صحفي يجلس خلف مكتبه وبيده سيجار أمريكي فاخر، وعلى المكتب تستلقي علبة ثقاب نقشت عليها إعلانات مقاطعة المنتجات الأمريكية !. يخلص إلى كتابة عموده أو مقاله في نصف ساعة يمر معظمها في شرب أكواب من الشاي المستورد والبن الذي يحرك الأفكار والمعدة . عندما تنقطع أفكاره لا بأس أن يتصل به أحد و ينير عقله البارد بحكايات وأساطير .
      في هذا العصر المتقدم يتردد سؤال كبير عن الصحفي وتعريفه و مهمته . ويمكن القول أن هذا العصر سوف يشير إلى كل من كتب أو نشر كصحفي ، ولكن مع استبعاد تام أن يكون الشخص الذي وصفناه أعلاه صحفيا بل هو تاجر قماش أو أحذية أو خبير أقلام أو متذوق لطعم البن . وهنا سأشير إلى تجربة جديدة في مجال العمل الصحفي من خلال إحدى الكتب الصادرة في الغرب عن الحروب وما تتركه من مآسي . من المعروف أن كل الكتب التي تناولت الحروب في الماضي أسقطت الأضواء على ساحة المعركة وأطراف الصراع ، وأما اليوم فقد أصدر كتاب جديد يتحدث عن موظفي الإغاثة الدولية وسقوطهم كضحية أخرى من ضحايا الحروب. الصحفي العالمي المعروف ديفيد ريف David Rieff  اصدر كتابا جديدا تحت عنوان "فراش من أجل الليل"  A Bed for the Night  وهو كتاب استثنائي لأنه يركز على موظفي الإغاثة الدولية وليس المحاربين أو ضحاياهم . يتناول المناطق التي زارها هو نفسه والتي تخضع لمراقبة الصليب الأحمر الدولي أو منظمات إغاثة أخرى . ويتناول الكتاب بشكل خاص مناطق البوسنة ورواندا إضافة إلى مناطق صراع أخرى من العالم .
      في أجزاء هامة من الكتاب مثل "مغالطات الرعاية الإنسانية" The Humanitarian Paradox أو "مخاطر الرعاية الإنسانية " The Hazards of Charity ، يتحدث ريف عن وقوع أفراد هذه المنظمات كرهائن لدى الحكومات المسببة للعنف أو ضحايا للقوى المتدخلة من الخارج من أجل حفظ السلام . ويكشف ريف الغطاء عن تناقضات كبرى في الغرب إزاء جدية نواياه في إنهاء حالات الصراع والحروب ويقول بأن عقول الغرب الليبرالي وضعت مجموعة من المعايير الحقوقية الجديدة وتأسيس محاكم دولية جديدة بينما نطالع تقرير البنك الدولي وهو يتحدث عن اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في العالم .ويقول ريف بأن هذه المعايير الحقوقية ما تزال أفكارا مجردة ويتساءل عما تحقق على صعيد الإغاثة ، الرأفة أو العدالة وتأمين الخبز للجياع .
      يمكن دراسة هذا الكتاب من جوانب سياسية ، دينية ، علمانية تنويرية أو ساخرة وكل منها بشكل منفصل . ويلاحظ تردد " لكن " في هذا الكتاب But  وهذا يعكس في اللغة النقدية نوعا من التصلب في الرأي dogmatism والغموض uncertainty ، وربما يعود هذا لأنه في ساحة المعركة ويشاهد ما يحدث باختلاف تام عما يصاغ من قرارات في قاعات مؤتمرات الفنادق الفخمة .
      ومن هنا نرجع لنقول بأن هذا الصحفي يختلف عن الذين يجلسون وراء مكاتبهم بانتظار سماع رنين أجراس هواتفهم ،وتلقي مكالمات إطراء كجزاء لعملهم الصالح وهو عدم نفض الغبار عن أقلامهم العفنة والمحشوة بالصمغ والتمر البلدي بدلا من الحبر أو المغامرة .وربما يتطلب العمل الصحفي أن يغير الصحفي أو الصحفية كل أدواته واستبدالها بوجوده في ساحة الحدث بصحبة جهاز صغير يسمى " الكمبيوتر المحمول " والذي يصله بالعالم في عدة دقائق دون مقصّات أو حواجز . بالمقابل ، ورغم التقدم على صعيد التقانة المعلوماتية فإن الكتاب مازال يثبت وجوده وأهميته مثل الكتاب الذي تحدثنا عنه أعلاه .
حيان نيوف
كاتب سوري
سوريا