الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نبوغ المؤثرات الحسيَّة في شاعرية / غادة السمان

جعفر كمال
شاعر وقاص وناقد

(تôôèô‏ ؤôéôم)

2022 / 3 / 20
الادب والفن


لو قرأنا بتتابع شديد بظهر الماهية من حيث ثبوت أسلوبية الشاعرة غادة السمان كما ينبغي اللَّمس المنسجم والمعيون في تجاربها الأدبية المحصنة بالمتعة والفائدة، لقد أصبح مقدورنا القول أن نتبين أنّ الشاعرة شديدة الولع أن تمنح نظمها الإذن بإتيان إباحة الألفاظ المجانسة والموازنة والمماثلة، لمفهوم إتقان النظم التحويلية في التعبير الحسي في مقامهِ المرغوب به عند القارئ، بكونه المتفق مع المباح العاطفي، بعد أن حققت في بنيتها الشعرية التأثيرات الحلمية الطاغية على مسجاتها الصوتية الرهصة، بتأثير المبادئ في الصورة الوجدانية الحاكية برؤيتها الناضجة بالتأملات الواثبة في حقل اللغة بالفطنة والتبصر المتخَيّل بحاسته اليقظة، وهذا المبنى المعنوي المُؤَول له تفسيرات اعتبارية عند الفصحاء والمبدعين في حقل الحركة الأدبية عامة، بكون الشاعرة حققت نجاحاً وافياً في إحكام سياق المتلاقيات الفنية، أن تلزم إثبات الامتياز من وازع إيراد الصورة الصوتية، على وجه يحتمل الاتحاد في الصوت البياني، الذي هو حاصل المشاعرية التي ينعكس فيها التباين التصويري عند القارئ، بالإجمال الفني وبالتواصل مع الجديد الذي تطرحه في لغتها، على ضوء التميّز في لونها الشعري المختلف في حداثته، والحاصل أثره على قبول موسوعة التلقي في التفكير النقدي، والسياق هو اعتبار تداعيات النص الناجح المنطوي على تمرينات ذكية في خصوصيتها الشعرية، يدلنا د. على الوردي على: " أن التجارب تقوم على التوازن بين دوافع متعارضة من الفرح والحزن والابتهاج والاستثناء1" وتلك المحاسنة تمثل طبيعة مهوى الأسلوبية المحكمة في وزنها المبين في لوح الموهبة الناطقة الكلية التي تفصل ما يتعلق في نجاعة أسباب قصيدتها، التي أثرت في المتضايف الزمني أنَّ ثمة لقاء سوف يجعل من الكلام المباح واضحاً في تقنية القصيدة الملبية للحالة الغرامية أن تكون أكثر سعة وانتشارا مما عليه الآن.
ومن خلال هذا التوجه وجدنا غادة السمان تبتعد عن العلة التقليدية التي تلازم الكثير مما ينشر على صفحات المواقع الهابطة، باعتبارها تروم نجاعة مفهوم الأسلوبية الإيقاعية المؤثرة، فإذا ما قرأناها عن قرب نجد نزوع الإنسانية الحسي ثابتاً بين الألفاظ ومضمر المعاني، الماثل في صوت شاعريتها التوليدية المتأصلة في بنيويتها الفنية وبلغتها الشعرية الفطنة، عند تلقيها من قبل الآخر على اختلاف مدركاته الثقافية، ولكي نسهل التواصل في العلاقة العربية بيننا من معيون لغتنا التي اصطفاها الشعر منذ ولادتها اللسانية ولعصرنا هذا، وجب أن نضيف إلى هذا الإبداع الموحى للذات الشاعرة مسحة نقدية تحاكي ميزاتها على اختلاف رُسَلها الجنسانية العفوي، فيما وصل إليه مستوى إحكامها في بلوغ الصورة الصوتية المرتبة الكاملة في امتلاك الإيقاع السلس، المتصل والمتداخل على تقدير يجوز للمجاز أن يكون متقدماً على الطرح الواقعي التقريري منه والسطحي، ونوصي أن نجعل من المتقدم الفني رائداً للحبكة، ومتساوياً في الإتقان الباطني في وحدة الشاعرية الذي ينطوي فيها مضمون التسامي المعنوي، والصوت الآتي من البنية الواضحة في الكمال المنظوم في مجاز له خصوصية معلنة أشبه بالاتفاق الوجداني بين القصيدة الحاكية لمتطلبات المتلقي بشكل عام، وبين الأثر التاريخي الذي يميز المستوى المتحد بالجناس الشعري أن يكون مقبولاً في كل زمن.
وفي طبيعة هذا التقدير نجد المعاني في نصوص السمان ذات فائدة بما يستفيض شجنها من المبنيات الحلمية في ثنايا النص، من حيث اختلاف الطبائع باعتبار أنها تنسجم في موزونها ومعناها، بواسطة المنجز الفكري سواء أكانت في الإرادة الحسيّة على مبدأ المانع في المتوازي المبتكر في الصورة الجنسية، أم من معيون استحضار يوازن الإشارة المشبهة بالفعل الذي يتصف باليقينية، والمتصرف بالْهِبَة في اللغة الصوتية، وفي المنظور ذاته نجده يوازي التركيب المترادف بكونه يمكن جوهر اللغة من مرتبة العارف في أصول علوم الكلام حسب، وذلك في كليّة التفصيل المختلف في مجستاه البنيوية، بتعيين طبيعتها الحسيَّة في مساق مجريات توازي المرسلات البيانية للنص، التي تشد من وحدة المعاني كصلة تشد من البلاغة الشخصية بالتقفية المرتبطة بالإجمال المعرفي، حتى تستمد جماليتها البينية من طبيعتها ومهوى رموزها، وفي الوقت ذاته يكون التباين المتقابل يعالج تقدم الجمالية المنبثقة من المحسوس في الجزئية المتعدية، لأن نجاح النص الشعري غايته إصابة الغرض المقصود من التطورات الحضارية المتصلة بثقافة وحكمة الشاعرة في ميزاتها المتواردة من مطالعتها المختلفة في الآداب العالمية على اختلافها، كما وجد "شوبنهاور" تقدم النبوغ بين نص وأخر، وهو ذات الحال بنفس ما يقابل تميز السمان عن بقية الشاعرات العربيات، بعد أن فصلت الثوابت على أن الوجود المثالي يتصل بالنوايا الذاتية، على ضوء مساق المنفعة التي يجدها الشعر لازمة له، لأن المتقابلان المتضايفان معنيان في:
أولا: قابلية الامتاع من وازع ضرورة اقتضاء الذات في وحدة النص.
ثانياً: الجزئية المتعدية في ماهية الخيار الاعتباري في طبيعة الألفاظ التي تحاكي المعاني بوضوح تقني.
