الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دين العقل وفقه الواقع في مناظرة بين د. عبد الحسين شعبان والسيد أحمد الحسني البغدادي

عبد الحسين شعبان

2022 / 3 / 23
الادب والفن


ادريس هاني
مفكر وأكاديمي مغربي – الرباط

أقرأ في كتاب المفكر الحقوقي الصديق د. عبد الحسين شعبان، الموسوم بدين العقل وفقه الواقع، وهو عبارة عن مناظرة، كما يبوح بها العنوان الفرعي، مع السيد أحمد الحسني البغدادي، والكتاب من منشورات "مركز دراسات الوحدة العربية" ، فألمح محاولة من خارج مجتمع الخطاب الديني لفهم الدين، وهنا مكمن أسرار النّص، متى استحضرنا الأوالية التفكيكية، ومن هنا وجب البدء.
الدكتور عبد الحسين شعبان ماركسي مخضرم، ولكنه نجفي قحّ، ينحدر من عائلة لها امتياز سدنة الحضرة العلوية طبقاً لفرامين عثمانية بعيدة القدم. يغيب الدين هنا كأيديولوجيا، ولكنه يدخل من منافذ الظاهرة السوسيو- ثقافية، وأمام هذا القلق، اهتدى د. شعبان إلى حالة من التواسط على أرضية تواصلية لم يجد عنها حولاً. وأمام هذا التحدي/ القلق، كان شعبان يعقد تعاقداً آخر بين الخطابين اللذين تنابذا الوجود والتفاضل ردحاً من الزمن.
قراءة الدين من خارج الدين لي فيها غرض، لا أقصد المعنى الذي ذهب إليه مارسيل غوشيه عن دين الخروج من الدين، بل أقصد به مغامرة في قلب المفاهيم، موقف دولوز من أهمية القراءة حين تكون من خارج ما يمكن أن نسميه بمجتمع الخطاب، حين تكون القراءة للفلسفة من خارج الفلسفة أو للدين من خارج الدين، وجب أن ننصت إلى ذلك، لأنها في الغالب تسعى لتغيير قواعد الاشتباك، وتضعنا أمام تحدّي المقاربة.
فاجأني هذا اللقاء بين شخصيتين تعيش قلق الخروج من حالة الجمود: شعبان والبغدادي، إنه لقاء ماتع في نمطه. فأمّا د. عبد الحسين شعبان، فهو من مواليد النجف 1945، خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة بغداد (1967-1968)، وتابع الماجستير والدكتوراه بتشيكوسلوفاكيا ( في فلسفة العلوم القانونية)، وأمّا وظائفه ونشاطته الإقليمية والدولية في مجال الاستشارة والحقوق، لا مجال لإحصائها، لكن ما هو جدير بالذكر هنا، أنّه فضلاً عن نشاطاته وكتاباته في مجال السياسة والحقوق وقضايا السلم واللاعنف، وهو نائب مدير جامعة اللاعنف، كونه أديباً.
ولون الأدب الذي مارسه ويمارسه هو السّرد، وله سرديات كثيرة لا تخلوا من أدب الرحلة، وكذا حول سير الكبار، وعلى رأسهم الجواهري، كما في "جدل الشعر والحياة"، سابراً حياة الجواهري عن قرب، ممتحياً ما لم يبح به هذا الأخير للرأي العام، وفي "الجواهري في العيون من أشعاره" بتعاون مع الجواهري نفسه، طبع بدار طلاس بدمشق (1986).
أما السيد أحمد الحسني البغدادي فهو سليل فقيه مجتهد نجفي، حفيد المرجع الفقهي السيد محمد الحسني البغدادي المتوفى سنة 1392هـ ــ 1973م ، ولا زالت ذاكرتي تحتفظ بصورة رجل دين، مختلف في سمته وفي حركته وفي نمطه.
أثار انتباهي يوماً بدمشق، وحدثني عنه أصدقاء مشتركون، وقلت لهم هناك رجل يمشي قاصداً، وخفيف الظّل، قالوا: نعم، إنّه حريص على رياضة المشي يومياً. وفي مؤتمر كنت قد توليت إدارته، يلتفت إليّ أحد العلماء وقد لفت انتباهه سمت السيد البغدادي، وقال لي: عفواً، من يكون ذلك الشخص صاحب اللحية البيضاء (لحية مميزة)، وكان العالم المذكور من العراق، قلت له: والله ما المسؤول عنه بأعلم من السائل. لكن سيحضر السيد في لقاء مع بعض الأصدقاء، وسيحصل تعارف خاطف بيننا، فلمست نبرة أخرى، ونمطاً مختلفاً. وسأعلم فيما بعد أنّ ذلك حصل بعد أن غادر العراق في ظروف صعبة وإعدام أخيه المهندس فيصل البغدادي، وانكشاف حركته الفتية: (حركة الإسلاميين الأحرار) بجناحها العسكري: أفواج الرفض والمقاومة. هذا جانب من بروفايل المتناظرين بعد أن امتلأ كل منهما بخبرات وخيبات لم تقطع منهما وتين التفاؤل.
ثم، ماذا بعد؟
الكتاب هو خلاصة مناظرة بين ماركسي خارج من سورة الممارسة الراديكالية ما قبل النقد الذاتي إلى التفكير المفتوح، كما عاقرها في كتابه (تحطيم المرايا: في الماركسية والاختلاف) وبين شيخ ينطلق من داخل مجتمع الخطاب الديني. في مفرق الرغبة في التواصل، وفي الشوق إلى التسامح، يولد هذا النّص الذي لخّص علّته الغائية في مطلب العقل والواقع، وهل يا ترى كان الدين سوى دعوة عميقة للعقل والواقع؟!
الدين والعقل، يحيلنا إلى جدل المعقول والمنقول، إلى الموقف الكانطي: الدين في حدود العقل، جدل لا زال ماثلاً مشرقاً ومغرباً، هناك من يئس من بُلغة التنوير وهناك من يتوسل بكثير من التفاؤلية. ويمكنني أن أصنف هذا النّص في صنف النصوص المتفائلة، ذلك لأسباب منها طبيعة الشخوص المنتجة للنصوص، ومنها، أنّ كل فعل تواصلي أو حجاجي ينطوي على بعد تفاؤلي، وهو يعبر عن هذا التفاؤل، حين يصف المناظرة مع السيد البغدادي بأن فيها متعة وفائدة.
الدعوة هنا قائمة إلى الاشتباك مع الواقع بكل ما يحبل به من تطور علمي ونظم وسياسات وذهنيات، وإلاّ فسيكون قدرنا العيش في جزيرة معزولة. ولإنجاز ذلك لا بدّ من وعي الذّات والحوار، الحوار طريق للمكاشفة، يستند شعبان لتعريف دوستوفسكي للحوار بوصفه كشف لأعماق القلب الإنساني، غير أنّ مهمّة النهوض بالوعي لن تكون مسألة فردية، بل هي مسؤولية جماعية و "تراكم طويل الأمد وشجاعة استثنائية". ولأنه طريق وعر ، كان لا بدّ من المشاركة.
المنهجية المتبعة في هذه المناظرة بحسب الإطار الذي تناوله د. شعبان هي استحضار آلية الاجتهاد، وربط العقل بالواقع، فالغاية هي إضفاء العقلانية على الدين. إذا كان الدين لا يناقض العقل وبأن الاجتهاد هو أداة العقل، فهذا كفيل بنبذ دين الخرافة والأنانية والجهل. يذهب المتناظران إلى أن ثمة مسافة بين الدين وطرائق التدين، بين الدين والتدين.
الكتاب ينطوي على روح وغاية: أنسنة الخطاب الديني وعقلنته عبر وسيلة المناظرة والحوار. قيمته في نظري تكمن في سياسة الحوار وتقاسم الحقائق والحجاج الكفيل ببلوغ التركيب النهائي، والخروج من حالة الجمود. العقل والواقع، الإنسانية والإيجابية، الوعي والتطور.
تناول المتناظران تيمات عديدة، تتعلق بلغة الفكر، وفلسفة الإصلاح، ومباشرة ثنائيات قلقة كالدين والإيمان، الدين والإرهاب، المقدس والمدنس، النقد الذاتي،التقليد، الطائفية، المواطنة، الفتوى والشريعة والفقه... ولم يتجهلا واقع العراق وقضاياه وتساؤلاته وانتظاراته.
كان د. شعبان يقرأ المسألة الدينية بأدوات فلسفية واجتماعية وحقوقية، وكان السيد البغدادي يقرأ المسألة نفسها من داخل الإمكانات الفقهية والأصولية وفقه الواقع، وكانا يلتقيان على مشتركات كثيرة ويختلفان في بعض الأحيان.
هذه التيمات على كثرتها وأهميتها، يتعين مواصلة الحوار حولها، إنها المراكمة، وتنوع المقاربات، واختلاف الوعي، ففرق أيضا بين الوعي والواقع، بين الواقع والمدرك منه، في الحقيقة والتحقق، مشكلة النومينا واللغة والتمثّلات.
وهنا أهمية المراكمة، وأهمية المناظرة التي يتعين أن لا تقف عند تجربة ما، بل المطلوب مواصلة النّقاش، أليست الديمقراطية في وعي المتأخرين باتت حكما بالنقاش؟ أليس غاية ما انتهت إليه مدرسة فرانكفورت مع آخر أبنائها هابرماس هو مواصلة النّقاش بمستوياته الخاصّي والعمومي؟ أليس الحوار مفهوم ضامن للتحقق وهازم للانسداد، أليست المناظرة وعلم الكلام تقليد عريق لهذه الأمة التي أدارت نزاعاتها يومها بالمناظرة، حتى أنّها خلفت تراثاً متنوعاً من القول الفلسفي والكلامي والفقهي، ورغم كل المواجع التي حلّت بالقدامى الذين وجب إِعذارهم، لأنهم كما قال طه حسين لم يكونوا يعرفون ما الدستور؟
هذا ليس قراءة مكتملة للكتاب، وإنما هو إشارة لعمل يفيد أهل المناظرة، ويحيي تقليداً قديماً به قامت مدارس القوم واتسع مجتمع المعرفة، وهو اليوم أولى بعد الطفرة التي يشهدها العصر، والإمكانات المعرفية التي من شأنها أن تحقق أفضل مستويات المناظرة، حيث لا أهمية للتنظير من دون مناظرة.
النّص الكامل هو جدل يقع خارج النّص، في طبيعة تفكير المُناظِر نفسه، كيف يرى الواقع، فالقلق الذي ينتاب د. شعبان، هو تدارك الواقع، للجيوب المعتمة التي كشف عنها الزمن، فهو يعتمد التأويل طريقاً للاستدراك، وتكمن المصالح عنده بين الأقصى والأقصى من دون تتريب، فالماركسية الصلبة في نظره يمكن تليينها بقوة الواقع لتلتقي مع دين العقل والواقع.
إلى أي حدّ يبدو الدين أفيون الشعوب؟ للدكتور شعبان، تأويل وتلطيف مختلف لهذه المقولة التي رسمت حدّاً فاصلاً بين الأمرين، إنّ الأفيون يومها لم يكن له معنى سلبياً، بل كان له معنى الإمتاع. وكأن الدين مجازاً، بخلاف الواقع الصلب، يُؤَمِّنُ هذا النوع من السفر الروحي.
في مقاربتي لهذه المعضلة، أعتبرها ليست قضية فهم واجتهاد ورؤية أو وعي، إنّ دارة الرشد العقلي كونياً لم تكتمل، وهي بإمكانها أن تكشف عن بعض إمكانياتها من خلال فسحة المناظرة، إننا نتجه إلى مستقبل تندك فيه المسافات، وتتفتق فيه مستويات جديدة من الوعي، ويصبح التفاعل كيميائياً أقوى، وهناك فقط سندرك خطورة عصرنا من حيث هو ذروة الانتقال في الوعي الكوني بالأشياء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم


.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع




.. هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية