الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


“حسرة القلوب هي جوهر كل الوعي الثوري”

سارة جافي

2022 / 3 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


نشرت هذه الورقة في العدد 11 من مجلة سالفاج: بالفعل، ليس بعد. بتاريخ 26 شباط/فبراير 2022



عندما توفي أبي تغير كل شيء.

صعقني الحزن لمدة عام ونصف العام قبل أن ينضم لي أي شخص آخر أعرفه. لقد انقلبت حياتي رأساً على عقب، أغضبني ذلك، وتركني وحيدة لم يبق لي أي شيء على الرغم من أنني واصلت المحاولة. بقيت أفكر بالحزن كشيء يمكنني حله، ويمكن أن يكون اختباراً أو مهمة عمل، وأن التحضير والعزيمة والعمل يمكن لهم أن يخرجوني من تلك الحالة. لكن الأمر لم ينجح.

كنت آمل أن أتمكن من كتابة مسار حياتي خلاله، وأن توفر الكلمات على الورقة أو على شاشة الحاسوب البلسم الذي لطالما وفرته لي. ملأت دفتري قصاصات من مناديل وضعتها في حقيبتي، وبدأتُ كتابة المسودات وتركتُها، وكتبتُ عبر البريد الالكتروني لنفسي لكنها ما لبثت أن بقيت أشباحاً، إذ عندما أفتح مجلد المسودات أرى أجزاءً لما كنته وقتها. يمكنني الكتابة، نعم، لكنني لم أستطع جعل كتابتي منطقية، ولم أتمكن من إيقافها.

الحزن ليس شيئاً نقوم به؛ إنه شيء يحصل لنا. إنه شيء يسحقنا، ويتطلب أن نجلس معه ونعيشه ونشعر به ونختبره، وهذا ما يتعارض مع كل ما يخبرنا به العالم الذي نعيش وسطه. لقد تعلمنا العمل من خلال الأشياء. نظن أنه يوجد مسار خطي. نعتقد أنه يمكننا القيام بشيء للحزن، ولكن الحقيقة غير المريحة هي أن الحزن هو دعوة لعدم القيام بأي شيء. وعدم فعل أي شيء، حسناً، أغلبنا، الذين يتم التوقع منهم أن يكونوا منتجين- يجعلنا الحزن غرباء. يحولنا إلى مشكلة.

من المتفق عليه عالمياً أنه يوجد “مراحل” للحزن، ولكن صديقاً شاركني الخسارة أخبرني: “ما لم يخبروك عن المراحل أنها في بعض الأوقات تضربك في آن معا”. الحزن ليس سلّماً تصعده أو مصعداً يصعد طابقاً تلو الآخر. إن الافتراض القائل إن هذه السيرورة، أو في الواقع أي شيء يتعلق بكونك إنساناً، يمكن أن يتكشف تباعاً، عندما تنخدش، فيه الكثير من الأيديولوجيا. سيعلمك الحزن أنه، بكل بساطة، لا يعمل وفق هذه الطريقة.

الحزن ليس شيئاً، هو كل شيء في آن معاً، لا يمكن وصفه، وعندما تحاول التعبير عنه يظهر على شكل العديد من الكليشيات، إنه يسكن في الصدر وتتذوقه مع أنفاسك ويخترق مسارات عقلك: لن يكون هناك أي شيء جيد من جديد الأسوأ حصل وبالتالي سيستمر بالحدوث. لا تستطيع السيطرة على ذلك. أنت تسير في الضباب، خطوة حذرة تلو الأخرى، غير قادر على رؤية إلى أين تتجه، الذهاب إلى أي مكان سيبدو سخيفاً.

الحزن ليس قضية سياسية بهذه الطريقة؛ إنه معقد جداً لأنه شخصي جداً ومادي ومتجسد وحيواني للغاية. وأكثر. إنه يلاحق كل حججنا السياسية، ويطارد كل ممارساتنا. “إن حسرة القلب هي جوهر كل الوعي الثوري” كتبت غارغي باتاشاريا. ننتقل إلى النضال لأننا لا نستطيع أن نفعل سوى ذلك، في كثير من الأوقات، لأننا تحطمنا أو شاهدنا الآخرين يتكسرون تحت عجلة التعذيب الشديدة في المجتمع الرأسمالي. ونجد أنفسنا عالقين، حزناء، ضائعين إذا فشل النضال في ترجمة الطريقة التي حلمنا بها. نقول لذاتنا، بكلمات جو هيل: “لا تحزن، تنظّم”، لكن هذا أمر صادر عن مكابر، عن شهيد.

فرويد سأل: “ما هو العمل الذي يؤديه الحزن؟”

قرأت فرويد في فصل الشتاء خلال فترة العزلة بسبب الكوفيد في شقة مستعارة في نيويورك، كانت باردة على الدوام، الرياح كانت تضرب النهر الشرقي وتشكل نفقاً ريحياً بين المباني الجديدة كان يضربني عندما كنت أخرج ملثمة ضد الطقس والفيروس. أجلس مع الحزن والسوداوية، ملتحفة ببطانية، أكافح وسط ضباب يطبق على عقلي في ظل الحجر الصحي، محاولة كالعادة تحويل مشاعري إلى أفكار كما لو أن الأمر سيتيح لي بمزيد من التحكم. أردت أكثر من أي شيء الإجابة عن سؤال فرويد، لأنه إذا كان هناك من إجابة، إذا كان بإمكاني تحديد هذا العمل، يمكنني القيام به بشكل أسرع وأشفى.

لكن خاب أملي. يحاجج فرويد عن سيرورة الحداد بـ”إن اختبار الواقع، الذي أظهر أن الموضوع المحبوب لم يعد موجوداً، يتطلب بعد ذلك سحب كل الليبيدو من روابطه مع هذا الموضوع”، في هذه السيرورة “يتم إخراج كل واحدة من الذكريات والآمال التي كانت تربط الليبيدو بالموضوع ويتم إضفاء طاقة انفعالية عالية عليها. ويتحقق فصل الليبيدو عنها.” (سيغمود فرويد- أفكار لأزمنة الحرب والموت- ترجمة سمير كرم، ط2، بيروت: دار الطليعة، 1981) بكلمات أخرى، يتعلق الحداد بالتخلي عن الماضي، وفصل الرغبة عن الذاكرة. ضمن هذا التعريف يكمن “التوقع” وكذلك الذاكرة، ولكن هذا يبدو ناقصاً وغير مكتمل.

أو بالأحرى، يبدو وصفاً سيئاً لما كان يحصل، خلال ذلك الوقت، بالنسبة للعالم، وكل شخص ما عدا أولئك الذين يعانون من إنكار عميق (الذي يفترض أنه مرحلة من “مراحل الحزن”). كنا عالقين في الداخل، لوحدنا- حتى طقوس الحداد الباردة التي ما زالت شائعة في الـ 2020ات حرمتنا منها الدول الغربية. لم نتمكن من رؤية الموت إلا إذا حصل لشخص مَسَّنا مباشرة. كان أقرب ما أمكنني هو التحدث مع الممرضات والعمال الصحيين الذين أخبروني عن طبقات ومعدات الحماية التي كانوا يرتدونها يوماً بعد يوم، عن كآبة حمل التابليت حتى تتمكن الأسرة من توديعهم عبر الفايس تايم. كنا نعلم أن الوفيات كانت تحصل، وكنا نحزن على اللمسة الإنسانية وكل مظاهر الحياة الطبيعية الأخرى التي جعلتنا نشعر بأن كل شيء على ما يرام، ورغم ذلك كان من المفترض أن نستمر. الاستمرار بالعمل. كان ذلك هو التعثر الذي ظللت أعود إليه.

كنت أتوقع، قبل وفاة والدي، قبل أن أقرأ فرويد، أن الحزن سيكون على الماضي. إن معالجة الخسارة ستكون مترنحة عبر الذكريات والبكاء الكثير والحزن بشكل عام. التي يصفها فرويد على الشكل التالي:

“الحداد الجاد، ردة الفعل على خسارة أحد الأحباء، يحتوي على ذات الحالة المزاجية المؤلمة، وفقدان الاهتمام بالعالم الخارجي- ما عدا ما يذكرنا بالميت- فقدان القدرة على اختيار أي حب جديد- ما يعني استبدال من فقدناه- الابتعاد عن أي مهمة لا علاقة لها بذكرى الراحل”.

إنه وصف دقيق وغير كافٍ على نحو مؤلم. لم أكن أسكن في الذكريات بقدر ما كنت غير قادرة على تخيل أي شيء آخر على الإطلاق. ما بدا حزن أكثر من أي شيء آخر هو خسارة مستقبلي. يبدو أن خسارة قريبة كانت بما فيه الكفاية حتى دفعتني كل حركة إلى الأمام معها. في بعض الأوقات، كانت الحياة تبدو طبيعية للغاية تقريباً، بعدها تطلب مني الأمر اتخاذ قرار وأجد نفسي مجمدة. محاصرة.

ماذا لو كان الحزن في الواقع يتعلق بالمستقبل؟ ماذا لو كان “عمل الحداد” في الواقع هو، ليس التعلق، إنما، التخلي عن المستقبل الذي كنت تعتقد أنه لك، وماذا لو كان الجزء الأكثر إيلاماً هو أنه يجب عليك التعلم خلال وجودك وسط الجحيم، كيف تتخيل مستقبلاً مختلفاً وتحققه؟

في بعض الأوقات، يبدو الحزن على شكل صورة غضب شديد في كل أنحاء جسدك، أدنى شيء يمكن أن يدفعك باتجاه ردٍ باكٍ: ما الذي تريده؟ من تعتقد نفسك؟ ألا يمكنك أن ترى؟ ولكنه لا يستطيع الرؤية، لا توجد فترة حداد معترف بها، لا ملابس حداد لارتدائها، ولا ملصق تحذيري، إنما فيض مشاعر تندلع عبرك، هناك فقط الغضب الذي لا يمكنك أن تسيطر عليه.

أعتقد أنني أفضل تحذير الأم جونز على مقولة جو هيل :”صلوا من أجل الموتى وقاتلوا كالجحيم من أجل الأحياء”. جونز، بعد كل شيء، وعلى الرغم من عمرها، لم يكن لديها أي ميل للاستشهاد (إذا كانت قد فهمت الترويج الذاتي قبل فترة طويلة من تحولها إلى علامة تجارية). أنا لا أصلي، ولكن هناك على الأقل بعض الاعتراف بأننا ندين بشيء للموتى، ومن خلالهم، لأنفسنا.

خلال عملي على هذا المقال تلقيت خبر وفاة داون فوستر. وواحدة من الكليشيات السيئة للحديث عن الحزن أنها تضربنا كلكمة عند باب معدتنا، فهل نقول بدلاً من ذلك أن الوفاة جعلتني أرغب بضرب الآخرين بدلاً من ذلك؟ حزن أصدقاء داون على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة عندما اختار أعداؤها الاحتفال. على الرغم من أنها، وكما قال الكثيرون، علامة على حياة جيدة وأن المعارك الصحيحة التي اختارتها قد أشعلت كل هذا الغليان، لكن مع ذلك كانت الاحتفالات مثيرة للغثيان.

نحن نلتزم بالعديد من القواعد السيئة والَمَرضية حول الموت لأننا نفتقر إلى ممارسات مجتمعية حقيقية لتكريمه على نحو صحيح. ورغم ذلك، فإن صورة الاحتفال المريح بوفاة شابة من الطبقة العاملة كان لديها كل الجرأة لتحدي السلطة كانت بغيضة جداً لأنه حتى في وفاتها عملوا على التقليل من أمرها، والحط من قدرها ومن خلالها كل من حزن عليها.

إن القسوة المفرغة للحظات كهذه هي التي تشعل الثورات. نحن نعيش الكثير من الخسائر والجروح الصغيرة، كل يوم، وتستمر، وليس لدينا الكثير من الخيارات في هذا الإطار بكل الأحوال. ولكن بعض الخسائر هي كبيرة للغاية، وقاسية جداً، ومع ذلك تدل على الطريقة التي تسير بها الأمور في هذا العالم. أثارت قسوة الضابط الذي قتل جورج فلويد والآخرين الذين شاهدوا- شجاعة المراهقة التي صورت كل شيء- هبةً شعبيةً تردد صداها عبر المحيطات. لا نعرف دائماً ما هي اللحظات التي ستضيء الخسارة، كل ما نعرفه أن حزننا يهددنا. ولكن بإمكاننا تحويله للخارج.

“من يستطيع تخيل عالماً آخر ما لم يكن قد انفصل فعلياً عن العالم الذي نحن فيه؟” سألت باتاشاريا.

نعم الحزن يسحق، يمحو، ويفرك. لكنه يفتح، في لحظات مساحة واسعة من الاحتمالات الجديدة. مع القليل من الخسارة، هل يمكننا تخيل شيء مختلف تماماً؟ هل يمكننا تخيل الحياة خلاف ذلك تماماً؟ هل يمكننا جميعاً، اذا استغلينا الوقت لحزننا، بدلاً من الخداع مثل الزومبي، من تخيل بشكل جماعي شيئاً جديداً؟

إذا اعتبرت الحزن إضراباً، ربما يكون ذلك منطقياً، ويبدو أحياناً أن جسدك في حالة إضراب، وأنت تختبره كما لو أنه عجز عن التنفس؛ ثم تدرك أنك أنت من تحبس أنفاسك بنفسك، وتتعلم في النهاية على أن تزفر بعمق عندما تشعر بأن ضيق صدرك هو إعلام لك بأن تسترخي فعندما تكون تحت الضغط أو بالأحرى تحت المياه لست بحاجة إلى الحفاظ على الأوكسيجين من أجل الهجمة المقبلة. جسدياً، يتذكر الجسم ما فعله للنجاة من التروما ويحاول إعادة خلق هذا البقاء.

يلاحظ فرويد: “من اللافت للنظر أيضاً أنه لم يخطر ببالنا أبداً اعتبار الحداد حالة مرضية وتقديمه إلى الطبيب للعلاج، على الرغم من حقيقة أنه ينتج عنه انحرافات شديدة عن السلوك الطبيعي”.


ربما كان ذلك صحيحاً عندما كتبه، وليس بعيداً جداً عن فترات الحداد للأسر الأوروبية والبرجوازيات الجديدة. لكن خلال هذه الأيام، كما كتب ويل دايفز في صناعة السعادة، فإن الحزن هو مجرد مشكلة أخرى يجب معالجتها بعيداً.

كانت إحدى الاختبارات المتبقية حول الفهم الكيميائي العصبي للاكتئاب هي إعفاء الأشخاص الذين يعانون من الحزن: هذا، على الأقل، لا يزال سبباً غير صحي للشعور بانعدام السعادة.

فجرى القضاء على الحزن عندما ظهر ويلبوترين Wellbutrin- الذي وافقت الولايات المتحدة على استعماله عام 1985- والذي وعدنا بأن يخفف من “أعراض الاكتئاب الأساسية التي تحصل بعد فترة وجيزة من وفاة أحبائنا”. أصبح الحزن الآن مرضاً عقلياً يمكن تشخيصه إذا استمر أكثر من فترة زمنية مقبولة. لا تهتم بحدادك، خذ حبة دواء وارجع إلى العمل.

ثم هناك مسألة الحزن المناسب. يُسمح لنا، خلال فترة زمنية مناسبة، من دون شك، بالحزن على العلاقات التي لها معنى لقواعد الرأسمالية: الأسرة النووية، إلى حد بعيد. يُسمح لنا بالحزن عند إنهاء الزواج، أو موت أهلنا، وربما عند وفاة طفلنا. والأجداد، من دون شك، على الرغم من أن الكثير من المشاعر ستعتبر مفرطة. إذا مات أحد الأصدقاء، ربما نحصل على دعم لبضعة أسابيع ومن ثم يُتوقع منا أن نمضي قدماً. والحزن على تفكك الصداقة، فإن خسارة فرد ليس من أفراد العائلة، أي شخص لا يتناسب مع هذه الحدود الصغيرة، يُنظر إليها على أنها مبالغة، ومضيعة للطاقة. لماذا أنت مهتم/ة إلى هذا الحد؟ ليس كما لو كان حبيبك/تك، أو زوج/تك. الحداد على موت شخص غريب أمر غير مقبول على الإطلاق. حتى عندما تتراكم الخسائر 100 ألف، 600 ألف ميت بسبب الكوفيد-19، وعدد القتلى الذي لا يحصى من “الحرب على الإرهاب”، إضافة إلى 36 مليون حالة وفاة بسبب الإيدز. إن الجلوس مع تزايد هذا الرعب والسماح لأنفسنا حتى بمحاولة الشعور بهم هو اضطراب لمثلنا العليا بالانتاجية، من المستحيل ذلك وربما حتماً في نفسيتنا، ولكن ما هو أكثر من ذلك، أن النظام يطلب منا الاستمرار في العمل حتى عندما تنهار الأشياء من حولنا، حتى عندما تتفكك أنفسنا.

إن قلة الوقت ومراعاة الحزن خاصة، مبنيان وفق نمط الانتاج الرأسمالي، الذي لا يعنيه موت البشر. لا يمكن للرأسمالية أن تتوقف عند الموت أو تستوعب الضعف والعاطفة المتأصلة في الأجساد البشرية. لم يعد بإمكان الموتى أن ينتجوا قيمة لرأس المال؛ الأحياء لديهم الكثير من المشاعر المزعجة عن الموت. لذلك يستعمل ماركس الكثير من الاستعارات المتعلقة بمصاصي الدماء، والموت، ولماذا يصيبنا رعب الروبوتات بشكل دائم ووجودي. نحن نفهم في مكان عميق من عظامنا أن هذا النظام يفضل الروبوتات علينا، وأن نظام العمل يحولنا إلى روبوتات.

أضرب العمال في مصنع فريتو لاي في توبيكا- كانساس هذا الصيف بعد أكثر من عام على استمرار العمل في صناعة الأطعمة الخفيفة في ظل الوباء، فضلا عن العمل الإضافي الإجباري الذي يسمونه نوبات عمل “انتحارية”. كتب أحد العمال عن رؤيته لزميل له يموت على خط العمل في المصنع. “كان علينا إزاحة الجسد وتشغيل شخص آخر مكانه للحفاظ على انتاجية خط العمل”. كما توفي والد عاملة أخرى بسبب الكوفيد-19 ولم تستطع إقامة مراسم الوداع بسبب قيود الإغلاق. “فقد أُخبرت أنه طالما لم تكن هناك جنازة فهي غير مؤهلة للحصول على وقت للتفجع. كان عليها أن تمضي يومين من أيامها حتى تحزن”.

هذا أمر معبر، من دون شك: لقد حرمنا من الجنازات بسبب الظروف الوبائية نفسها التي سببها توسع رأس المال إلى جميع زوايا العالم، ومن دون الطقوس الاجتماعية القصيرة، يُتوقع منا ألا نحزن على الإطلاق. التوقع مرة جديدة، أن الحزن هو مجرد شكل آخر من أشكال العمل الذي نقوم به، وبدون تلك الطقوس، يجب علينا الاستمرار من دون أدنى تأثر.

أتاح الوباء فرصاً جديدة لتراكم رأس المال، خاصة في قطاع التكنولوجيا، إذ وصل سعر سهم شركة زووم إلى طبقة الستراتوسفير، بمساعدة من خدمات الانترنت لأمازون، توسط لنا التواصل المرئي فجأة لنقل المودة والوجع، إضافة إلى اجتماعات العمل الجهنمية التي لا نهاية لها حيث كان من المتوقع منا التظاهر بعدم وجود خطأ ما. جنازات الزووم- شاركت باثنتين- وطقوس الحداد ببساطة لم تكن بديلاً عن الجنازة الحقيقية. لقد سعى فايسبوك وما شابهه بالفعل إلى تسليع التواصل البشري، لترتيب وتصنيف كل علاقاتنا، لكننا علقنا الآن حقاً، تبعاً للاحتمالات الضئيلة التي يقدمها لنا الاتصال بواسطة الوسائل التقنية. انقطعت علاقاتنا ببعضنا البعض بسبب الشاشة.

كتب ماركس عبارته الشهيرة: “رأس المال هو العمل الميت، مثله مثل مصاصي الدماء، يعيش فقط على امتصاص قوة العمل الحية، ويعيش أكثر، كلما امتص أكثر”. رأس المال يدفعنا أبعد من إنسانيتنا، حتى لو تطلب الأمر أن يقضي على أجسادنا الحية. حتى عندما اجتاحت الرأسمالية الأخيرة عقولنا وقلوبنا وحولت مشاعرنا إلى مصدر ربح إضافي، فقد سعت كذلك إلى توحيد تلك المشاعر، وتجميد ابتساماتنا إلى شيء غير إنساني لأنها لا تتغير. لا يمكن للرأسمالية أن تسمح بمشاعر لا يمكن حصرها. كما لا يمكنها الاعتراف بمحدودية الإنسان فبذلك تعترف بوجود حدود لا يمكنها تجاوزها لدفع هذا الكوكب. لا يمكن أن تسمح لنا بالحزن.

لهذا السبب يصبح الحزن الجماعي ثورياً. ما هي السياسة الراديكالية من دون مراعاة لهذه الآلام والنضالات العالمية؟ ما هي السياسة الراديكالية من دون إفساح المجال للفرح، نعم، ولكن أيضاً للألم؟ ما هي السياسة الراديكالية إن لم يكن المطلب وقف هذه العملية الإجرامية بهدف الاعتراف بالضرر الذي تسببت به؟

حتى لو لم نتمكن من رؤية حصيلة الوفيات الناتجة عن الكوفيد-19 من أجل الحزن، في كل مكان تركَنا نتذكر بأننا أساسيون فقط لأن الكثير من الدماء والعضلات والأعصاب يجب استغلالها. أخبرنا السياسيون دوماً أن نستمر. قال نائب حاكم ولاية تكساس دان باتريك أن الأجداد سيموتون بمرح للحفاظ على استمرارية الاقتصاد: “هناك أشياء أكثر أهمية من الحياة”. وعلى ما يبدو أن بوريس جونسون عارض الإغلاق في الخريف “لأن الأشخاص الذين يموتون هم أساساً فوق الـ 80”. كما أن الأرواح غير المنتجة لم تحظَ بالحزن عليها؛ كذلك كبار السن والسجناء والمعوقين. “أعراض مرضية” عبارة ليست كافية لوصف الحملة الشرسة التي سعت التعليقات والمتصيدون على تويتر على حد سواء للقول إن الموتى يستحقون الوفاة بسبب الظروف الموجودة مسبقاً. لقد أصبحنا دولاً صغيرة مكونة من خبراء في مجال التأمين، نبحث عن أسباب للدوس على الموتى: نرفض الرحمة، والقيمة الإنسانية.

إن المسألة تدور حول الحزن البالغ هي أن الخروج منه لفترة قليلة يجعل العيش يشعرنا بالنعيم وينبغي الاستمتاع به، ويشعر جسمك بأنه حي من جديد، ويؤلم قدميك، ويتعب العضلات، التهاب خفيف في الحلق والرغبة التي لم تتحقق في بطنك أمر لا يصدق، ومعرفة أنها يمكن أن تسحقك من جديد، وتجعلك جائعاً لهذه الحياة القصيرة، حافظ عليها، حافظ عليها، تمسك بها الآن في وقت تستطيع فيه ذلك.

العالم يحترق وأنا أكتب هذا النص، ورغم ذلك، فقد لاحظ الكثيرون، إن الأشياء الخطأ هي التي تحترق. مع ذلك، تعبّر الحرائق عن الحزن، كما عندما احترقت الكنائس الكاثوليكية [والمسيحية بشكل عام] في كندا بعد اكتشاف قبور لأكثر من 1000 طفل من السكان الأصليين في الكنيسة و”المدارس السكنية” التي كانت مدعومة من الدولة. حيث كانت تنتزع من أطفال السكان الأصليين ثقافتهم. (بدأت مجلة الإيكونوميست الراديكالية المشهورة تقريرها حول اكتشاف القبور على النحو التالي: “كان الهدف من المدارس السكنية الكندية لأطفال السكان الأصليين هو “قتل الهندي داخل الطفل”، أحياناً كان الطفل يموت أيضاً”). في أعقاب الكشف عن هذه المقابر، جرى تخريب أو حرق ما يقارب 20 كنيسة، أقيمت العديد منها على أراضٍ للسكان الأصليين. كان رد رئيس الحكومة جوستون ترودو: “حرق الكنائس في الحقيقة سيحرم الأشخاص الذين هم بحاجة إلى الحزن والشفاء والحداد من الأماكن التي يمكنهم الحزن والتفكير والحصول على الدعم”، تصريحه كان تذكيراً مثالياً بأن الحزن المقبول هو إذا كان منظماً ومهذباً وداخل أسوار معتمدة، في حين أن الحقيقة بالطبع هي أن الحزن هو أي شيء ما عدا أن يتم احتواؤه. أي شيء ما عدا الاحتواء.

وقعت هذه الحرائق المتعمدة إلى جانب حالة القلق التي سببتها موجة الحرائق بسبب ارتفاع الحرارة التي حطمت الرقم القياسي في أشهر الصيف الماضي، عندما سجلت في بلدة ليتون، في كولومبيا البريطانية، أعلى درجة حرارة في كندا إذ بلغت 49،6م. ثم اشتعلت النيران فيها، والأشجار والمنازل على حد سواء. في أحد الفيديوات التي نشرها السكان الهاربون من الحريق والدخان الأسود واللهيب البرتقالي الذي كان يجتاح الطريق، إلى جانب الحطام المتطاير، والجو المكفهر باللونين الرمادي والأخضر المخيف، يذكرنا عنوان الفيديو- Fleeing ‘Q’emcin aka Lytton’- بأن هذه المدينة قد بنيت على عظام المستعمرين، وقد يكون هذا الذي حصل فعلياً.

هرشا واليا- Harsha Walia، المنظِّمة والمؤلفة والمعارضة الشرسة لكل هذا العنف، استقالت من وظيفتها بعد استعمالها للغة إنترنتية [وبعد هجوم واسع ضدها] تقول: “فليحترق كل شيء”، رداً على الرعب الأخير، كانت اللغة الانترنتية تلتقط الغضب الفعلي لجيل من دون مستقبل، وله قليل من حاضر افتراضي.

تذكرني الحرائق بمدى عدم جدوى كل ذلك.

أنت الآن تبكي، أو في كثير من الأوقات لا يمكنك البكاء في غضب صامت، إنما تجلس في غضب صامت، تعلق المشاعر في مكان ما من صدرك بالقرب من قلبك ولكن ليس فيه تماماً، يتردد صدى المشاعر حول دواخلك الجوفاء، تتعمق أكثر أثناء البحث عن المكان الذي قد تخرج منه. الدموع لا تأتي. لا كلمات. انتظر فحسب.


يوم بدأت بكتابة هذا النص، كان “يوم الحرية” في انكلترا، عندما قررت الحكومة رفع كل التدابير الوقائية من الكوفيد-19 وفتح الأبواب على مصراعيها حتى في ظل ارتفاع أعداد الإصابات في كل العالم (ومن ضمنه انكلترا) وصعدت أسهم ريتشارد برانسون بشكل صاروخي وكذلك جيف بيزوس وافتُتحت آبار نفط جديدة.

احتل الناشطون البيئيون في اسكتلندا مبنى حكومياً مطالبين بسحب الموافقة عن التنقيب في جزر شيتلاند. هم لن يوقفوا الحرائق أو الفيضانات التي حصلت لاحقاً خلال الصيف، ووصلت إلى المدن التي كنت أسميها موئلاً. لا يمكنني فعل أي شيء، أو فعل أي شيء يمكن أن يغير الطقس الحالي. وبعد. مع أولئك الأشخاص الذي يتصرفون بما يتجاوز الحزن، وعلى الرغم منه، لا، بشكل أكثر دقة، داخل الحزن يمكنني أن أجد شيئاً مختلفاً عن اليأس. لقد أصبح بالإمكان إدارة حزني من قبل أشخاص أحبوني وهم بالكاد يعرفونني، هم الذين تواصلوا معي بالكلمات والنكات والشعر والعناق الشديد والتسجيلات الصوتية والعناية الصامتة التي ذكّرتني بأنني إنسانة، على قيد الحياة، وغير وحيدة. والأهم من كل ذلك، لا بأس بالشعور بالفراغ من كل إرادة. كان قضاء بعض الوقت بصمت حتى أجد نفسي قبل التمكن من الحركة بمثابة ثورة صغيرة أيضاً. تطلب الحزن الوقوف بين الرماد والأنقاض، تقبّله بكل قلوبنا، ومن ثم التقدم ببطء خطوة بعد خطوة إلى الأمام بكل الأحوال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا تعلن أسقاط 4 صواريخ -أتاكمس- فوق أراضي القرم


.. تجاذبات سياسية في إسرائيل حول الموقف من صفقة التهدئة واجتياح




.. مصادر دبلوماسية تكشف التوصيات الختامية لقمة دول منظمة التعاو


.. قائد سابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية: النصر في إعادة ا




.. مصطفى البرغوثي: أمريكا تعلم أن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدف حر