وكل من الحالتين يشي مدارها بحول الإمالة المرسلة لخصوصية الهوية الواضحة بتأثير تقنياتها الفاصلة، من خلال سمات لغتها وبيانها الثابت في مساحة الشاعرة، أما ما نلمسه في نواحي النص من منظور التحولات الرمزية في مواجهة الاعتناء في ضرورة المباح المتقدم في موضوعة المختار من الحب عندها، فيما يؤوله المعنى إلى رجيع صحة مبادئ الحلم المنعكس على بيان تصوراتها المعنوية،
1- الوردي، علي: كتاب الأدب الحي، دار هوارس، بغداد، الطبعة الأولى 2013، ص37.
المعبرة عن شدة الهيام في أغلب منتجها الشعري، لأنها تقدم تعييناً ماهيا تواجه به المتخيل النوعي إلى وجهة المحسوسات البصرية ابتغاء الاحتفاء بالحبيب المهيمن بأشواقها وذوقها النابع من صميم فؤادها بتأثيرات النزعات السامية المتعالية في رمزيها، حيث يتواصل المذهب الكلامي أن يشتغل على تضاد المرجعية الفكرية في التحولات المعرفية الجادة، بواسطة المبتدأ المَبْني على انعطاف الإيحاء من حيث النوايا مختلفة الطبائع، بواسطة إلقاء إيماء الصورة الصوتية بطبيعتها الدالة على المادة الإبداعية التي تشترك فيها الثوابت والمحصلات المبتكرة من واقع مرجع الشاعرة العائلي، بالتأثير الحاصل من خلال رؤية التبني للعلاقات الحبية ومخلصها الفكري، مع الافتتان بالتعيين والإيغال في حركتها وسكونها، المرتبط فنياً بعين تصف وتتمنى مقام المشاهدة، حتى وإن لم تكن تراه، فأنه في مقام القلب من الجسد، ويبقى هذا الهيام واضحاً عند شاعرة الحب والحنين، الذي لم يتوقف على الشعر وحسب، بل تواصل جناسها الأدبي فأبدعت في كتابة القصة القصيرة، والرواية، وبها تجاوزت أسلوبيتها السردية الكثير ممن تولعوا في هذا الجناس الحيوي والمهم في مكانته الأدبية، وعلى نحو مشابه نعتمد قول "بلزاك" الجديد بالتيمة التي صاغها وهي "حب الإنسانية"، وفي هذا يدلنا إدوارد سيبر حيث يقول: "ينتج مما سبق أنه ينبغي على المرء أن يراعي ممارسة لذة الإبداع في النصوص القديمة عنده، وعليه التعرف على مفهوم لم يسم بمصطلح معروف مسبقاً2"
لم أجد في شاعرية غادة السمان ما يخدش مجانسة التجاذب بين الألفاظ والمعاني المولدة، من حيث واقع طبيعتها المحتدمة بالأصالة الحيوية الموضوعة على أساس نظام متقن ومتقدم، خاصة في تبنيها المجاز اللُّغَوي التأملي المرسل من صورة المتخيل المركب الذي يحاكي ما يقترن بتنظيم الجملة الصوتية، فقد نجحت الشاعرة في تبني اللازم من وجهتين بما يتضمن المنظوم الوزني، والإيقاعي، والإغوائي، في بيان أسلوبيتها المتعدية، فأخذت تحاكي النفوس التي تمتاز بالتلقي في ثوابت العلم والمعرفة والدراية المحكمة تأملاتها، كتحرير المباحث التي تنتهي بالإرادة إلى الوسائل المعبرة عن التجانس العاطفي بالأدلة والحجج، بما يجمع التفكير من جهتين ذواتي إجمال يُغْني لغة الشعر والقبول بهما:
أولاً: الإصالة التي على أساسها بنيت وحدة القصيدة بالثوابت المحكمة في روح المعاني، والتي تبصر بعين جديدة تلك الأحوال النافعة في بنية متحولة يتم على أساسها مدلول القيمة المقترنة كمادة للتفوق.
ثانياً: المبتكر بأعلى مقام مختلف في حداثة تتوافق مع هدفها الذي هو الإيماء النوعي، وهذا في معيون الإرعاء الودي أن يكون هو المجس الملازم للعاطفة من إيحاء المتوازي بين التلاقي والهجر.
وبتقديري هذا هو ما يجذب الشاعرة السمان ارتباطها بالبيان الشعري والقصصي، وما ينتج عنه من تفوق محايد بين شاعرات جيلها، وخاصة هي من عائلة اكتنزت الفروق اللغوية في الأدب كحالة صحية تميز المرتبة بشرط الشيء، ولكن على ما يبدو انخفض المستوى في الشعر النسوي العربي في بلدها سوريا، إذا ما قورن ببقية الدول العربية مثل العراق والمغرب وموريتانيا ولبنان.
اقترن الشعر النسوي العربي أبان منتصف الخمسينات شغف الشاعرة بالجنس الحيوي الحالم على يد الشاعرة لميعة عباس عمارة، باتجاه خفيف سمي بالقصيدة الإباحية، ومن ثم تلقفت الشهرة به الشاعرة السورية غادة السمان بوضوح أكثر علنية، وقد أنتشر هذا اللون الرومانسي على مساحة أوسع من البلدان العربية وخاصة في المغرب، فأصبحت القصيدة النسوية تنال الجنون الملتهب بالحنية المشرف نظمها على العلن عند الحالمين بها، ومن الشاعرات المهمات جداً في هذا الاتجاه برزت الشاعرة اللبنانية جوزية حلو، فأصبحت تلك الدائرة تتوسع وتستنشق ذلك الهواء الإباحي واسع القبول عند الشباب، لأن تأثير تلك القصيدة الحلمية اقترن بالتشويش العاطفي لدى المرء بالإرادة العنيفة في فرض مشاعره بشتى الوسائل المستخلصة من الألفاظ الملبية للحاجة الفطرية الجنسية في خيال المراهقة من كلا الجنسين، بما يجمع وما يشتت حسب قيمة وقوة تمرد القصيدة، وارتباطها بالمفهوم المتخيل في صورته التي تصيب الهدف بنزوعها وثورتها الجنسانية، لأن ما يميز هذا النص البديل لا يرتبط بالألفاظ التي تشير إلى الأعضاء الفسيولوجية مباشرة، لأن ما يحتاجه العقل أن يعبر عن معيون دقيق الحذر في التسمية المباشرة، كما فعل الكثير من الروائيين العرب في هذا الخصوص "لا ضرورة لذكر الأسماء"، ومنذ ذلك الحين استقرت قصيدة الإباحة حذرة على محور تارة يتجاوز المألوف الاجتماعي، وفي أحايين أخرى لا تلتزم الشاعرة بالمبدأ الذي يمتاز بالحدود الخاصة، التي تقرر المساحة في كون البناء الفني يسمح أو لا يسمح، كما قرأنا قصائد الشاعرة الأندلسية ولادة بنت المستكفي وقولها المبهج في الإباحة:
"أنا ولله أصلح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه تيها
أمكن صاحبي من صحن خدي
وأعطي قبلتي من يشتهيها" 3

