الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نجيب محفوظ ... وهج بدء متكرر

محمد سمير عبد السلام

2006 / 9 / 10
الادب والفن


من خلال الصيرورة المتوهجة ، للدوال النصية – الكونية ، تمتد أعمال نجيب محفوظ ( 1911- 2006 ) ؛ لتحدث انقطاعا في مدلول العدم من خلال ظهوره دائما كبداية وجودية قلقة ، فالعدم عند محفوظ يناهض نفسه بوصفه عدما ، في حركة السرد الروائي التي تكرر في عناد – عن طريق اندفاع الأخيلة و طاقات اللا وعي – لحظة البدء ، في بكارتها الأولى ، هل هي احتفالية لاستعادة الحياة وفق بهجة مغايرة تقاوم موت محفوظ ؟ أم أنها تأويل ممتد للموت ببعث طاقة البدء الكامنة في الصخب السردي اليومي التالي لحدوثه المفاجئ ؟
صار محفوظ إذا إشارة لمسيرة البدء المكررة في انقطاعها الزائف المعروف بالغياب ، لقد اختلطت أسئلة الوجود و العدم عند محفوظ بممارسة حية للوجود في أشكاله المختلطة بحيث يمكننا أن نعاين في سرد الممارسة المتجددة لعلاماته طاقة متوهجة للعدم ؛ ففي أصداء السيرة في نص بعنوان ( قبر ذهبي ) يصف السارد ذلك القبر الذهبي وصفا معلقا لمدلوله المباشر على الموت ، و في الوقت نفسه يمنحه حركة و امتدادا للبهجة المتعالية في نهاياتها الخاصة الزائفة عند القبر ، فقد نمت فوقه شجرة سامقة مغطاة ببلابل شادية و قد كتب عليه :
" هنيئا لمن كانت نشأته في بوتقة الهجران "
محفوظ يستدعي النشأة الأولى من خلال القبر المتكرر في حدوثه الجمالي و صعوده الأسطوري الجذاب من خلال الشجرة ، نحن أمام أداء للعدم ، قد استبدل العدم بالقبر الذهبي ذي المدلول المعلق دائما .
و في مجموعة الأحلام – في الحلم رقم ( 145 ) يقام مهرجان عظيم تحضره رموز الأمم و يسلم رئيس المهرجان البطل كرة ، فيقرر أن يتبرع بها لأعمال الخير، لكنها تنفجر لحظة الانقسام و تتناثر حولها بقايا الإنسان و الحيوان و النبات و الجماد.
لم يعد للتعارضات الفكرية القديمة مكان في رؤى محفوظ حول الموت و الحياة و النشأة الأولى ، فلكل دال من دوال الحياة المتمايزة و دوال التدمير المتناثرة طاقة تختلط بالأخرى على نحو معقد في مشهد احتفالي يقاوم العدم ، بل يخترقه ليستعيد لحظة البداية و يفجرها في اتجاه سردي آخر .
لقد امتزجت مشكلة الموت بأخيلة الحياة المتجددة عند محفوظ منذ بدايات مشروعه الروائي ، بحيث تبعث هذه الأخيلة لحظات تكوين جديدة خارجة من باطن العدم ففي رواية ( بداية و نهاية – مكتبة مصر – ط14 – 1984 ) يعاين الفتيان حسنين و حسين لحظة الانقطاع المفاجئة من داخل الصخب اليومي المتكرر ، عندما أخبرهما الناظر بوفاة والدهما فجأة ، و كانا قد تركاه في صحة جيدة صباحا ، فقد تبلور العدم فيهما من خلال تأثير صورة الوالد الميت السحري ، فقد وقف حسنين أمام جثة أبيه و قال :
" رباه ، لماذا يجمد هكذا ؟ إنهم يبكون ، و لكن في تسليم من لا حيلة له . لم أكن أتصور هذا ، و لا أتصوره . أم أره يمشي في هذه الحجرة منذ ساعتين ؟ ليس هذا أبي ، و ليست هذه حياة " ص8 .
لقد فجر موت الأب حالة وسطى من الاختفاء ، نتيجة لما خلفه و جوده الحي من ذكرى في عقل حسنين ، تبدو وحدها تمثيلا للحياة التي لم تعد نفسها أبدا ، مثلما لم يعد الأب ممثلا لهويته الأولى . لقد أصبح شبحا أو ذكرى بعد ساعتين من حضوره المادي ، أما حسين فقد سرد بداخله رجفة من تأثير زرقة وجه أبيه المختلطة بسكون غير دنيوي يصفه السارد بالعمق اللا نهائي .
للموت إذا فاعلية داخلية توحي بالانتشار المفاجئ في الآخر مثل الحياة تماما في تضاعفها و انتشارها ، و لهذا علت نغمة الحياة لحظة وداع الأب ليستعيد بداية متجددة لحضوره الأول المقاوم للحضور الثاني كذكرى :
يقول السارد " و ألقى الشابان نظرة أخيرة على الجثمان المسجى ، و هما يعتقدان أن عيني أبيهما تريانهما رغم الموت ؛ فلم يولياه ظهريهما ، أن يسيء إعراضهما شعوره " ص 9 .
بدأ الأب غيابه عن مستقبل الأسرة بحضور ملازم للأحداث المقبلة ، و مستبدل لحياتها الانفصالية عن العدم ، الأب يبدأ مسيرة أخرى في السرد تؤسس للغياب داخل مركزية الحضور .
بدا هذا أكثر وضوحا في شخصية نفيسة / الابنة التي تجلت فيها فاعلية التفريط المستمرة المختلطة بالطاقة الإيروسية اللا واعية ، فقد اختلطت بكارة الممارسة الجنسية اللا واعية ، بذكرى حادث اعتداء أبوي قديم استدعى طاقة قتل مضادة ، و محولة في آن باتجاه الموضوع ، أو العلامة البديلة المشوهة عن الأب الممثل للتابو الإنساني العبثي في حضوره الأول ، بحيث تكتسب نفيسة طاقته المقدسة و الزائفة معا ، يقول السارد بصدد تخلي سلمان عنها :
" و هيجها حديثه فجأة ؛ فعاودها الجنون ، و انقضت عليه مرة أخرى بدافع غريزي ، ثم أمسكت بتلابيبه ، كشيء يريد الإفلات ، و تأبي عليه بكل قواها – أن يفلت و ركبه الذعر ؛ فانحل تماسكه " ص 133 .
لقد اندمجت دوافع التدمير داخل نفيسة بالتحام بالصنم الذي تولد للتو من تحجر سلمان و اختفائه من المشهد .
يمتد إذا التدمير في اتجاه ذاتي مضاد ، تجلى فيما كونه المجموع من صور لها فاعلية الإغواء Seduction كما يطلق عليه جان بودريار BAUDRILLARD ، فقد استبقت نفيسة العدم في الصورة كي لا يحدث هذا العدم أبدا :
" و جعلت تنظر في سهوم إلى صفحة الكنافة الموردة ، حتى تخيلت نفسها في الصينية ، تحترق ، و قد اسودت بشرتها ؛ و في تلك اللحظة بدت الحياة لها عابثة قاسية ، تعبث في قسوة ، و تقسو في عبث ؛ فتساءلت لماذا خلقني الله ؟ ، و مع ذلك كانت تحب الحياة ، و لم يكن يأسها و عذابها و خوفها إلا آيات على هذا الحب " ص 277 .
لعبة الاحتراق تكتسب حضورا تأويليا يستبق العدم ليحترق في اللعبة بوصفه عدما ، و تجديدا لمادة الرغبة في تجردها من التبعية للمجموع ، النار انعزال انتحاري يذكرنا بتكرار الانتحار عند دور كايم في التجمعات ذات القدرة الاستبدالية للفرد ، إنه تجرد الحريق المباشر من هذا الخطاب من داخله .
و يثير موقف انتحار نفيسة عقب اكتشاف حسنين أنها متهمة بالدعارة ، تأويلات عديدة تضع الوعي بها نفسه في محل الشك و إعادة النظر ، ووفقا لبول ريكور Paul Ricoeur فقد مر النظر إلى الوعي بتحول جذري منذ نيتشه و ماركس و فرويد فالوعي الديكارتي الذي يلتقي فيه المعنى بوعي المعنى تحول إلى شك في الوعي ، و اتجاه نحو التأويل و تفكيك التعابير ( راجع / بول ريكور / التحليل النفسي و حركة الثقافة المعاصرة / ت – منذر عياشي / مجلة فصول / عدد 65 / خريف 2004 ، و شتاء 2005 – هيئة الكتاب / ص 91 ) .
في هذا الموقف السردي ، لا يبدو الموت كما يتبلور في الوعي بوصفه موتا ، لكنه ذلك الصوت المنفلت كطاقة لا واعية لها امتداد و حياة خاصة :
" أما هي ، فألقت بنفسها ، أو تركت نفسها تهوي ، و قد انطلقت من حنجرتها صرخة طويلة كالعواء ، تمثل لعيني المبتلى بسماعها وجه الموت ، فجاوبها حسنين بصرخة فزع ، و لكنها ضاعت في صرختها " ص 386 .
إن جملة تركت نفسها ... توحي باستلاب السقوط للذات غير الواعية ، بالعبث المصاحب لمركزية الإدراك أمام طاقة الإغواء ، ذلك الذي استلب صوت الحياة / صرخة حسنين في صوت العدم / صرخة نفيسة الأقوى حضورا في خطاب عدم يشكك المشهد و تأويله في إشباعه بالحدوث .
ألم تكمن فاعلية التفريط في أسرة حسنين منذ البدء بموت الأب و انتشار صوره ووجوهه في الأخوين ، ثم اضطرار الأسرة لبيع مخلفاته ؟
ألم تكن تلك الفاعلية مرتبطة بالعدم على نحو معقد يشكك في سيادة العدم على حركة السرد باتجاه الحياة عند محفوظ ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز


.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال




.. محمود رشاد: سكربت «ا?م الدنيا 2» كان مكتوب باللغة القبطية وا