الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التحالف الثلاثي والأستقرار الأستبدادي آخر المقامرات الأمريكية في العراق

بهروز الجاف
أكاديمي وكاتب

(Bahrouz Al-jaff)

2022 / 3 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


مرحلة مابعد داعش
كانت داعش آخر واكبر التحديات التي واجهت محاولات اعادة الاستقرار الأمني الى العراق بعد الاحتلال الأمريكي، والاقتتال الطائفي، وارهاب تنظيم القاعدة والحركات الدائرة في فلكها، والتنظيمات المسلحة التي كانت تعمل تحت مظلة المقاومة ضد المحتل، وهو الاستقرار الذي كلف فترتي ادارة نوري المالكي عددا كبيرا من الشهداء وميزانية ضخمة ذهب جزء كبير منها الى الشركات الأمريكية المتعاقدة في مشاريع اعادة التنظيم والبناء من أجل بناء جيش وطني جديد، وقوات أمنية، و بنية تحتية ادارية، ومن ثم توفر الظروف الملائمة لخروج القوات المسلحة الأجنبية من العراق على أمل اعادة العافية اليه.
بعد الانتصار على داعش في عام 2017، باسناد جوي أمريكي، واسناد بري ايراني مباشر تمثل في صولات قاسم سليماني مع الحشد الشعبي العراقي في حزام بغداد و معظم محاور القتال الأخرى ومع قوات البيشمركة الكردية في أربيل وجلولاء، أرتأت الولايات المتحدة توجيه‌ النظام السياسي في العراق لكي يدور في فلكها على المدى البعيد دون التدخل العسكري المباشر والمتوقع له أن يكلفها الكثير، اذ لم تخف الولايات المتحدة طمعها في ثروات العراق النفطية الى جانب العائدات النفطية لدول المنطقة،‌ وحيث لم يتردد الرئيس السابق دونالد ترامب من ذكر ذلك علنا. كذلك فان موقع العراق الاستراتيجي الذي يمكنه ربط النفوذ الأمريكي بين تركيا، العضو في حلف شمالي الأطلسي (الناتو)، مع السعودية ودول الخليج العربية، وامكانية الاحتفاظ بقواعد عسكرية فيه‌ اسوة بتركيا والدول الخليجية، يقطع الطريق على روسيا وصولها الى المياه الدافئة مثلما يعد حاجزا أمام قوة ايران المتنامية واحتمال هيمنتها على الدول العربية الآسيوية وكذلك ابعاد الصين المتنامية بسرعة هائلة عن ايجاد موطئ قدم لها في العراق الجديد. على الجانب الآخر أرادت ايران استثمار النصر على داعش لتقوية نفوذها في العراق من خلال العمق الذي تمتلكه‌ في الأحزاب الشيعية والكردية التي اتخذت من ايران منطلقا لحراكها في معارضتها المسلحة لنظام صدام حسين في السابق بالأضافة الى العاطفتين المذهبية مع الشيعة والعرقية-اللغوية مع الكرد.
بديل انسحاب القوات الأمريكية
لايخفى بأن سياسة الحزب الديمقراطي الأمريكي العتيدة في بلدان ما كانت تسمى بالعالم الثالث تتضمن فرض انظمة استبدادية موالية لها فيها تضمن استقرارا أمنيا وسياسيا واقتصاديا استبداديا سواء عن طريق الانقلابات العسكرية كما في أمريكا اللاتينية، أو النظم الملكية الاستبدادية المعتمدة على النظام القبلي في الشرق الأوسط، أو مايمكن استمالته من النظم الأخرى بوسائل سياسية واقتصادية مختلفة كما في نظام أنور السادات في مصر. هذه السياسة فرضت على أدارة الرئيس باراك أوباما الديمقراطية اعطاء الأولوية لانسحاب القوات الأمريكية من العراق وعلى ادارة‌ جو بايدن انسحابها من أفغانستان.