2- سيبر، إدوارد: نجلة الآداب الأجنبية، مطبعة اتحاد الكتاب والأدباء السوري، دمشق، الطبعة الأولى، 1999، ص72.
3- فروخ، عمر: كتاب تاريخ الأدب العربي، دار العلم للملايين، لبنان / بيروت، الطبعة الثانية ، 1994، ص 595.


فالواقعية الملزمة في حدودها تميز الاختلاف بين شاعرة وأخرى، من منظور الطبائع الإنسانية مختلفة الميول والفطنة والعبقرية والانتماء إلى الحضارة العقلانية، وما يلتزم به سقف التسميات اللفظية على قدر واسع من المزايا الايجابية وأهمها:
1- أولها وأهمها البيئة الاجتماعية المحيطة بالشاعرة ومدى تأثيرها على الفرد المقيم في تلك البيئة، وخاصة في العلاقة بين الشاعرة وعائلتها.
2- موسوعة الحرية التي تتمتع بها الشاعرة في قرارها المستقل في ممارسة حياتها الخاصة والعامة ضمن ارهاصات ذاتية تنوعت في معيون الجناس الأدبي عندها .
3- حصول الشاعرة على المتعة الثقافية المميزة التي تكتنفها المهارة الشخصية، ومدى سعة القراءات الخارجية للنص الأدبي في مجال لغتها المكتسبة.
4- الجانب العقلي النفسي الذي يتجانس بإحساسها مع الطبائع المختلفة والجديدة عند النحويين، بعين من منظور داخل حدود منفتحة توحي إلى المدى الذي تحتاجه النفس.
يمكننا بهذا الاختلاف أن نتأمل التام في الحساسية المركزة في البوح المعبر عن مروءة المعاني، الواضحة في بنيتها الباطنية والشكلية، بتعيين محاصلة التدوير في حقل الموهبة الشعرية، بجناس تضعه الأفكار أن تضفي على القصيدة سعة من التجديد في تطورات قد تكون شاملة، وقد تكون ذات نسبة معينة، لكنها وفي الوقت ذاته قادرة على توصيل فنيتها المحدثة للقارئ بسهولة، ثم بعد ذلك نبحث عن القيمة المؤثرة في تلق يزداد تشجيعا من وازع قيمة النص عند الشاعرة مهما كان أصلها وفصلها، حسب قوة تمرسها من معيون ثقافتها وقوة حالتها الإبداعية المركزة على فصاحة التيمة، وقوة تأثيرها على الحركة الأدبية العالمية، خاصة وأن الجامعات العالمية التي تختص بحقل الأدب غير منعزلة أو بعيدة عما دل على مُفَعَلْ الآداب الجنسانية.
نتناول من الشاعرة غادة السمان بعض قصائدها الإباحية، وندخل ضيوفا على النصوص المطلوب معالجتها من منظورنا في التدوير والتنقيح والتشذيب النقدي الحيادي، نناقش ونعالج المُخَيلات والرموز من حيث طقوسية المتعة المباحة في مزاجها، هذا لأن السمان تتمتع بأنوثة عليا تتجاوز الكثير من النساء إلى أفق يتخطى كل مأخذ بإطلاق، حتى يكون الاختيار حجةَ شكٍ يزداد خصوصية وحذراً لا يضر ولا يقرض، فيما نجتهدُ بطرح المنجز التشريحي على اتمه كونه قابضاً وباسطاً ومتعداً على ما يحيط بتلك المهارة الشعرية الجنسانية، من معيون نظرتنا العلمية متخذين من نصوص الشاعرة مدخلاً إلى المستعار والمجاز المُحْدث، أن يتداخل متمرساً يحاجي المقبول ببحثنا عن الممتاز في أي جهة تستقر فيها الشاعرية الناجحة، وفي الوقت نفسه نعلن أنَّ من الصحيح أن نبتعد عن كل ما هو ردئ، بشرط أن لا نكون كشرطي لا يرى أبعد من خطوته، ولا يسمع أبعد من صوته، لأننا لسنا في ساحة حرب يتظاهر فيها المنتصر على المغلوب، بل جهدنا يعتمد على أن نميل بالنقد الثقافي إلى جانب المتلقي عندما يتجه بتلقيه الحاصل بالإفاضة، حتى يكون الأمر يحتمل المقصود فيما نطرحه بالتقدير والتصريح، ليكون النص الشعري واضحاً بعين القارئ، وبعيداً عن التعريض أو إخفاء المعاني في القلب، كما يقال: "المعنى في قلب الشاعر" بحساب أن الناقد لا ينهى عن أسلوب اختارته هذه الشاعرة أو تلك، لأن الغريزة الشعرية بعث البلاغة في الكلام أن يغترف منها المتخيل الفطري، إفاضة تقضي بأن الشعر خليق موهبة، أعدت خصوصيته بما أجازه العقل من تصورات ذهنية، حيكت بدراية وزنية وإيقاعية مطرزة بلغة سادرة في معانيها وحكمتها وفصاحتها، حسب قدرة النص على إرضاء التلقي من وسائط المعترك الأدبي ومحبيه بصورة عامة، إذن فالقصيدة تقع قائمة ما بين الناقد والشاعرة موقعة تفرض ما يناسب الحالة العلمية المبتكرة في المُحدث الجناسي الشعري بصورة محكمة، وما يقابلها من المنظور النقدي الحيادي، ولا جناح على الناقد فيما يعرض من تصافح أو تصارع بينه وبين النص المعنون:

تتقاعس الكلمات في قعر المنشأ...

ترتد الآهات حيث لا تدري
يتلون الأسى في وجهي
احباط شامل يحتل أعضائي
تصرخ مساماتي
تختنق
تحترق
تفرش شراييني أريجها الأحمر
فوق أساريري المتلفة
أضحك بصوت باك.. شاك
تتطاير بوتقة الرغبة في نفسي
شررا
شهيا
إذن هي الشكوى في طرح الإفراغ المعنوي، والأسى العاطفي، يقابلها الإحباط النفسي، وذلك بسبب إيضاح ما كان مستوراً، وحالها يختنق ويحترق مكثراً في نفسها الألم، آمله أن تستعير الصبر متمثلا بالكناية والإقدام على الثبات، وعدم الفرار من الواقعية التي تجدها محبطة، وفي شكواها تجد الكلمات تبحث عن التفسير في ذاتها العاشقة من حيث لا تدري، مع أن شؤون الشاعرة حبلى بالمفاجأة العاطفية السادرة، ومعنى هذا يشير غرامها إلى الدفع والغلبة بالمعنى الوارد في جميع شؤون حالتها الاجتماعية، فالحقيقة محمولة على الغيرة التي أوضحت في بيان الشكوى على وجه أكمل ما تريده الشاعرة أن يتوضح بأي دافع يمكنها الوصول إليه، في قولها المغرم بالمجاز اللغوي الحائك لمعانيه في شكواها: "يتلون الأسى في وجهي / احباط شامل يحتل أعضائي / تصرخ مساماتي / تختنق / تحترق" وفي هذا التهافت العاطفي يأخذنا الشاعر جميل بن معمر وهو ينادي حبيبته بثنة
أرى كلَّ معشوقين غيري وغيَرها - يلذان في الدنيا ويغتبطان
وأمشي وتمشي في البلاد كأننا - أسيران للأعداء مرتهنان
أصلي فأبكي في الصلاة لذكره - لي الويلُ مما يكتب الملكان 4"
وهذا معنى عام يجده العاشق لذة في العتاب والتقرب بمزاج يصل إلى الراحة بعد عناء، عندما يتنبه له الإنسان وقت ظهور الصد والهجران، وما يكون فيه المطلوب من لذة لقاء الشهوات والميول ونحوها، ولأجل هذا الوداد تشرع المغرمة تزاحم الرجاء حتى يضنها الحبيب أن حبها له مشتهاة تقربه منها، بعد عناء في إيجاد وصل ينتفع منه في تحميل الطرف الثاني لإرادة على غير ما يحتمله أن يسترد ما ملكته نفسها من إحياء العلاقة الماضية، باعتبار الحب أصل فطري يبدأه النظر ثم يوازونه العقل، حتى يكون اللقاء منصباً بالتراضي بينهما في قولها: "تتطاير بوتقة الرغبة في نفسي شهبا" عندما يكون التمني شرراً شهياً، اتمه إلى ما تشاء النفس من غريزة تكتمل الشهوات فيها عند لقاء الجسدين تحت الشمس، فيكون الحب واضحاً، وهذا شعور عام يلامس الخلوة بكونها عبادة، وذا يتمثل في الحياة الثابتة فالقيام على هذه الحالة هو حفظ العلاقة بالتدبير والترقي المعرفي المجتمعي، ولكن ومن منظور شخصي تحتسب العلاقة خلافاتها، فتظهر الشكوى تلامس الترجي أو طلب العفو عن تصرف قد لا يكون محكماً، لأن الحالة النفسية بظاهرها لا تتخذ من الأفعال المتتبعة للتسامح شرعاً وعقلاً، التي من شأنها أنْ تحابي الصد الدائم، يقول عالم الاجتماع د. علي الوردي: "أن العقل البشري لا يستطيع أن يعني بأمرين متناقضين في آن واحد إلا نادراً، فهو لا بد أن يقلل من عنايته بأحادهما إذا أراد ان يركز اهتمامه في الأمر الآخر.5" وعلى ذات الإيقاع الفني نتابع السياق المؤلم يجانس الاحتراس الذي يؤتي ربما بالوهم أو الظن خلاف المقصود في العلاقة في قولها:

تشرع جهنم بالتهامي
تذيبني الحمى
عصيرا من الألم المتقرح
فوق شفتي
ترتسم ابتسامة
رمز احتضار
رمز انتظار؟
أتلقف أوجاعي
أحتضن دموعي، وأدعوك
أدعوك بكل الألم الذي يجسدني
بكل العذاب الذي يخلدني
أمثولة للحزن الأبدي
بكل آهاتي .. ولوعتي
وتتوالى.. تتوالى.. دعواتي
وبعد طول انتظار
تترنح فوق أعتاب الخيبة
بقيتي الباقية .

تتوالى دعوات الشاعرة من منظور ذات الأسباب التي بدأت بها قصيدتها، وإلزاماً منا أن نتابع الإدغام في أداء اللاحق فيما يحترز به الكيان القائم بالإدماج الدال على سياق يوحد المعنى، في محاولة لفك الخلاف وإطلاق العلاقة أن تعود إلى الأصل وإن كانت بعد طول انتظار، ونحن نشارك الشاعرة مرتبتها العاطفية الإنسانية فنجدها تعطف ميزتها الظاهر على حالتها، وتدعوه أن يعطف ولا يجعلها تتلقف أوجاعها، ومن خلال هذه المناداة التي تجدها عميقة التجلي في خصوبتها أن يعود، لذا أصبح حكم الهجر لها غير ذي شأن،
4- جميل بن معمر: كتاب فن الشعر، الدار المصرية اللبنانية، مصر / القاهرة، الطبعة الأولى 1991، ص87
5- الوردي، علي: الأدب الحي، دار هوارس، الطبعة الأولى 2013، ص88.
بكون الحبيب ضعيف في أمره، وربما مغيب بأحوال تتصرف بها العلل على خمسة أضرب وهي: تأكيد الشيء،
وصفة العلاقة، واحتراز الإرهاصات الحبية، ومنال القلب، والعطف الأزلي، مع أن الشاعرة تطلب الشفاعة التي تتأثر بالنجوى في موارد العطف والحنان، إن كان الضمير يصون الوداد، فعطفه كناية عن إحاطته بالملموس الغرامي المؤثر في حاضر نيته، وعليه فالشاعرة تتوالى دعواتها بعد طول انتظار، لأنه ربما لا يحيط بشيء من علاقاته الاجتماعية ميول لها، ولكنها ما زالت تعالج نفوره رغم الصد في قولها وهي: "تترنح فوق أعتاب الخيبة / بقيتي الباقية" وفي هذا الخصوص تجدنا وقد تبنينا تمام الإحاطة بما شاء النص من توسع المعاني واحاطتها بالسلطنة الشعرية المؤلمة، تلك الملحمة التي تعاين الأثر المستمسك بالمراد لربما ينفع بعودته إليها، حيث أن مقام العتاب عندها يقوم على أنها درجت مملوكة إليه، حيث نجدها في المعنى تروم حول كيانه وهو مدبر ربما لا يحكم فيها الاكراه، لكن طريقه اتضح بعد أن تبين الأمر في سياقه، وعلى هذا لا موجب أن يكون الانفصال اجبار عليها، هي قد تسعى إلى كشف الحقائق التي أصبحت موهمة وغريبة بعد علاقة نافعة وطويلة على ما يبدو، ثابتة بروح المعاني الموجبة، تلك الموضوعة لغتها على الاستعارة في هذا النص بعد أن كانت واضحة بمنزلة أعلنت له عن نفسها، خاصة في بعض سجعها حيث تقول: "أدعوك بكل الألم الذي يجسدني / بكل العذاب الذي يخلدني / أمثولة للحزن الأبدي / بكل آهاتي ولوعتي / تتوالى دعواتي"، ففي هذا الاتجاه تبتغي المراد مرضاة حبا لها، لأن نيتها خالصة له ثابتة في نفسها، وأن ذاتها العاشقة لا تتخلف في نموها عن أثره الحسن.

قصيدة:
حين أفكر بفراقنا المحتوم...

" يبكي البكاء طويلا ويشهق بالحسرة"
بالحسرة بالحسرة بالحسرة ،،،
أية قوة جهنمية تشدني اليك
وأرفض التصديق انها تنبع من خارجي
وأرفض أن يقال
انه القدر يرميني اليك...
أنا أنقذف نحوك
كوكبي يرتطم بكوكبك
أنا اخترتك
أنـــــــا؟
أم انني لست حرة حقاً
وخيوط لا مرئية تعبث بقدري وقدرك
وبعد أن كان قطار حياة كل منا
يمضي بهدوء على سكته
تتقاطع السكك فجأة
ونرى بوضوح
أنه لا مفر من لحظة الاصطدام
والانفجار والاحتراق والدمار
وربما دمار من حولنا
ولكن أحبك
لا تحدثني عن البارحة
ولا تسألني عن الغد
وربنا أعطنا كفاف حبنا
وقال لريح الفرح أن تعصف بنا

لا شك أن هذه القصيدة اعتمدت الإيقاع التصويري بتلاحق الصور الشعرية بعناق مؤثر الحسية في معانيها، وفي هذا قفشه ذكية للبعد الرمزي وكأنها تمسك الشكوى البدائية من رأسها، أي أن الانسان لم يكن يعي كيف يطاوع مشاعره، ليس هذا فقط بل السبب أيضا في الاستسقاء العاطفي دون استئناف في تنقيح العلاقة، خاصة وأن هذا الألم نجده يقوم على حجة أو بسبب في أغلب قصائدها، وهذا الحصر يأخذنا إلى القلق البدوي في المنع والحبس والتعفف أي التلبس بالعفة، والطرف المتكلم في السر والعلانية متقابلان والتقدير في المعنى "يبكي البكاء طويلا ويشهق بالحسرة" وتعيد تيمة "الحسرة" أربع مرات وذا ما يترتب عليه من مثوي الحياة الخاصة، مع أن المدينة فيها الناس لا تكتنز الأمر الوهمي على سجيته، ويبقى الزمن على علاته يستمر بواقعه المؤلم، وليس ذو وهم يفقد أو ينقص، معادلتان كلتاهما تحاجج الأخرى والتقدير مسريِّن أو معلنيّن، والسؤال في الصورة: "أي قوة جهنمية تشدني إليك؟" ذلك أن الشاعرة تحاكي نفسها بالمشبه به من معيون حواسها الداخلية، وكأنها تقيم في اللاوعي تأملاتها، لأن تيمة "جهنمية" لا تبصر الخارج عن نطاق الضياء، وضمن هذا السياق عرجت الصوّر على استحضار العتب في العلاقات الاجتماعية العربية، بقولها وحالها كمن يستوفي الموازنة أن تصالح معيار النص بالمستعار من قولها: "وارفض أن يقال / أنه القدر يرميني إليك"، إذن ما مصير خطوة الشاعرة في استيفاء الحجة عليه؟ وطلب في ابتغاء مرضاته، لأنها اختارته بأمر يكون كقيام في حياتها موعظة كحكم سابق، فأن الولع يضطرها أن يختل عندها طبيعة الرجاء، أما الأجمل في هذه الصورة الشعرية قولها: "وبعد أن كان قطار كل منا / يمضي بهدوء على سكته" وحال الشاعرة في مقتضى السياق تعني التمني والوضوح في علاقتها وهي تشير عليه تعال أن نقيم في الدنيا لنجعل من أبوابها مشرعة، وأمهارها مدفونة في الغيب، وقناديلها مضيئة في العين، ما يستقبله المراد وما تطلبه من علاقة في مقام الامتنان له.

سنسمعه حزينا ومهيمنا كجرس كنيسة
وستدوي أصداؤه في أرجاء روحنا المكسورة..
مادام الفراق
ضيفنا الثقيل الذي لا مفر من حلوله
تعال
ولننس كل شيء عن كل شيء
إلا " اللحظة "
وأنا وأنت،
أيها الشفاف النابض
كلهب شمعة...
إرم من يدك قبضة خنجرك
وخذ بيدي..
ومد جسورك إلى لحظتي
وقل لأحلام الحب الأزلي
لا نريد غداً ولا رشاوي مستقبلية..
نحن سكان مدن الريح والموج
كل منا جسده مدينته...
وليحتلني جرحك
ولتنحدر دموعك من عيوني..
إلى داخل شرايينك هاجرت
واستوطنت تحت جلدك
وصار نبضك ضربات قلبي
ولم أعد أميز بين الخيط الأبيض والأسود !
وكان جسدك بحراً
وكنت سمكة ضالة...
ولم أكن لأعبث بك
فأنا أعرف أن من يلعب بالحب
هو كمن يلعب التنس بقنبلة يدوية ! ..

تستمر الشاعرة السمان تتلو النغم المعذب من إيمان إيجابي إلى إيمان سلبي، خوفها من اتجاه الحبيب إلى العبث في طريق يمانع ودادها، وذا تعليل يبن التوطئة في لوحة نجواها بقولها: "تعال / ولننس كل شيء عن كل شيء / إلاّ اللحظة أنا وأنتَ / أيها الشفاف النابض / كلهب شمعة / إرم من يدك قبضة خنجرك / وخذ بيدي" تحاول الشاعرة أن تستدل على المطلوب بدليل حبها المجرد من المصالح الخاصة، يدلنا فردريك نيتشه إلى رأيه: "يبدأ الإيمان بالحقيقة بالشك في كل الحقائق التي كنا نؤمن بها حتى ذلك الحين6" وهذا لا يحتاج إلى شاهد لأن غرامها له يسند تجربتها الشعرية، الغنية بما يستلزم تصورها له اكتساب حقيقة العلاقة، فقد بنيت لها دعائم تحتمل المتغيرات الفنية، والنقدية، وحساسية الطبائع، من حيث تنوعات الأجناس الأدبية في قاموسها، الذي أدى إلى فعل تأثيره على الآخر بامتياز، ولم أجد في شعرها ما يخل في البناء، أو يلازم التصادم السلبي بين شفافية المضمون وجمالية الشكل، باستثناء تكرار التأويل المستمر بالتيمة المتشابهة والشكوى العضوية، ولكنها بدون شك بارعة ومقنعة، خاصة عندما تحاكي بأعيانها اللفظية التقدير المخصوص بتصريف الاستقراء والتحديث فيما تراه لغة الرمز حاصل في واقعه بجواز التحديث، لأن أسوبها يستحسن الإطلاق أن يشي إلى فصاحة المُتابع،
6- نيتشه، فردريك: العقول الحرة، دار أفريقيا، المغرب / الدار البيضاء، الطبعة الثانية 1999، ص15
وحالها مسوق في التحكم تارة بالصورة البيانية، وأخرى ذات حمل يجانس اللغة الصوفية، في قولها: "ليحتلني جرحك / ولتنحدر دموعك من عيوني" صورة محكمة الاستدارة الفنية في جواز يوعظ للمجاز العقلي أن الدموع التي تنحدر من عيونه هي دموعها، وهذا حكم سابق للتضحية من أجله، وفي ذات التصوير البلاغي تقول: "وصار نبضك ضربات قلبي" الصورة تتباين في تأكيدها المعنوي من نبضاته التي هي نبضها، تحاكي التخصيص الحسيّ لشاعرة تشئ بعضها لبعضه، كما لو أن الجملتين تناجيا الحالة سواء بسواء، والأمر عندها واجب من حيث موضع التداني أو التلاقي، بكونه يمثل بعده على ما يدل على توظيف المستعار من المنظور العاطفي، بواسطة التناغم بين الصورتين في محاكاة الضمير لما تتفق فيهما لغة التوالي في نهجها ومعانيها المركبة وتجلياتها العفوية.
وفي قصيدتها تستدير إلى أن يمنحها الرغبة في الحياة في قولها: "ثمينة هي لحظاتنا / كل لحظة تمضي هي شيء فريد" هو كلام مستأنف مسوق على ضوء النصيحة، فالمراد من الحبيب أن يحتفظ باللحظات الثمينة كبرهان على ميوله إليها، بكونها تمثل الصيغة المحركة للتعيين العاطفي، لأن تلك اللحظات استثناء جائز يقتضي حلاً وتوافقاً اقتفى حيث يكونان معاً، نتابع في المقطع التالي حيث تلاقي اللفظ بالمحاكاة والأدلة التي تثيرها المصبات النحوية في جدليتها:

ثمينة هي لحظاتنا
كل لحظة تمضي هي شيء فريد
لن يتكرر أبداً
فأنت لن تكون قط كما كنت في أية لحظة سابقة
ولا أنا..
كل لحظة هي بصمة أصبع
لا تتكرر...
كل لحظة هي كائن نادر وكالحياة
يستحيل استحضاره مرتين...
أحد مثلي يستمتع بالحب
لأنه لا أحد مثلي يعرف معنى العذاب
لقد مررت بمدينة الجنون
وأقمت بمدينة الغربة
تميزت الشاعرة غادة السمان عن شاعرات عصرها بالقصيدة العاطفية المفتوحة على الألفاظ الجنسانية، فاستخدمت الرموز ملهاة لصورتها الشعرية، وقصائدها في هذا الخصوص عديدة لا مجال في دراستنا لها جمعاً، كون الشاعرة بحاجة إلى دراسة نقدية مستقلة واسعة، خاصة في حال حصولي على ما يعينني من مؤلفاتها من الدواوين الورقية، فأنا قليل القراءة على صفحات النت الإخواني والشللي، فقراءاتي أغلبها من عيون الكتب، ومع هذا أجدني مضطرا في أحايين كثيرة أحابي لجوئي إلى المواقع الإلكترونية لأستحصل منها على أعمال هذه الأديبة أو تلك، خاصة وأن السياق يأخذ الجانب الإنساني في البحث بين نص وآخر، أما التوسيع فجاء في الاختلاف والتفاوت بين ظاهره وخافيه، وهو لا يخلو من الإشعارات بأن المراد بما في النفس تلك الصفات والأحوال النفسانية منها المستفزة، ومنها الراغبة للتقرب، والحقيقة أن السؤال الذي يواجه كل شاعرة في المكان العربي، هل أن علنية المشاعر مباحة؟ ولكن الذكاء الذي نلمسه في نصوص السمان يتجاوز الشجاعة إلى الإباحية التي تناسب الإطاعة لما هو فوق طاقة الحال الاجتماعي بالتمرد والمواجهة، إذن فالشاعرة تجاوزت المؤاخذة والحمل والتحميل من التهم والتشويه، فالعصمة لأهل الدين وليس على الشاعرات عصمة تحيلها إلى التنبيه، وحتى لا يؤخذ عليها المباشرة، نجد السمان عمدت على إحاطة النص برمزية ذكية عطفت المعنى على مصفاة مادية ترسم لوحة الحياة، في قولها: "كل لحظة هي بصمة أصبع / كل لحظة هي كائن نادر آخر"، إذن فقد اتخذت الأصبع رمزاً للتعريف، باعتبار أن جمالية البصمة باقية إلى أمد الدهر كما لو أن الاعتبار يقارن الطبائع اللامشروطة، وفي الوقت نفسه تصبح البرهنة ناجزة في معيون الذاكرة، فهو قريب من معرفة المعنى لأن إفراد القلب على المحبوب هكذا يريد أن تبقى اللحظة بينهما كائن نادر.

وامتلكتني مدينة الرعب زمناً
واستطعت أن اغادرها كلها من جديد
إلى مدينة الحياة اليومية المعافاة..
ولكنني خلفت جزءاً مني
في كل مدينة مررت بها
وحملت جزءاً منها في ذاتي
وأنت كلما احتضنتني
احتضنت الجنون والغربة والرعب
ويدهشك أن ترتعد حين تكون معي؟
تعال يا من اجتاحني كالانتحار
وهيمن على حواسي كساحر..
وأعطنا حبنا كفاف يومنا...
***
انطلاقاً من صيغة استخدام العلوم اللغوية عند الشاعرة السمان فقد شكلت موسوعة حققت منها التبليغ البلاغي المجرد، ووسعت من الصرف العربي في تمكين الأوزان من بلوغ غايتها واتحادها وإيقاعها، خاصة تحرير الألفاظ من معان قليلة الشأن التي لا تبعث الشعور بالرضا، وذلك بتوافق جناسها الصوتي المركب في البنية الفنية، التي اعتمدت الصائتة مفتوحة لملقحة البنى الداخلية بالشكل المختلف في نظمه، حتى تستمد القواعد الاشتقاقية حسب السعة الصوتية في الجملة الشعرية، وهي بهذا الحال صَيَّرَتْ قصيدتها على أن تكون ناطقة بالصورة الحاكية، وبالصوت المتنقل بين الجمل في وحدة القصيدة، باعتبار أن الحركة المتصلة بالعلوم النحوية ضرورة أن تنطق بها الألفاظ كل حسب حروفه الصوتية، نقرأ هذه البلاغة الفنية في قولها: "إلى مدينة الحياة اليومية المعافاة / ولكنني خلفت جزءاً مني / في كل مدينة مررت بها / وحملتُ جزءاً منها في ذاتي" ارتبطت الصيغة النحوية بلذة سلسة المجرى اللغوي في مقطعين صوتيين منفتحين على الاشتقاق المكاني أي المدينة، بما يتعلق بوجود اقامتها، وما تركت من مصاحبتها التي انزلت معانيها من فيها تنزيلات تصاحب ولا تفارق، بحكم تأثير المجاز المحكم في لغتها من حيث استدارة الاستطراد على وجه يحاور مصدر الفعل في المعاني، لأنها أخذت من المدينة جزءا منها، وفي الوقت ذاته تركت جزءا من أحوالها في تلك المدينة، فأصبحت هي المدينة من معيون القيمة الحاصلة بين ذات الشاعرة، وذات صحبة المدينة منها وعليها، من دون تغيير في الصورة التي حاكت المعنى بالمعنى، حتى ترجع تستنبط الأثر الوجداني أنْ يتبنى تعيين الغاية منها، أن تتصير الحكاية نفسانية في متخيلها المباشر، بحسب أصل المتشابه بالمشبه به أي المدينة.
تشهد الشاعرة السمان على نفسها بالقسط القائم على أفعالها، بعد أن أسلمت جسدها لكل الرجال دون تحديد من القربى أو من غيرهم، فتكون السعادة عندها عادة جنسية جارية فيما بينها كأنثى وبين الرجل لا على التحديد في تصريحها، وهنا نختار منها ما يشتمل على تخصيص الإثارة في الصورة الشعرية.
وفي القصيدة التالية نمتع قراءتنا:

أشهد على جنوني...

أفتتح الحب بك والفرح
واتوجك
في مملكة الذاكرة أميرا
يرفل في حرمانه..
رعيته من العشاق والازهار والعصافير
والقواقع التي تغلي حياة سرية
داخل اصدافها القاسية البكماء
على شطآن حارة لبحار منسية...
***
افتتح الضوء بك
واشهد بانهيارات اكواخ وطني...
وشظايا زمني
وبليالي الغربة في فنادق القطارات
اشهد بالتشرد
وعزف المتوحدين في المحطات
اشهد بالقتل والدمع الأسود بالكحل...
اشهد بالبوم اللطيف وبحبري
واوراقي وخواتمي وغيتاري
***
اشهد بالنوم على بركان
وبممحاة النسيان
اشهد بالبجع والغزال والقارات والعناصر
اشهد بالعاصفة تطاردني
وبالشراسة المائية المعدنية الحجرية تحاصرني..
***
اشهد بدمي ودمك وسلالات الاسرار
ومواقد العشاق في البراري
اشهد بالبحر
والنجوم في ليلة صحراوية صافية
اشهد بالشاي البارد في مطارات الوحشة
اشهد بكل ما احببته او كرهته
بكل ما طعنني وطعنته
اشهد انني احبك
***
اعتادت السمان أن تعيش في مجال غير مغلق، وكأنها تمثلت بهذه الحرية كما فعل شوبنهاور بنزوعه إلى جدل الاختلاف ضد عبادة التَدَيّن، وهذا النزوع جعل من الشاعرة أنْ تنطلق بالفكر النهضوي إلى ما يعبر عن حرية الرأس، وهي تتبع الأسس المادية للتغيير، من منظور حياتها الانقلابية على الواقع المحيط بها، وفي ذات المعنى نجدها متمكنة من التعايش على مواجهة المصادمات الحاصلة في التشكيل المجتمعي القاسي، فقد بنيت أسلوبيتها على دعائم تحتمل المتغيرات في مواجهة العادات والتقاليد وحساسية الطبائع القاسية، من حيث ممارسة التبصر في تحويل شعورهم إلى اتجاه أكثر عدوانية خاصة عند بعض المجتمعات العربية إلى هذا القدر من التخلف المفرط، الذي لم يستفد من أية فائدة فكرية كانت أم سياسية، حتى أن البعض صوّر التأثر الإيجابي بالبلدان الغربية، من حيث توسع تلك المجتمعات على مختلف التطورات في مجالات عديدة بالتأثر المعيب، ومن خلال هذا الاختلاف تجلت رؤية الشاعرة في تحسين رؤيتها التنويرية من منظورها الذهني الناجم عن الوعي الجمالي، بتقديرات السعي وراء حرية الرأي الخلاقة الدالة على انفتاح تلك الموسوعة الحضارية اللازمة حيث نجد السمان واضحة في مؤثراتها الشعرية في قولها: " أفتتح الحب بك والفرح / واتوجك / في مملكة الذاكرة اميرا / يرفل في حرمانه"، وهنا حققت الشاعرة الاسناد الخبري وهو ضم المعنى إلى ما يجري مجراه بعضه بالمطابقة، التي تحكم السياق بين شفافية الألفاظ وجمالية تثوير المعاني الجادة، وهذا ما يدل على المادية الجدلية بما وضعت له من اشتقاق الفعل من شرعية المُعَرَف الفلسفي، من منظور براعتها الذكية الموحية ببعدها الثقافي العائلي الدال على منحها حرية التصرف في لغتها الإباحية المتألقة في تجسيم الصورة الحسية، تلك التي تحتشد في أجزائها العميقة في خيالها الذي يطارد الذكور، وفي كثير من الأحيان تكشف عن خصوصية الأماكن التي جمعتها في حضن الحبيب، سواء أكانت تلك الأماكن ليلة في الصحراء أم تحت النخيل أم غرفة في القطار في قولها: " افتتح الضوء بك / واشهد بانهيارات اكواخ وطني / وشظايا زمني / وبليالي الغربة في فنادق القطارات / اشهد بالتشرد / وعزف المتوحدين في المحطات / اشهد بالقتل والدمع الأسود بالكحل".
إذن تلك هي العلاقات الحبية العلنية بين الرجل والشاعرة وهو ما توده وتسعى إليه شاعرتنا السمان، فالحرية الجنسية هدفها ومبتغاها وثقافتها، ولكن ليس كل ما تتمناه النفس يصبح واقعاً، خاصة في عمق الاختلاف في زمن لا يسمح به الموروث المعقد كما هو الحال في المجتمع العربي، مع أن الكثير من الشعراء كتبوا وشكوا من المكان والزمان باختلافات جناس تلك الكتابات الشعرية ذات الوقع المؤثر بجديته وإيثاره على التلقي، وتبقى أفكار السمان التحررية شاخصة على صفحات التاريخ الأدبية، خاصة بعد أن اهتدي وزنها دأباً ملحاً على ما يعينني اليوم على تناولها، ولكنني استفدتُ كثيرا من متابعتي لموقع الحوار المتمدن بالذات في أحايين قليلة، لأن الشاعرية التي تتقنها السمان هي أنموج يتصف بالوحدانية الجريئة في نظمها وأسلوبيتها وفصاحتها المحمولة على بلاغة بنية المعاني أجمعها، ففي قولها الجريء نقرأ: "أشهد بدمي ودمك وسلالات الأسرار / ومواقد العشاق في البراري / اشهد بالبحر / والنجوم في ليلة صحراوية صافية / اشهد بالشاي البارد في مطارات الوحشة / اشهد بكل ما أحببته وكرهته / بكل ما طعنني وطعنته / اشهد أني أحبك" تمتعت الشاعرة بالصيغة اللغوية في اشتقاق ينطق بقدرته على التنظيم المتصل بأدواتها الحسيّة الصوتية، ولا شك فأن السمان تختزن اللفيف الإيجابي من مفاتيح النظم السياقية الحاصلة في الصرف وما ينطق به النص مما يقابله من خصائص تتميز بها الصورة الشعرية، خاصة في المناداة من لغة ترتل متعة الأدب الجدي العميق، بوازع جمالية الألفاظ الخصبة بمعانيها.

