الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوطن بيني و بين صديقي التركماني

سامي بهنام المالح

2006 / 9 / 10
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


من دواعي الفخر ان لي اصدقاء كثيرون. واصدقائي بانتماءاتهم المختلفة يعكسون تنوع العراق و غناه و طيفه الجميل. وهم جميعا، كل على طريقته و من موقعه يمدونني بالكثير مما افتقده من اريج الوطن و نسمات هوائه، و يقصرون مسافات الغربة اللعينة و يخففون من ثقل مراراتها، و يطفأون جزءا من نار الشوق الذي يكوي الروح.

في نهاية السبعينات من القرن الماضي، اضطريت وانا في عز الشباب الى ترك الحياة العادية والى ترك عائلتي و تلامذتي و زملائي، مختارا مقاومة البعث و نظامه و اجهزته القمعية و اساليبها الفاشية، رافضا التنازل و الخنوع و التكيف، متحملا بخيار واعي، كل ما ترتب على ذلك من تضحيات جسيمة و حرمانات و مواجهة الموت و المخاطر و المصاعب لاكثر من عشرة اعوام.
كان الانفصال والابتعاد عن الاصدقاء، والانقطاع عن الاجواء الشبابية الدافئة المفعمة بالحياة و الالفة و المودة و المزدانة بالتفاعل و الحماس و العمل و الامل و الاحلام الانسانية، كان ذلك من اصعب و اقسى ما عانيت منه و تحملته بصبر. ذلك بالرغم من ان سنوات العمل السري والكفاح المسلح، منحتني هي الاخرى فرصة المعايشة اليومية و اللقاء بالمئات من المناضلين والالاف من ابناء القرى و الارياف و المدن، و اكسبتني مجموعة جديدة من الاصدقاء. اصدقاء سيبقون جزءا عزيزا من سنوات عمري الباقية.

في كركوك، المدينة النائمة على الثروات و الممتدة على ارض الخصب و العطاء، و المهملة حد القرف و المتخمة للاسف بالفقر و التخلف و الهواجس و القلق. في كركوك حيث التعايش الاخوي بين القوميات والاديان الى جانب الشك و الاضطرابات و التوترات، في اجواء التعدد الثقافي، في السبعينات، و في معمان حياة الشباب و رحلة البحث عن الجمال و المتعة، وعلى ايقاعات الاغاني الارمنية و الاشورية والتركمانية و الكوردية والعربية، و بالانهماك و المثابرة في فك رموز الحب و الجمال و القيم والانسانية الرافضة للحدود والمحدودات الدنيئة في قصائد لوركا و ايلوار و اراكون و نيرودا و ناظم حكمت وجان دمو و سركون بولص و سعدي يوسف و كوران و هيمن و غيرهم، و في ساعات التأمل النقي الجاد في لوحات و اعمال المعارض المحلية لرسامين و نحاتين شباب، وخلال المعايشات الممتعة الجماعية لدراما المسرحيات النادرة التي كانت تعرض في قاعات كركوك، او تلك التي كنا نسافر لمشاهدتها في العاصمة، و في فضاءات الاحترام المتبادل في الجلسات الصاخبة و سهرات مناقشة الهموم و التطلعات و الواقع و المستقبل، في خضم كل ذلك، ولدت علاقات حميمة بين مجموعة من الشباب من كل القوميات و الاديان و الطوائف، علاقات عميقة صادقة و جميلة، نمت و ترعرعت مع الايام لترتقي فيما بعد الى الصداقة.
صداقة و لدت متينة راسخة انسانية. صداقة صمدت حية و وارفة متحدية سنوات القحط والمعانات والبعد والانقطاع القسري و الهجرة و الغربة.

