تكلم هذا الرجل مع رئيس الجامعة حول تخصيص منحة لك تغطي اجور كافة سنوات الدراسة يدفعها هو سنويا، وان يجعلك تظن ان هذه المنحة من الجامعة. كذلك خصص لك راتبا اسبوعيا ينزل في حسابك في البنك.
ظل ليون صامتا، لا يقوى على النطق بأي كلمة، وأخيرا قال بصوت متهدج :
- من هو هذا المحسن الغامض، ولماذا انا وليس غيري، والله أنه لأمر غريب جدا، هل أنت تعرف من هو؟
- نعم أنا أعرف من هو ولكني قد أقسمت أن لا انطق باسمه، فأرجو المعذرة، لأني أقسمت اليمين على ذلك. بالمناسبة هو فرح جدا بتخرجك، و لأنك لم تخيب ظنه في ذكائك واجتهادك وأصبحت طبيبا يتباهى بك.
- يتباهى بي ؟ كيف؟ آه فهمت لأنه يعرفني وأنا لا أعرفه. المهم ، انا اشكرك على هذه الجهود، واتمنى ان يتوج هذا المحسن فضله علي ويعرفني بنفسه، فانا والله متحمس لأشكره شخصيا.
بعد ايام أتصل المحامي بتلفون ليون ليخبره بأن العجوز المحسن الغامض قرر أن يقدم لك لغزا يعرفك به لأنه واثقا من ذكائك. إذا أنت في البيت، أخرج الآن لترى اللغز امام البيت. هرع ليون إلى الخارج فلم يجد شيئا، فصرخ في التلفون:
- لا أجد شيئا
- كيف؟ ألا ترى سيارة سبورت صفراء اللون واقفة امام البيت، ستجد مفاتيحها في صندوق البريد. أنها سيارتك الجديدة هدية تخرجك واصبحت طبيبا، ثم أغلق التلفون .
وجد ليون المفاتيح، فتح باب السيارة، انها فعلا جديدة ما زالت مقاعدها مغطاة بالنايلون، وفيها ورقة تسجيل السيارة باسمه. فرح كثيرا ولكنه تساءل أين اللغز الذي قال عنه المحامي؟
فتح ليون باب السيارة وراح يفتش داخلها بدقة، لم يجد شيء، جلس في مقعد القيادة، وضع المفتاح في مكانه وأداره، فأنتفض المحرك ثم هدأ حتى أصبح صوته همسا خفيفا. أغلق باب السيارة وأنطلق بها في دورة صغيرة حول الحي السكني، ثم عاد بها ليركنها في الممر الطويل امام المنزل، وليجد امه واخته في انتظاره. أطفأ المحرك وظل جالسا يفكر باللغز.
- هل ستقبل هذه الهدية؟ سألته أمه بصوتها الحازم الذي يعرفه.
- لا أدري يا أماه، أحتاج إلى عدة ايام للتفكير، ربما أستطعت أن أحل اللغز. فالرجل المحسن ومحاميه واثقان بأني سأحله.
- وإذا لم تستطع؟
- حينها سأعيد السيارة للمحامي، ولا أقبلها منه، وأشترط على أن يكون قبولها من الرجل المحسن نفسه.
مضت عدة أيام وليون يفكر في أمر اللغز بالرغم من انشغاله المستمر في المستشفى التي يعمل بها. في إحدى الليالي، وبينما كان ليون نائما بعد عناء يوما طويلا، جاءه في طيفه رجلا ذو شعر ابيض يرتدي ثوبا فضفاضا تقدم نحوه بخطى بطيئة، مبتسما، وبيده باقة من ورود صفراء اللون، وضعها على وسادته جنب رأسه، ثم أختفى. انتفض ليون من فراشه مذهولا من هذ الطيف . جلس على حافة السرير ، حك شعر رأسه باصابعه، شرب قدحا من الماء وظل جالسا في العتمة يفكر . واخير قال هامسا لنفسه، سيارة صفراء، وورود صفراء، إذن لابد ان يكون اللون الأصفر هو مفتاح اللغز.
عاد ليون إلى فراشه، سحب الغطاء على صدره، وسرح في ذاكرته يفكر بعمق كبير، وقال بهمس لنفسه، نعم أنا أحب اللون الأصفر، وكنت في صغري أتمنى أن أمتلك سيارة صفراء اللون، وكنت أصرح بهذا مرارا وتكرارا. أمي تعرف ذلك، وأختي كذلك، وراح يقلب ذاكرته وفجأة قفز من السرير كالملسوع ، أضاء الغرفة، لمعت عيناه ببريق غريب، ساوره شك ما، ولكن هز رأسه بعنف مبعدا اياه، ولكن تلك الحادثة اصرت على أن تظهر امامه. سأل نفسه، هل يمكن ذلك ، لا ..لا .. لقد مات منذ سنوات كما أخبرتنا أمنا. جلس على حافة السرير وراح يسترجع تفاصيل تلك الحادثة. كان في العاشرة من عمره، وكان جده يأتي كل يوم ليأخذه من المدرسة. ذات يوم سأله جده هل اكلت أكلك؟ فلما أجابه كلا لم أكن جائعا واعطيت أكلي لصديقي، أخذه إلى مطعم KFC وطلب له وجبته المعتادة، وبينما هما يأكلان شاهدا سيارة صفراء اللون تقف امام الشباك . تذكر انه حينها قال: الله، شوف جدو كم هي جميلة هذه السيارة. عندما أكبر سأشتري سيارة مثلها، اجابه جده أنه إذا درس جيدا وأصبح طبيبا، سيشتري له مثل هذه السيارة. وهذا وعد..
هل من المعقول أن يكون جدي حيا لحد الآن؟
ظل ليون ساهرا ينتظرالصباح، تناول فطوره، ركب سيارته وأنطلق إلى المستشفى. جلس في مكتبه، اتصل بالمحامي وقال بحماس شديد قبل أن يجيب المحامي:
- لقد عرفت اللغز، أنه جدي أليس كذلك، لكن كيف يكون ذلك ؟، ألم يمت؟، وأين يعيش؟، وكيف لي أن ألتقي به؟ طرح هذه الأسئلة بانفعال واضح، أجابه المحامي :
- أرجوك أهدأ قليلا، نعم أنه جدك، انه ما زال حيا ويعيش في بلد آخر. لأسباب قاهرة اجبرته على الأبتعاد عنك، ولكنه ظل يراقبك من بعيد، ويتابع اخبارك، وحسب طلبه كنت اصور لك فلما قصيرا مرة كل شهر وأبعثه إليه. ولكن أرجو المعذرة لا أستطيع البوح بأكثر من هذا. لكن دعني اخبرك شيء قد يسعدك، سيكون جدك في منتهى السعادة عندما سأخبره بعد قليل بأنك عرفت جواب اللغز، وداعا.
زهير صادق الحكاك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