يبدو أن شعار الادارة الجمهورية في نشر مبادئ الديمقراطية في البلدان التي احتلتها أمريكا، أو تلك التي تعرضت لما سمي بثورات الربيع العربي، قد تعثر بسبب تسيد الاسلام السياسي للساحة السياسية وتحوله‌ الى واقع سياسي جديد في العراق ومصر وتونس واليمن بالأضافة الى ايران وأفغانستان وكمونه في باكستان والسودان، وهو ما تعارض مع الأهداف الامريكية الواضحة في محاولاتها نشر الثقافة الغربية. كذلك فان عدم رسوخ الأعراف الديمقراطية في بلدان لم تكن الديمقراطية فيها قد حالت الى عرف ثقافي ادى الى تفشي الفساد الاداري والمالي طمعا في المغانم السياسية التي أتاحتها الدساتير الجديدة. لم تكن القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق في نزهة، بل كانت سببا لخسائر كبيرة تكبدتها الميزانية الأمريكية دون أن تصل بأمريكا الى غاياتها من الأحتلال بعد سنين طويلة، لذلك أولت الانسحاب المشروط والضامن أهمية قصوى في سياستها اللاحقة في البلدين.
وكمحصلة لرؤ ية الولايات المتحدة في ضمان كسبها مستقبل أفغانستان والعراق، فقد أقرت ادارة بايدن انسحابا مشروطا من أفغانستان يتيح لحركة طالبان تسلم مقاليد الأمور في البلاد مع توريثها القدرات العسكرية الكبيرة التي تركت في المعسكرات الأفغانية ومن ثم فرض حكومة استبدادية غير معادية للولايات المتحدة قادره‌ على فرض استقرار أمني يتيح لأمريكا اللعب مستقبلا على ما أبقته في أفغانستان من خيوط مالية واقتصادية لابد لحركة طالبان من اللعب عليها من أجل ضمان بقائها في السلطة لفترة أطول. أما في العراق فان الأمور مختلفة بعض الشئ ولكن المبدأ نفسه يمكن تطبيقه باسلوب آخر. ان التحدي الرئيس هو وجود القوى الشيعية المسلحة التي ترتبط بعلاقات مصيرية مع ايران بموجب العوامل المذكورة آنفا، وهي القوى التي تسيدت الساحة السياسية العراقية منذ عام 2003. لقد أثبتت الأحداث صعوبة فك ارتباط الأحزاب والقوى الشيعية والكردية العراقية مع ايران، ولكن يمكن تفكيك لحمتها الداخلية بالاستناد على تأريخها وعلاقاتها الخارجية و الأقليمية في مرحلة مابعد 2003 بالأضافة الى امكانية تأجيج الشعور بالتذمر تجاه‌ الواقع السياسي والاقتصادي والأداري بين الغالبية الشعبية الصامتة غير المتحزبة والنفخ في الشعور البعثي للمستفيدين السابقين من نظام البعث بما يساعد في تشجيعهم لدخول المعترك السياسي من جديد واقحامهم في المهمة الاستبدادية. يبدو أن الولايات المتحدة حاولت ايجاد قواسم مشتركة للم شمل توجهات جديدة على الساحة السياسية العراقية تصب في صالح الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط ومحاولة التأثير في النفوذ الايراني في العراق من خلال دعاية اعلامية هائلة وتحريض متقن ومدروس يفضي الى نتائج عملية على صعيد الانتخابات البرلمانية تساعد في توفير أغلبية برلمانية كافية تستوعب المكونات الثلاثة معا لبناء نظام استبدادي لاحق يفضي الى استقرار استبدادي يوفر الأرضية لبلوغ أمريكا غاياتها بعيدة المدى في العراق.