اشهد بسكين البوصلة وليلة الشمس
اشهد ب " نعم " و "لا " وبالعودة الى التفاحة
اشهد بفجر القلب العاري والمرايا المكسورة
بوادعات مكهربة بعناق اللغم بمباهج السم...
اشهد بنزوات مطلقة الصراح
حتى جنون الصحو
***
اشهد بالعصافير تطير من عينيك
الى قلبي
اشهد بقهوة الصباح معك
ذات فجر غابر في الحي اللاتيني
اشهد بالثلج
فوق تلة " مونتماتر وسلالمها
اشهد بأصابع الرسامين
الملطخة بالأصباغ والنيكوتين
وهم يرسموننا معا في ساحة " التيرتر "
اشهد انني احببتك مرة .... و ما زلت..
***
و اذا انكرت حبي لك
تشهد اهدابي على نظرة عيني
المشتعلة حتى واحتك
و اذا تنصلت منك
تشهد يدي اليمنى على اليسرى
و اظافري على رسائل جنوني بك
و تشهد انفاسي ضد رئتي..
و تمضي دورتي الدموية عكس السير
ضد قلبي
و تشهد روحي ضد جسدي
و تشهد صورتي في مراياك
ضد وجهي...
و تشهد الأقمار الطبيعية و الاصطناعية
ضد صوتي
***
و حتى يوم اهجرك او تهجرني
لن املك
الا التفاتة صبابة صوب زمنك...
لأشهد انني احببتك مرة ... و ما زلت
---
التزمت الأديبة السمان في هذه القصيدة باللازمة "اشهد" التي تحرك الصورة الشعرية على مهوى القيمة الصوتية التي تنادي القارئ للاتصال بها، حيث تكون القصيدة أشبه برغيف خبز يتوزع بقدسيته لمن له حاجة، فكان التدبير في لغتها حسن التوزيع بالتداني من جملة طويلة إلى جملة قصيرة، ورما من كلمة واحدة، على أن تذكر معنىً ملائما للمشبه به بالتخصيص والهداية، أو في مهوى آخر تستدعي رمزاً يرشح في دائرتها الشعرية الحاجة الماسة إلى لغة التداني والترتيب، غير منقوص بالتوافق المراد أن ينظم الإسماع بظاهر الوزن والتقنية التي يطلبها نظم الكلام من تلك الصور المؤثرة في تداورها وحسيتها، ففي قولها نقرأ تصوراتنا: " اشهد بفجر القلب العاري / بوادعات مكهربة بالعناق / اشهد بنزوات مطلقة الصراخ / حتى جنون الصحو" وبهذا فقد حددت الشاعرة وفقاً للقواعد التوليدية أو التحويلية في الوصف وتصرفها في اللغة وذلك بالإشارة إلى الترصيع، الذي يشتمل على طلب العناق الدائم بفعل يثير الحاسة الجنسية للمكان سواء أكان هذا المكان على الرمال أم على ساحل عار وخال من العيون، فالحاصل في هذه الصيّغ الإنسانية هو بوح الأنفس المقتولة بعطشها الجنسي، بما أن الخلوة بين المرأة والرجل هي أشبه بالمعبد الذي تأممه الأرواح الهائمة بالشذرات المشاعرية، فذكر النزوات مطلقة الصراخ بتعبير واقعي عند حصول الوحدة بين الجسدين، ففيها تأخذنا الشاعرة إلى بلاغة قولها "حتى جنون الصحو"، يقول الناقد يوسف سامي اليوسف على أن: " الحقيقة أن موضوع النوى والبعاد هو موضوع الفراق إياه، موضوع المسافة المتاحة أو المرأة الراحلة أو النازحة إلى أقصى الأقاص، والحقيقة أن هذه البرهة شديدة التواتر في الشعر التراثي كله.7" تسيد هذه الجملة على الواقعية الطيعة والشفافة، خاصة وأن السياق جاء يأخذ الجانب الإنساني، الذي يؤنس العطاء للمتلقي على اعتبار بيان المعنى التوليدي لاشتقاق التوشيع بين معنيين، لأن التأويل أصبح واضحاً في أن الأرواح المجيبة للعطاء تمنح القدسية الجنسية الحاصل المعروف في حياة الإنسان.
7- يوسف، سامي اليوسف ، كتاب ابن الفارض، دار الينابيع للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 1994، ص 72.
8- ت، س، إليوت: كتاب إليوت، ترجمة يوسف سامي اليوسف، دار منارات للنشر، الأردن / عمان، الطبعة الأولى 1986، ص 65.
قصيدة صباح الحب...
---
وتنمو بيننا يا طفل الرياح
تلك الالفة الجائعة
وذلك الشعور الكثيف الحاد
الذي لا أجد له اسماً
ومن بعض أسمائه الحب
منذ عرفتك
عادت السعادة تقطنني
لمجرد اننا نقطن كوكباً واحداً
وتشرق علينا شمس واحدة
راع انني عرفتك
وأسميتك الفرح، الفرح
وكل صباح انهض من رمادي
واستيقظ على صوتي وأنا أقول لك:
صباح الحب أيها الفرح
***
ولأني أحب
صار كل ما ألمسه بيدي
يستحيل ضوءاً
ولأني أحبك
أحب رجال العالم كله
وأحب أطفاله وأشجاره وبحاره وكائناته
وصياديه وأسماكه ومجرمي وجرحاه
وأصابع الأساتذة الملوثة بالطباشير
ونوافذ المستشفيات العارية من الستائر...
لأني أحبك
عاد الجنون يسكنني
والفرح يشتعل
في قارات روحي المطفأة
***
تتصرف الشاعرة من أجل الأَعيان المضمونة إعتاقها من أجل التداني الدائم بينهما، بالإخبار إلى أن ما كان في الماضي أن يستمر قائماً على تلك الألفة، بيد أن الماضي يحاصرها بذكرياتها، هذا لأن الزمن كفيل بتفريغ المشاعر من محتواها، حتى إذا كانت بالقسط ستنتهي، فلا عدل في الخلق إلاّ الرجاء في التلاقي الودي، فالابتعاد والاعتراض على الآفاقية والأنفسية التي ملأت ورسخت الهجر في معنوية الروح، بينما نجد الشاعرة تنشد السعادة والألفة معه تحت قدسية "الحب" في قولها: "وتنمو بيننا يا طفل الرياح / تلك الالفة الجائعة / وذلك الشعور الكثيف الحاد / الذي لا أجد له اسماً / ومن بعض اسمائه الحب / منذ عرفتك / عادت السعادة تقطنني." وأما الاختلاف فلم يكن عن جهل يكشف عن حقيقة الحب بين العاشقين، وإنما ما حملهم على ذلك الفراق كون الحبيبين في حيزين يمكن التفاصيل بينهما، وفي هذا ركزت الشاعرة على تصور حقيقة الحال منذ أن عرفته حيث تقول: "راع أنني عرفتك" ومع هذا بقيت السعاد تقطن فؤادها، لأنها أي السمان انكبت على عشق هذه المشتهيات، بكونها متاع الحياة أن يتعاشر الجسدين بحسن الرضاب ففي كل صباح تقول له: "صباح أيها الحب"، ومن منظور آخر نقرأ الشاعرة وقد أحاطت الحبيب إلى التنبيه حتى لا يؤخذ عليها الهجر، بل من أجل الذي تطلبه من متاع يغذي رغبتها الجامحة بالاقتضاء، فلا تحريم على الشهوات، ما دامت النفس تطلب الفعل بتأثير الإباحة بخواصها وآثارها، ويقينها ومدلولها من وازع إظهار الصورة على أنَّ الاختلاط هو التخابر الاختياري بين الجسدين "الذكر والأنثى" بغض النظر عن الاستحرام المتخلف، فيما لو سألت عن مجانسة الذكور كما لو أن الشاعرة فَعَلَتْ موهبة من مواهب الذات الجائعة، في قولها: "ولأني أحبك / أحب رجال العالم كله / ولأني أحبك / عاد الجنون يسكنني / والفرح يشتعل / في قارب روحي المنطفئة." إذن فالنداء المعبر عن طقوس الخصب في تراكيب السياق أن يعطي المفضي المراد من إيلاج النبض في الروحيَّن، لأنها تعي جيدا أن عواطفها تمنح الرغبة لمن يشاء بغير حساب. وفي هذا المبصر العلني يدلنا روبرت كابلان وهو يحاكي قصيدة "الأرض اليباب" للشاعر ت، س، إليوت قوله: "أن أرض اليباب كانت تمثل جزءاً كبيراً من عبادات الشعوب البدائية، والتي تتضمن في الغالب طقوساً جنسية جماعية8".