صديقي التركماني، ابن العائلة الكادحة الكبيرة من قلعة كركوك. الشاب الهاديْ و الغارق في الرومانسية و المغرم بالاشعار و الحكايات الشعبية، التشكيلي صاحب اللوحات التراثية المشبعة بخطوط و تقاطعات و الوان بيوتات و ازقة و اسواق قلعة كركوك. المثقف المنفتح على ثقافات الشعوب و المحب لاثراء تجربته الحياتية، صديقي التركماني هذا كان واحدا من الاصدقاء الذين اشتقت اليهم و افتقدتهم و شعرت بالحاجة الماسة اليهم في عشرات المواقف و الحالات الانسانية الغير عادية.

حاولت منذ البداية متابعة اخبار صديقي التركماني، و خاصة في السنوات التي كنت اعمل فيها في المناطق المحيطة بكركوك، في مناطق شوان و شيخ بزيني و جمجمال و حصار. كنت التقي بحكم مسؤولياتي بقادمين من تنظيمات المدن، و من مدينة كركوك بالذات. كان اغلب الاصدقاء يعانون من حرمان الحريات و دكتاتورية البعث و القمع الفكري المسلط على الشعب.
مع بداية الحرب العراقية الايرانية، علمت ان بعض من الاصدقاء سيق الى جبهات الحرب، و البعض الاخر بدأ يعيش مختفيا هاربا من جحيم الحرب الغبية. و علمت فيما بعد ان عدد منهم قد غادر الوطن.
في بداية الثمانينات انقطعت اخبار صديقي التركماني. و بعد محاولات كثيرة تيقنت بانه لم يعد موجودا في كركوك. ولذلك عشت طوال تلك السنوات خائفا و قلقا على صديقي. كنت افزع، في بعض الاحيان، عندما كنت افكر مع نفسي بانني قد لا القاه ثانية.

في عام 1992 و انا في طريقي الى الغربة حصلت على اخبار سيئة جدا. علمت بان صديقي التركماني يعيش حياة قاهرة، لا مجال هنا لسرد تفاصيلها. غير انني و مع ذلك فرحت. فرحت على كونه حيا يرزق في مكان ما على الارض.

بعد سنوات من تواجدي في السويد علمت بان صديقي التركماني قد افلح في الوصول الى السويد. تلك كانت فرحة كبرى، اذ كنت قد استعدت صديقا عزيزا بات موعد اللقاء به قريبا.

في صيف عام 1998 كان صديقي التركماني في استقبالي في محطة القطارات المركزية في مدينة كوتنبورك في جنوب السويد.
لا جدوى من الكلام عن هكذا لقاءات، انها لحظات متوترة و متميزة، وعميقة عمق النفس البشرية، و هي لذلك عصية على الوصف. انها حياتنا نحن العراقيين. قدرنا كما يبدو، نفترق و نلتقي، في الوطن و معه و بسببه و بعيدا عنه، يجمعنا اينما حل بنا الدهر متجاوزين حدود انتماءاتنا لنتفاعل و نتعايش و نصون الاخوة و المحبة و الصداقة و الاحترام. يجمعنا لنلتأم معه بحنان و لنغوص بعد ذلك في بحرهمومه الهائج.
انا و صديقي التركماني مرة اخرى رغم كل شيْ. خارج الوطن، في الغربة هذه المرة، و في رحلة جديدة نحو الافاق، رحلة من الاحلام و التطلعات و الامال، رحلة بأتجاه الوطن نريدها ان تنتهي على ضفاف قلعة كركوك، بين الناس، كل الناس، في امان و وئام وحرية و نظام و قانون و عمل و بناء و كرامة انسانية.

في شقة صديقي التركماني في مدينة كوتنبرك جنوب السويد، استمعنا معا الى القوريات و الاغاني التركمانية و الاذربيجانية التي كنت قد احببتها منذ الصغر، عندما كنا نستمع اليها مع المرحومة والدتي من اذاعة ايرفان. و عند صديقي استمعت الى اغاني اشورية لم اسمعها من قبل. و استمعنا ايضا الى الاغاني العربية و الكوردية و الى موسيقى من كل اصقاع العالم. تكلمنا عن الادب و الفن و السياسة. عن الاصدقاء و الصديقات و النساء. وعن كركوك و الذكريات. و تحدثنا عن حياتنا الجديدة في بلدنا الثاني، عن متعة الحرية و معنى الديمقراطية و الفضاءات الواسعة التي تمنحنا الفرصة للتعلم و المعايشة و حرية التعبير عن المشاعر و الافكار و ما يدور في الاعماق، بصدق، دون رياء، دون خوف.
عند صديقي التركماني اكلنا اكلات عراقية، و شربنا كما كنا نفعل في كركوك ايام زمان، وخرجنا بعدها لنذوب بين البشر في شوارع المدينة و مقاهيها و مراقصها.

كان العراق، الوطن، ثالثنا انا و صديقي. و كان مستقبله هو شاغلنا و موضوعنا المشترك. وكان من الطبيعي ان تستمر مناقشاتنا و تحليلاتنا و استنتاجاتنا و حلولنا اياما و ليالي. كنا نلتقي و نتقاطع و نختلف في الكثير من الامور، و لكننا في النهاية كنا نتفق على الامر الاهم:
لا مستقبل للعراق في ظل سيادة التعصب القومي و الديني و الطائفي. المستقبل يرتبط بفعالية الجماهير و بنضال القوى التي تؤمن بان الوطن لنا جميعا كمواطنين، بغض النظر عن انتماءاتنا. لنا جميعا حقوق متساوية و علينا واجبات متساوية. المستقبل مرهون بالعمل المشترك لبناء الوطن المشترك و على اسس وطنية و ديمقراطية حقيقية غير مزيفة و مكيفة لتحقيق المصالح الضيقة و الوصول الى السلطة فحسب. غير ان السؤال الملح الذي كان يفرض نفسه علينا، انا و صديقي، كان عن سر ضعف دور و فعالية القوى الوطنية و عن مشروعها و امكاناتها في تحريك الجماهير.
لماذا هذا التراجع، و لماذا هذا التشتت، و الى متى يستمر هذا النزيف؟ أسئلة ثقيلة ومصيرية كنا نحاول الوصول الى الاجابة عنها.
المبهج و المثير للاعتزاز هو اننا، انا و صديقي التركماني، كنا واعين لدورنا و مسؤوليتنا الشخصية، فكلانا يعطي الكثير من الوقت و الجهد و يعمل في المؤسسات الثقافية و الاعلامية و الجماهيرية التي تدعم بناء العراق و العملية الديمقراطية و التطور.

لم تقف القومية او الدين في طريقنا يوما. و على الرغم من ان صديقي يعمل من اجل قضية التركمان و ينشط قوميا، كما افعل انا لشعبي ايضا، فان اسس صداقتنا تترسخ، والوطن الذي يجمعنا يدفعنا لنسير الى امام، و الحلم الانساني السامي في المساوات و الحرية و التطور و الانعتاق يجعلنا نحلق معا عاليا في السماء الواسعة و الممتدة الى مالا نهاية.
هل سنحقق يا ترى حلمنا المشترك؟! هل سنرى عراقنا معافيا امنا مزدهرا؟ هل سنعود يوما الى شوارع كركوك لنتكلم بلغاتنا المتعددة، و نغني اغانينا الفلكلورية الرائعة، و نمارس ثقافتنا و نعبر عن انفسنا بحرية، في مهرجان الاخوة و التعايش و السلام و الوئام؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لا اتفاق بين زعماء دول الاتحاد الأوروبي على تقاسم المناصب ال


.. ما موقف الأحزاب الفرنسية ومقترحاتهم من الهجرة في حملاتهم الا




.. لتطبيع العلاقات.. اجتماع تركي سوري في قاعدة روسية| #الظهيرة


.. حارس بايدن الشخصي يتعرض للسرقة تحت تهديد السلاح




.. وول ستريت جورنال: لا وقت للعبث بينما يحرق حزب الله شمال إسرا