الآليات
ليس من السهولة بمكان توظيف قوى سياسية ترفع شعار الديمقراطية في بناء نظام استبدادي، اذ ان الوضع في العراق يختلف عن أفغانستان كثيرا حيث لم تكن حركة طالبان منخرطة في النظام الانتخابي للنظام الجديد وبذلك فهي جاهزة لألتزام الأهداف الأمريكية بما لايتعارض وقناعاتها الأيديولوجية الراسخة. ولذلك كان لابد من فرز القوى السياسية العراقية بناء على تأريخها من حيث حرصها على فرض اراداتها على الأرض في الأماكن التي تحت هيمنتها بقوة السلاح دون النظر الى ما تسببه تلك الأرادة من اسالة دماء أو تقييد لحرية أوحقوق الانسان. تضمنت السياسة الأمريكية ربط القوى التي توفرت فيها شروط الاقحام في المحور الأقليمي المجاور للعراق والمعادي للتوجهات الايرانية وكذلك تأجيج الاحتجاجات المتفرقة في بغداد ومحافظات الجنوب العراقي ولملمة شملها في انتفاضة عرفت بالأنتفاضة التشرينية التي كانت من أهم سماتها حرق القنصليات الأيرانية في محافظات الجنوب العراقي ذات الأغلبية الشيعية.
كانت الحساسية تجاه نظام صدام حسين هي العنصر الرئيس الذي لعبت عليه الولايات المتحدة، اذ عد الحنين الى نظام صدام، أو الحساسية الخفيفة تجاهه، عاملا تفريقيا كافيا يبعد أصحابه عن الهيمنة الأيرانية التي ترى فيه‌ عاملا محددا يفرق أصدقاءها عن أعدائها. ان المعروف عن العرب السنة هو عدم وجود حساسية مفرطة لهم تجاه‌ نظام البعث، وخصوصا في محافظتي نينوى والأنبار وقضاء الحويجة في كركوك، بسبب الدور البارز لهم في النظام السابق اذا ما أخذنا بنظر الأعتبار الاعدامات الكثيرة التي طالت افرادا من صلب النظام في مدينة تكريت مركز محافظة صلاح الدين، وبذلك لم تكن هناك صعوبة في تطويع القوى السنية من خلال توكيل أمورهم السياسية والأقتصادية الى تركيا والعربية السعودية والأمارات العربية المتحدة، وان توكيل تلك الأدوار، حتى ولو كان استبداديا، لايحتاج سوى ظهير تركي وخليجي فعال، ماديا واعلاميا.
التيار الصدري، بسبب عدم وجود تاريخ له على الأرض الأيرانية، ولوجود علاقة سابقة له بنظام صدام حسين تضمنت العمل من أجل تحقيق فكرة مرجعية النجف الشيعية العربية التي حققت صلاة الجمعة في ظل النظام، وانخراط شريحة واسعة من البعثيين فيه بعد عام 2003، ولما له من تأريخ عسكري قاس تمثل بميليشيا جيش المهدي الذي تم تحجيمه بوساطة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي بعملية عسكرية أسميت صولة الفرسان، فقد عد مۆهلا، نيابة عن الشيعة، في تحقيق الحلم الاستبدادي.
الطرف الكردي الذي اوكلت اليه المهمة هو الحزب الديمقراطي الكردستاني، والذي ابتعد عن الهيمنة الايرانية ظاهريا من خلال تحالفه مع نظام صدام حسين الذي ضمن له فرض سلطته السياسية والعسكرية على محافظتي اربيل ودهوك واستخدامهما في فرض أغلبية برلمانية في الأقليم قالت عنها رئيسة برلمان الأقليم الحالية، ريواز فائق حسين، بأنها أغلبية مزيفة، واستضافته لأركان النظام السابق في أربيل وعلى رأسهم عزة الدوري المطلوب أمريكيا، وكذلك علاقاته المصيرية اللاحقة، العسكرية والاقتصادية، مع تركيا، وخصوصا بعد عام 2003 وما أفضى ذلك الى انشاء علاقات مماثلة مع الدول الخليجية السائرة في الركب الأمريكي،واسلوب حكمه القاسي الكابح للحريات، ومشاركته الحرب الأهلية الداخلية، ومشاطرته تركيا قتالها ضد حزب العمال الكردستاني ومحاربة أجنحته الممتدة في ايران والعراق وسوريا، أدى الى أن يكون هي الجهة الكردية الأكثر تأهيلا للعب الدور المؤدي الى تحقيق الحكومه‌ الاستبدادية.
وهناك الطرف الآخر الذي أرادت له الولايات المتحدة الانخراط في مشروعها، والمتمثل بالحركات الجديدة التي انبثقت عن الأنتفاضة التشرينية والتي عرفت بالأطراف التشرينية، ولعل حركة امتداد هي الأبرز بينها والتي لايخفى بأن بعض مؤسسيها يعدون سليلو رجالات ارتبطت بنظام البعث السابق. وفي حين انتبه التيار الصدري لخطورة التوجه الجديد للتشرينيين الذي يمكن أن يؤدي الى سحب البساط من تحت رجليه على الساحة العراقية فقد ارتأى مشاركتهم الحراك الاحتجاجي مع محاولة تحجيمهم والاستئثار بمنجزاتهم ختى ولو اظطره استخدام العنف ضدهم.
يبقى عامل النيوليبرالية الذي نشأ في ظل فترة مابعد الاحتلال الأمريكي عاملا حاسما في تحول الحركات السياسية التي تسيدت الميدان السياسي الى كومبرادور يتمتع بشبكة علاقات اقتصادية وسياسية شائكة مع الدول المجاورة والأقليمية الطامعة في تثبيت أقدامها في الساحة الاقتصادية والسياسية العراقية وعلى الخصوص تركيا الصاعدة اقتصاديا وعسكريا والتي تستحوذ على نفط الاقليم من خلال عقود طويلة الأجل أبرمتها مع الحزب الديمقراطي الكردستاني تحت جناح حكومة الاقليم، وكذلك الأمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، بالأضافة الى نشوء حركات وكتل برلمانية كومبرادورية صغيرة ومتفرقة تتصل بشكل مباشر بمراكز أموال سياسية في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي ظل النيوليبرالية الطارئة على المجتمع العراقي، بعد مايزيد على خمسين عاما من نبذ النظام الأقطاعي والتمتع بنوع من الحكم الأشتراكي، استطاع بعض رجال السنة وخصوصا من أركان النظام البعثي السابق الذين ارتأوا ولوج العمل السياسي من التحول الى رجال أعمال سياسيين يستمدون دعمهم من المحور السني المتمثل بتركيا-الأمارات العربية المتحدة-السعودية بالأضافة الى المملكة الأردنية الهاشمية اذ تباروا في انجذابهم نحو تلك الدول كل حسب نفوذه في منطقة سكناه وقدرته‌ على توفير موطئ قدم لذلك المحور في العراق. وفي الأقليم الكردستاني المتمتع بحكم ذاتي في ظل النظام الاتحادي، ولكن بصلاحيات عسكرية وأمنية واقتصادية واسعه‌، استطاع الحزب الديمقراطي الكردستاني من التحول الى أخطبوط كومبرادوري من خلال الأستفادة من قانون النفط والغاز الذي شرعه برلمان الأقليم في عام 2008 ومن ثم بناء علاقات نفطية وسياسية وعسكرية متينة مع تركيا امتدت الى اعطاء الحق لنفسه بيع النفط الى اسرائيل ايضا والتي يعدها الدستور العراقي دولة معادية ولايعترف بوجودها. سلك التيار الصدري نفس المبدأ منذ بداية ظهوره على الساحة السياسية مستفيدا من حالة الفوضى اذ انشأ‌ لجنة اقتصادية استفادت من عمليات تهريب النفط ونمت الى تشكيل رأسمال سياسي مؤثر في الساحة الشيعية العراقية أدى لى ضم شريحة واسعة من الفقراء والعاطلين عن العمل الى نفسه أرادت الأستفادة من فرص العمل وامكانية الانخراط في الميليشيا التي يمتلكها، سرايا السلام، ضمن تشكيلات الحشد الشعبي، وهي السرايا ذات النفوذ القوي الخفي على الأرض والتي تعد بديلة لميليشيا جيش المهدي الكامن الذي كان زعيم التيار مقتدى الصدر قد جمد نشاطاته العلنية بعد عمليات صولة الفرسان.
منذ أن تشكلت حكومة السيد مصطفى الكاظمي، والتي يفترض بانها حكومة تسوية وتصريف أعمال توافق على تشكيلها التيار الصدري والأحزاب الشيعية التقليدية معا لغرض التحضير لانتخابات مبكرة، فقد بدأت التحركات على قدم وساق لتشكيل تحالف انتخابي من القوى سالفة الذكر وتسخير كل الامكانات المادية والمعنوية والتدخلات الاقليمية والأجهزة الأعلامية لها لغرض فوزها في الانتخابات البرلمانية بأي ثمن يتطلبه الموقف.و في النهاية، فازت الأطراف التي وقع عليها الأختيار في الانتخابات البرلمانية التي جرت في عام 2021 وفق ما كان مرسوما لها، بأعلى الأصوات، وهي التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر وقائمة تقدم بزعامة محمد الحلبوسي والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني، ومن ثم انضمام قائمة حزم بقيادة خميس الخنجر في تحالف الى جانب قائمة تقدم تحت مسمى تحالف السيادة تسيد الساحة السنية تحت زعامة خميس الخنجر وتسنم الحلبوسي منصب رئيس البرلمان. لقد سعت الكتل الثلاثة الى بناء تحالف يمكن أن يهيمن على السلطات التشريعية والتنفيذية بشكل مطلق في العراق على أمل احكام القبضة الاستبدادية على النظام السياسي والأقتصادي في البلد كبديل لتواجد القوات الأمريكية بدعم واضح من المحور السني في المنطقة. وفي فترة التهيئة لوصول تلك الأطراف الى السلطة لعب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي دورا ساندا بتقريب العراق الى عمق المحور السني تضمن محاولة بناء تحالف سياسي واقتصادي مع مصر والأردن يتيح للعراق مد انابيب نفط وغاز الى مصر عبر الأردن وهي الأنابيب التي لابد وأن تقع تحت ضغط الأمر الواقع الاسرائيلي الذي يۆدي فيما بعد الى اشراك اسرائيل فيه لحين الوصول الى حالة أمر واقع لاحقة تتيح للعراق تطبيع علاقاته مع اسرائيل بسهولة ويسر.
يمكن الاستنتاج بأن ما جرى بناءه من تحالف يؤدي في نهاية المطاف الى تطبيع العلاقات العراقية الأسرائيلية ومن ثم الاعتراف بالدولة العبرية كان على حساب الاحزاب والحركات الأخرى ذات العلاقات الايديولوجية المتينة مع نظام ولاية الفقيه‌ في ايران الدولة المعادية لأسرائيل. فبالأضافة الى مظاهرات تشرين التي استهدفت الهيمنة الايرانية، ومشاركة التيار الصدري فيها، والدعم الاعلامي الكبير الذي حضيت به من قبل امريكا ودول المحور السني، والذي توج باغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس بوساطة الصواريخ الباليستية الأمريكية بعيدة المدى، ازداد ضغط الحصار المفروض على ايران من اجل اضعافها وبالتالي اضعاف تواجدها في العراق. لم تكن الاحزاب والحركات الشيعية الموالية لايران بذلك الضعف الذي تصورته‌ أمريكا، اذ تغلغلت في عمق الدولة وتمتعت بتاريخ سياسي طويل تمثل في حزب الدعوة الاسلامية وكاريزما زعيمه نوري المالكي الشخصية والسياسية بالأضافة الى دورها في القضاء على تنظيم داعش وخلافته‌ الأسلامية المتطرفة في العراق من خلال تزعمها لقيادة الحشد الشعبي الذي يضم ميليشياتها الفعالة على الساحة السياسية العراقية. على الجانب الكردي بقي حزب الاتحاد الوطني الكردستاني يفرض تواجده السياسي والاقتصادي والعسكري على محافظة السليمانية واطرافها وامتداداته العقائدية في محافظات كركوك وديالى وصلاح الدين ونينوى التي كان له‌ فيها مقاعد برلمانية، كل ذلك بالأضافة الى ما للسليمانية من تأثير جيوسياسي جعل منها مركز الحركة الكردية المتواصلة ضد الأنظمة‌ السابقة في العراق والتي لايمكن لأيران أن تتركها لقمة سائغة لتحالف الكومبرادور الجديد.
لم يكن اسناد منصب رئاسة البرلمان الى العرب السنة بمشكلة عويصة، اذ ان الاتجاه‌ العام للسنة واحد ولايشكل عائقا أمام اسناد المنصب لأية شخصية سنية كانت ومن أي تيار أو كتلة كانت وترك أمر البت فيه‌ الى السنة انفسهم يختارون من يشاؤون مرشحا لهم بموجب العرف السياسي الذي ساد الميدان السياسي العراقي بعد عام 2003 والمبني أساسا على مشاركة المكونات الأثنية والمذهبية في السلطة، ولكن المشكلة كانت برزت مع بدء جلسات انتخاب الرئاستين التنفيذيتين، رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء.
هدفت أطراف التحالف الخفي منذ الاعلان عن موعد الانتخابات البرلمانية الى غاية الحكم الاستبدادي من خلال آليتين مترابطتين وهما احكام القبضة على الرئاسات الثلاث وتحويل الحكم الى اقطاعيات عائلوية تحتكم الى مرجعيات عائلوية لم تخف أطرافها الترويج لها مبكرا. فقد أفادت الأنباء المسربة بأن التحالف بين التيار الصدري والحزب الديمقراطي الكردستاني يهدف الى شرعنة أهلية السيد مسعود البارزاني ليصبح وعائلته المرجع الوحيد للشعب الكردي والسيد مقتدى الصدر واسرته مرجعا وحيدا للشيعة في العراق، وهما الغايتان اللتان عمل على تحقيقهما صدام حسين في عام 1996 وفشل فيهما بسبب الجدار الأيراني في العراق والاقليم. أما السنة فيبدو أن الامور قد تركت للوقت لأثبات وجود تيار مناظر يمكنه تحمل تلك المسؤولية مع وجود الحقيقة التي مفادها بأن السنة ليست لهم أعرافا سياسية تسمح بوجود أسرة تفرض ارادة مرجعية عليهم. هنا يكمن جوهر الصراع حول اختيار رئيس الجمهورية الذي سوف يقوم بدوره في اسناد مهمة تشكيل الحكومة الى مرشح الكتلة البرلمانية الأكبر.
فعلى الرغم من ان رئيس الجمهورية الحالي، برهم أحمد صالح، يملك من المؤهلات السياسية والشخصية ما تمكنه من تمثيل العراق في المحافل الدولية بأحسن تمثيل وما تمكنه‌ عقيدته‌ السياسية من رعاية الدستور والحفاظ على تماسك الوحدة الوطنية العراقية، وعلى الرغم من توفر الكاريزما السياسية اللازمة في تسنم منصب رئيس الوزراء في شخصيات تمثل الأحزاب السياسية الشيعية التقليدية في أشخاص مثل نوري المالكي وحيدر العبادي على سبيل المثال لا الحصر، فان تحالف النهج الاستبدادي ارتأت ايصال شخصيات ضعيفة غير ذات تأريخ سياسي أو كاريزما سياسية الى منصبي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء لغرض التحكم بهما عن بعد من مراكز القرار الأسروية بدعم من المحور الأقليمي السني والمال السياسي الوفير. وبهذا يعد اختيار رئيس الجمهورية المفتاح في فتح ابواب الحكم الاستبدادي على مصاريعها وخصوصا وان منصب رئيس الوزراء لم يعد بذلك العائق بعد اقتراح التيار الصدري ترشيح محمد جعفر محمد باقر الصدر للمنصب والذي يصب في خانة الأماني الصدرية في المرجعية السياسية وخصوصا وان حزب الدعوة لايرى حرجا بالغا في اسناد المنصب الى نجل أحد مؤسسي الحزب.
هنا يبدو بأن الموقف أخذ ابعادا واسعة، وخصوصا على الصعيد الخارجي، بعد أن وصلت الأمور الى حد كسر العظم، فتغلغلت في مفاوضات جنيف حول الملف النووي الأيراني والحرب الروسية الاوكرانية والصراع السيبراني الايراني الاسرائيلي، وبذلك وضعتا الولايات المتحدة وايران نفسيهما في أوضاع مختلفة تتراوح فيها مواقف القوة والضعف لكليهما الى توازنات حالات الصراع المذكورة، وهي ما تعتمد على المقايضات السياسية بالاستناد الى الوضع الجديد الناشئ عن الحرب الروسية الاوكرانية ومستقبل الوزن الذي تمثله أوربا وكذلك الصين في مستقبل العلاقات الدولية، وهو ماعقد الموقف بشأن انتخاب رئيس الجمهورية الذي يتطلب عقد جلسة برلمانية بنصاب ثلثي الأعضاء وانتخاب الرئيس بأغلبية الثلثين وهو ما لا يمكن الوصول اليه بسهولة في الوقت الحالي على الرغم من دور المال السياسي وما يمثله‌ من خطورة في قلب التوازنات على الصعيد المحلي والاقليمي والدولي والذي اذا ما أدى الى انتصار المحور الحالم بالأستبداد ربما يصل بالأمور الى ما لايحمد عقاباها. فاذا ما اتجهت النية الى تلافي الوصول الى تلك الحالة فان انشاء حكومة توافقية هو الحل الأمثل والذي سوف يكون فشلا للتحالف الثلاثي الصدري-البارزاني-الخنجري وابقاء الأمور على ماهي عليها لحين الوصول الى توافقات دولية في خصوص مفاوضات جنيف وما تؤول اليه الأوضاع في أوكرانيا. ومن هذه الناحية لايمكن التكهن حاليا، بموجب المعطيات الحالية على الأرض في العراق وعلى صعيد التناحرات الدولية، بمدى غلبة المحورين المتضادين المتدخلين في الشأن العراقي بسبب اتجاه‌ الأمور نحو تغيير في النظام العالمي والتمحور الدولي والتخندقات اللاحقة والتي تتركز حاليا في العراق بين قوتي التدخل الأمريكي والأيراني.
المستقبل المنظور
تجري الأمور في العراق الى ما سوف تقرره الأوضاع الدولية الحالية في ظل مفاوضات جنيف والحرب في أوربا والدور الصيني اللاحق، وبذلك فان حكومة توافقية سوف تدرأ عن العراق اقحامه في صراعات دولية واقليمية متوقعة، وعلى العكس فان الوصول الى غاية أمريكا وحلفائها الاقليميين الى توكيل الحكم في العراق الى حكومة استبدادية تنوب عن الدور الأمريكي المباشر في العراق سوف يؤدي الى عواقب وخيمة وخصوصا وأن السنة لايمكنهم الدخول في صراع عسكري محلي بعد ما ذاقوه منذ عام 2003 من مآسي بسبب معارضتهم لنظام الحكم الجديد في العراق تحت هيمنة الأغلبية الشيعية وما جرى من تدمير لمدنهم بعد استضافة داعش، وهم يأملون في اعادة بناء مدنهم مستفيدين من علاقاتهم المالية مع دول الخليج. كما ان الحزب الديمقراطي الكردستاني أخذت عليه شبهة الأغلبية المزيفة وصعوبة اختراقه لمنطقة نفوذ الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية تجعل من امكانية تحقيقه‌ لمبتغاه‌ في فرض مرجعية اسروية أمرا مستحيلا وخصوصا وان الحدود العراقية الايرانية ضمن حدود اقليم كردستان العراق ليست سهلة في ظل النفوذ الأيراني التأريخي فيها وعدم السماح بالمساس بواقعها الجيوسياسي. كذلك فان التيار الصدري لم يفز بأغلبية المقترعين بل من خلال لعبة ذكية أجازها له النظام الانتخابي تمكن من خلالها من تحقيق أغلبية على صعيد التكتلات الانتخابية وهو مايجعل التيار الصدري في موقع لا يساعده في فرض ارادته‌ التسلطية على كامل الطائفة الشيعية في العراق اللهم الا اذا ارتأى تسليم زمام الأمور الى تحالف عسكري بين سراياه‌ المسلحة وبيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني في فرض ارادتهما الاستبدادية وهو ما سوف يؤدي، لامحالة، الى حرب أهلية تصبح مرتعا لتدخل نفوذ المحاور الأقليمية والدولية والوصول بحال العراق الى الدمار الشامل، وربما الى التقسيم من خلال اقتطاع الدول الاقليمية لاجزاء منه وضمها الى أراضيها وهي الآمال التي لاتخفيها تركيا على الأقل في هذا الصدد.
الحل
كل مايمكن استنتاجه‌ من الواقع الجيوسياسي والديموغرافي في العراق والدستور الاتحادي الذي أدى الى ترسيخ أعراف شراكة توافقية تبعد العراق على الصراعات الداخلية والخارجية، هو ضرورة المحافظة على العرف السياسي القاضي باسناد المناصب الرئاسية والسيادية الى المكونات الأثنية والأحزاب والحركات السياسية المنضوية في كنفها وترك محاولات احكام القبضة على أركان الحكم من قبل أقلية سياسية حتى ولو مثلت الأطراف الاثنية والمذهبية بمختلف توجهاتها. فلو أخذنا حالة لبنان المناظرة للحالة العراقية نرى بأن محاولات الالتفاف على الدستور والأعراف الدستورية أدت الى حراب أهلية طاحنة استمرت على مدى خمسة عشر عاما ثم عادت صاغرة الى عين الدستور وعين الأعراف، وما جرى من محاولات ابعاد الدور الايراني عن لبنان في سنين طويلة أدى الى تقوية هذا الدور ومن خلال ما لعبه الدور السعودي بالذات في اتفاقية الطائف!
وبذلك تبدو الحاجة ملحة لتعديل بعض مواد الدستور، وكذلك القوانين، بما تعيد الى العراق هيبته الاقتصادية وتقطع الطريق على نشوء الكومبرادور السياسي وفوضى المال السياسي، واشراك كل الأطراف المشاركة في العملية السياسية في الحكم بما يتلائم وموقعها الجيوسياسي واستحقاقاتها الانتخابية بدقة بما يتوافق والأعراف السياسية التي تضمن تكافؤ الفرص لجميع الأقليات والطوائف المشاركة في بناء العراق الاتحادي الديمقراطي المسالم والسعيد بما يملكه من ثروات بشرية واقتصادية هائلة وتاريخ عريق وموقع جغرافي متميز.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بدء التوغل البري الإسرائيلي في رفح


.. طفل فلسطيني ولد في الحرب بغزة واستشهد فيها




.. متظاهرون يقطعون طريق -أيالون- في تل أبيب للمطالبة الحكومة بإ


.. الطيران الإسرائيلي يقصف محيط معبر رفح الحدودي




.. دول عربية تدرس فكرة إنشاء قوة حفظ سلام في غزة والضفة الغربية