لأني أحبك
عادت الألوان إلى الدنيا
بعد أن كانت سوداء ورمادية
كالأفلام القديمة الصامتة والمهترئة...
عاد الغناء إلى الحناجر والحقول
وعاد قلبي إلى الركض في الغابات
مغنياً ولاهثاً كغزال صغير متمرد..
في شخصيتك ذات الأبعاد اللامتناهية
رجل جديد لكل يوم
ولي معك في كل يوم حب جديد
وباستمرار
أخونك معك
وأمارس لذة الخيانة بك.
كل شيء صار اسمك
صار صوتك
وحتى حينما أحاول الهرب منك
إلى براري النوم
ويتصادف أن يكون ساعدي
قرب أذني
أنصت لتوكات ساعتي
فهي تردد اسمك
ثانية بثانية
ولم (أقع) في الحب
لقد مشيت اليه بخطى ثابتة
مفتوحة العينين حتى أقصى مداهما
أنى (واقفة) في الحب
لا (واقعة) في الحب
أريدك

في قولها: "أخونك معك" لا إكراه في الخيانة بعد أن جعلتها لازمة لشرعها هي، فالإجبار ألا تخون لأنها المختارة، وهذا في الجانب الشرعي الكلاسيكي المُحدث، أما في الإفصاح من المنظور البلاغي فتلك محاورات اللغة تروي لنا الاستفاضة للعارفين في لغة تتبنى الفصاحة والمجاز العقلي بحكم التبديل والتغيير المُحدث في لغة الشعر، بسياق متقن ومرغوب من حيث تتوزع المخيلات الحاسة على قراءها، واغلبهم بحاجة لهذا العيان الموسوعي بفصاحته، لأنها وزعت أو تبرعت بنفسها كي تعطي من يشئها، ربما يكون هذا العطاء شفوياً فتكون الشاعرة قد استعارت الألوان سوداء أو رمادية لكي تعبر عن تلك الهدية التي أسمتها بالخيانة، فطرقت الرمز مرشدا أن يسد حاجة ما منقوصة من تلك الخصائص الجاهزة، ألا يبتلى المحبوب بالشدائد والمشاق في أحواله المُرجئة، التي تثيرها الصوّر المثالية، أما الاختلاف النوعي الحاصل في هذه الصيّغ الإنسانية هي الشجاعة الحاصلة في قولها: "رجل جديد لكل يوم / ولي معك في كل يوم حب جديد" فالعطش للغرام عند الشاعرة السمان أشبه بالعطش للماء عندما تقطع الصحراء وحالك عطش، وغايتها أن تمتلئ نفسها الجوانية بالذكور، إذن هي عابدة لطيفة شفافة للرغبة الجنسية لمجرد أنه رجل، وبهذا الطيف المجرد من المحال فقد جعلت من السياق يأخذ الجانب الإنساني، بعد أن زينت حبها الشهوات بمنزلة البيان حقيقة مطلقة، عندما وصفت الحال أنها تنبأ الرجال مجانستها المفضلة والدائمة على أن تكون سعيدة وراغبة حين تمشي إليه، بما يشتهي وأنها صاغية للطلب من البيان في المعنى الذي يستفيض فيه النصيب، ليدل على أن الذي بين يديها هو نصيبها، وما تبقى لكل يوم رجل فذا لأن المتعة تطيَّب أنوثتها، وفي هذا مجاز للمعنى وله اشتقاق بين معنيين:
الأول: كونها واضحة للمشتهى أن تلبي طلب الذكور لها، حتى أن تمنح ذاتها الخشوع على أساس الرضا.
ثانياً: أنها لا تستثني رجلاً.
أما التوسيع فجاء في مشروعها الذي أحالته الشاعرة إلى النقد، حتى لا يؤخذ عليها السطحية أو المباشرة، بل الإحاطة برمزية ذكية عطفت المعنى على اتجاه أن تكون هي بدايته ونهايته وحدها.


الهامش..

1- الوردي، على: كتاب الأدب الحي، دار هوارس، العراق / بغداد، الطبعة الأولى 2013، ص37.
2- اتحاد الكتاب والأدباء العرب: مجلة الآداب الأجنبية، مطبعة اتحاد الكتاب والأدباء العرب، بغداد، الطبعة الأولى، 1999، ص72.
3- فروخ، عمر: كتاب تاريخ الأدب العربي، دار العلم للملايين، لبنان / بيروت، الطبعة الثانية 1994، ص595.
4- جميل، بن معمر: كتاب فن الشعر، دار الدار المصرية اللبنانية، مصر / القاهرة، الطبعة الأولى 1991، ص87.
5- الوردي، علي: كتاب الأدب الحي، دار هوارس، العراق / بغداد، الطبعة الأولى، 2013، ص 88.

6- نيتشه، فردريك: كتاب العقول الحرة، دار أفريقيا الشرق، المغرب، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1999، ص15.

7- يوسف، سامي اليوسف: كتاب ابن الفارض، دار الينابيع للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 1994، ص72.

8- ت، س، إليوت: كتاب إليوت، ترجمة يوسف سامي اليوسف، دار منارات للنشر والتوزيع، الأردن / عمان، الطبعة الأولى، 1986، ص65.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب