الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سينما روي آندرشون*

محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.

(Mohamed Elfeki)

2022 / 3 / 30
الادب والفن


محور أفلام المخرج السويدي الكبير روي آندرشون وعمودها الحامل هو حال الإنسانية التي باتت تفتقد للإنسانية، وحال الإنسان الذي صار بعيداً عن الآخرين، وعن نفسه أيضاً. ورباعيته، التي تسمى أحياناً "رباعية الحياة"، هي أربعة أفلام متتالية، صنعها في الفترة ما بين عامي 2000 إلى 2019، وتصور الوضع الروحي والقيمي الذي وصل إليه إنسان اليوم. مشاهدة هذه الرباعية تمنح المتفرج فرصة فريدة لخوض تجربة بصرية وفكرية غير مسبوقة في تاريخ صناعة السينما، مع استثناءات قليلة، بالطبع، لقلة من كبار صناع السينما العالميين، وإن اختلفت أساليبهم.

ولأغراض التحليل فقط، سنقسم ملاحظاتنا إلى قسمين؛ أحدهما عن المضمون، والآخر عن الأسلوب والشكل، لأنه من المستحيل عملياً فصل الاثنين عن بعضهما أثناء فعل المشاهدة، فالأسلوب عند آندرشون هو أسلوب مبتكر خصيصاً من أجل التعبير عن معان بعينها، وقد ابتكره على نحو يصبح معه جزءًا من المضمون في كل واحد متحد، كاتحاد الماء بالإسمنت، فالفني لا ينفصل عن الاجتماعي، والجماليات البصرية مضفورة بحال الإنسانية.

الغايات والمعاني
هناك ثبات ملموس وواضح في قناعات آندرشون الفكرية والقيمية منذ فيلمه الأول عن المراهقين السويديين (قصة حب سويدية، 1970) وحتى اليوم. ظل آندرشون منحازاً دائماً إلى منظومة القيم والأفكار المتعاطفة مع اليسار ومع الطبقة العاملة السويدية، والناقدة لقيم الرأسمالية الجامحة والنيولبرالية، مثله في ذلك مثل آكي كورسماكي الفنلندي، ومايك لي وكن لوتش الإنجليزيين، وإن اختلفت الأساليب الفنية. رغم ذلك، نستطيع القول إن أعمال آندرشون، من الناحية البصرية، قد بلغت أوجاً فنياً لم تبلغه معها أي من أعمال باقي السينمائيين أصحاب القضايا الاجتماعية.

يصر آندرشون في كتابه (زمننا الذي يخشى الجدية، 1995)، وفي أكثر من فقرة، على ضرورة ممارسة النقد الاجتماعي في أفلامنا المعاصرة، وعلى أهمية أن ُتصنع الأفلام بصورة أكثر جدية وأكثر مسؤولية. حتى طيلة الربع قرن الذي هجر فيه صناعة الأفلام الروائية، واقتصر فيه عمله على صنع الإعلانات التجارية، لا يمكننا أن نعثر على إعلان تجاري واحد لآندرشون دون ملمح من النقد الاجتماعي تجاه الحالة الإنسانية بصفة عامة.

ينتمي آندرشون فكرياً إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي السويدي؛ أعرق الأحزاب السويدية وأقدمها، وأكثرها شعبية في السويد، والذي يُنسب إليه معظم الفضل في "دولة الرفاهة الاجتماعية" التي ينعم بها المواطن السويدي أمس واليوم. لكن في انتخابات عام 1985، تعرض الحزب لتهديد خطير من (حزب المحافظين) اليميني الصاعد حديثاً في الحياة السياسية آنذاك، والذي بدا أنه على وشك الفوز بالانتخابات العامة وتشكيل الحكومة الجديدة. مسؤولو الحزب الديمقراطي الاجتماعي استنجدوا ساعتها بآندرشون (وكان أشهر وأهم صانع إعلانات تجارية في أوروبا) لصنع إعلانات تلفزيونية تساعد الحزب في مأزقه. إبن الحزب البار لم يتأخر، وصنع فعلاً عدة إعلانات لصالح حزبه، ساهمت في قلب التوقعات، واكتساح الديمقراطيين الاجتماعيين للانتخابات في ذلك العام.

إعلانات آندرشون الحزبية كانت عبارة عن عدة لقطات، كل لقطة بمثابة مشهد مستقل بذاته (والذي سيصبح أساس أسلوبه السينمائي بعد ذلك)، وكل لقطة-مشهد منها يعبر عن نفس الفكرة التي تتكرر بأشكال متنوعة: طبيب وممرضة يفرغان ما في جيوب المرضى قبل علاجهم، حشد من المارة في نفق يسرعون ويدوسون بلا رحمة شخصاً تعثر منهم، مدرس يصفع تلميذاً ليس معه نقوداً في مطعم المدرسة ويرفض إعطاءه وجبة الغداء، وهكذا. هذه الإعلانات السياسية كانت كلها بلا جملة حوار واحدة، فقط على موسيقى مناسبة، وهي عادة آندرشون في صنع الإعلانات التجارية ذاتها. وفي نهاية كل إعلان منها نقرأ العبارة التالية مكتوبة على الشاشة: "لهذا علينا أن نهتم ببعضنا البعض"، مع شعار الحزب الديمقراطي الاجتماعي.

لا شك أن القارئ سيجد متعة في مشاهدة بعض هذه الإعلانات الحزبية، وغيرها من الإعلانات التجارية التي صنعها آندرشون طيلة عشرين عاماً. هي متاحة على اليوتيوب في تجميعات في بعض المقاطع، منها على سبيل المثال الأربع وثلاثون دقيقة التالية:

https://www.youtube.com/watch?v=7FN8TcF0qFU

يُمدد آندرشون قيمه وقناعاته الاجتماعية على طول أفلامه الروائية التي يظهر فيها الناس وقد فقدوا حسهم الإنساني، أو تنكروا له، في ظروف رأسمالية تنزع الإنسانية عن الإنسان وتشيئه حتى يصبح هو الآخر سلعة من ضمن السلع. وفن السينما عند آندرشون مرتبط ارتباطاً عضوياً لا ينفصم عن حال المجتمع الإنساني وما وصلت إليه البشرية من انحدار في القيم أثناء سعيها نحو المادة فقط. ولذلك تعبر أفلامه عن حالات الإنسان اليوم في عزلته، ووحدته، وعبثيته، وتهافته، وشروده، وغيرها من القيم الرثة التي طفت على سطح الكوكب منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي مع هيمنة الرأسمالية الجامحة وقيم السوق المسعورة.

ولا تستثني أفلام آندرشون المؤسسات العامة أيضاً، وبكل أشكالها وتنوعاتها، من تحمل المسؤولية عن هذا "الخراب القيمي." ستجد دائماً في أفلامه صوراً سلبية، وعدم ثقة في المسؤولين عن الصحة، والتعليم، والأمن والجيش، والكنيسة ورجال الدين، والبنوك، ورجال الأعمال وأصحاب المؤسسات المالية، بل وحتى العاملين في مؤسسات السينما ذاتها.

ولعلنا نستطيع القول بإن الطابع الإنساني العام لأعماله يستدعي إلى ذهن المتفرج حال المجتمعات النيولبرالية في أمريكا وأوروبا وآسيا بأكثر مما يستدعي حال المجتمعات في دول الرفاهة الاجتماعية الاسكندنافية؛ التوحش المادي لتلك المجتمعات، وطغيان معيار المال، والجشع، والجحود، والانحدار الأنثروبولوجي الذي يُلمس في انتفاء الاهتمام بالآخر وفي تخريب الروابط الاجتماعية. بل ويستدعي أيضاً التحولات الحادة التي تحدث في المجتمع الصيني منذ عقدين من الزمن، حتى إن سينما آندرشون تبدو، في الحقيقة، وكأنها تعكس حال الإنسان الصيني بأكثر مما تعكس حال الإنسان السويدي نفسه. يعبر الأدب الروائي الصيني الآن، وبقوة، عن العصف الذي يمر به المجتمع الصيني، وكذلك تعبر عنه السينما؛ وخصوصاً سينما جيا زانج كي.

الأسلوب والمنهج
الأسلوب البصري لآندرشون خاص متميز متفرد، أطلق هو عليه في عدة مناسبات وصف "اللقطة المركبة". يمكننا تلخيص هذا الأسلوب في القول بإن اللقطة عنده طويلة مسرفة في الطول حتى تصبح هي بذاتها المشهد بأكمله، فيستغني بذلك عن المونتاج برمته. واللقطة-المشهد عند آندرشون هي لوحة جمالية تعرض لنا جانباً من النقد الاجتماعي وتكشف عرضاً لحال الإنسانية الرثة. و في العموم، يظل الممثلون ساكنين في اللقطة-المشهد، حتى تتحول أدنى حركة من أحدهم إلى فعل ثقيل الوطأة.

من خصائص اللقطة المركبة عنده أيضاً تثبيت زاوية الكاميرا، وعدستها الواسعة دائماً (حتى تقترن بفن الرسم)، وارتفاعها، والاعتماد على التكوينات الجمالية في الصورة لأوضاع الممثلين والمسافات البينية فيما بينهم لتوصيل ما يريده آندرشون من أفكار ومعان. الحوار قليل في أعماله، ويكاد أن يستغني عنه تماماً، مستعملاً بدلاً من ذلك جماليات الثبات في اللوحات التشكيلية التي يصنعها على الشاشة، مع تقسيمها إلى ثلاثة مستويات (مقدمة، ووسط، وخلفية)، لكل منها تكوينه الجمالي، مع التفاعل فيما بينها. يستعمل آندرشون أيضاً "خارج الكادر" في كثير من الأحيان في حسابات تكويناته الجمالية، وفي تمرير المعاني أيضاً، ودائماً ما يستعمل المتفرج نفسه أيضاً كمشارك واع وليس كمجرد مراقب كسول، كما سيجيء القول.

هذا الأسلوب الفني الفريد يجعل المشاهد لأفلام آندرشون وكأنه في وسط تفاعلات بين ثلاثة أنواع فنية متنوعة: السينما، وفن التصوير، والمسرح (وتحديداً؛ المسرح الصامت، أو البانتومايم.) يقابل الفن والثراء البصري في الصورة عند آندرشون تقشف درامي شديد يصل إلى حد انعدام الحبكة تماماً من أفلامه. من المستحيل تلخيص فيلم لآندرشون في جملتين.

وإذا كانت أولى تعاليم السينما الكلاسيكية هي أن الأفعال والمشاعر والأفكار لدى الشخصيات الدرامية يجب أن تتحول إلى حركة وحوار، وإذا كان المبدأ الأول والأساسي في كتابة السيناريو هو: "كل ما يُرى ويُسمع يُكتب، وكل ما لا يُرى ولا يُسمع لا يُكتب"، فإننا بتطبيق ذلك سنجد صعوبة بالغة في كتابة أي سيناريو لفيلم من أفلام آندرشون. يخرق آندرشون هذه التعاليم عامداً، فيستبعد الحركة والحوار من أفلامه؛ الممثلون ثابتون في أماكنهم في اللقطة المركبة، سواء أكانوا واقفين أم جالسين، الحوار أيضاً قليل، وإن حدث فلوظائف أخرى غير وظيفة دعم الحبكة الروائية ودفع القصة إلى الأمام.

مثلاً، في فيلم (حمامة جلست على غصن تتأمل في الوجود، 2014)، نرى مجموعة تقف أمام محطة في انتظار حافلة. الجميع في سكون. خلف المحطة هناك ورشة لإصلاح الدراجات الهوائية. يخرج صاحب الورشة ويقول: "اليوم هو الأربعاء من جديد." أحد الواقفين على المحطة يرد بالقول: "يبدو اليوم مثل الخميس." ثم نسمع هديل حمامة من خارج الكادر، وكأن الأهم في الحياة يحدث خارج الكادر لا داخله، في الغياب لا في الحضور.

المشكلة الاتصالية
يفاقم من حالة الجمود الحركي عند آندرشون أن الإضاءة في أفلامه تكون شديدة الإنارة. قال مرة في إحدى مقابلاته الصحفية: "أريد من الإضاءة أن تكون منيرة بلا رحمة. لا أريد ظلالاً لتختبئ خلفها الشخصيات. الشخصيات عندي منارة طول الوقت، وهذا يجعلها عارية، هذا ما يجعل الكائن البشري عارياً."

إذن الجميع مضاءون على نحو منير، والجميع واقفون في جمود غير مبالين ببعضهم البعض، أو يتفرجون ببرود على بعضهم البعض. هذه هي نوعية الاتصال بين البشر الآن على الكوكب في أفلام آندرشون.

وقد اطلعنا على عدد من الدراسات الرصينة التي تناولت بالتحليل أعمال آندرشون، والتي أجمعت كلها على تفسير المشكلة الاتصالية في أعماله بـ "رفض الآخر"، ورفض كل شخصية لربط عالمها الداخلي بعوالم الآخرين المحيطين بها. النتيجة المنطقية لرفض الآخر بالطبع هي التأكيد على "الفردانية"، التأكيد على "الأنا."

غير أن هذا التفسير يتضمن عيباً يبدو لي شديد الوضوح. إذ إن هناك فارقاً شاسعاً بين حالة "رفض الآخر"، وحالة "عدم الانتباه إلى الآخر"، بين حالة "نكران الآخر"، وبين حالة "اللامبالاة بالآخر"، بين حالة "النبذ"، وحالة "البلادة والشرود." هناك الكثير من مقاطع الفيديو على اليوتيوب، ومنها الكثير من وطننا العربي، لحالات من العنف أو الإيذاء التي تتم في الطريق العام، بينما المارة يتفرجون في بلادة ولا مبالاة على ما يجري أمام أعينهم. هذا هو الوضع الإنساني اليوم في أفلام آندرشون، حال البشرية الآن، والذي لا يختلف فردياً عن ما يحدث جماعياً على سطح الأرض من جرائم للإبادة الجماعية نراها في الأخبار وعلى شاشات التلفزيون في فلسطين وميانمار وإثيوبيا وأفغانستان وأفريقيا وآسيا وهلم جرا، دون أن يتحرك أحد. ربما لذلك يجد المشاهد تواصلاً وفهماً لأعمال آندرشون أينما كان موطنه، بل ربما أكثر وأعمق من المشاهد السويدي نفسه.

المثال الأكثر وضوحاً ومباشرة من أعمال آندرشون لحالة البلادة والشرود واللامبالاة هذه، نجدها في فيلمه القصير (جميلة هي الأرض، 1991، والمعروف أيضاً باسم: عالم المجد)، والذي عاد به للسينما بعد توقف طويل. الفيلم مدته 14 دقيقة.

https://www.youtube.com/watch?v=_k_8e6QIS3o

نرى في بداية الفيلم مجموعة من العراة، وبينهم أطفال، محشورون بداخل شاحنة، بينما حشد من الناس متحلقين حول الشاحنة، بل ويساعد بعضهم في إتمام عملية إغلاق بابها، وتوصيل خرطوم غاز بين بابها وبين مدخنة عادم السيارة، ثم تنطلق الشاحنة وتدور عدة دورات وغازات عادمها السامة تقتل من بداخلها، والناس واقفون يتفرجون ببلادة على الإبادة. وهناك مثال آخر في فيلمه (أغانٍ من الطابق الثاني، 2000)، نرى فيه مجموعة من الشباب الاسكندنافي يوسعون شخصاً شرق أوسطي ضرباً، بينما المارة يتفرجون على ما يجري في لامبالاة وجمود. مثال ثالث من فيلمه الأخير (عن اللانهائية، 2019)، حين نرى رجلاً يحلم بأنه يحمل صليباً ثقيلاً ويمشي به في الشارع، ومجموعة من الشبان يضربونه بالعصي والسياط، بينما عدد من المارة يقفون في جمود وبلادة يتفرجون على ذلك العنف.

تتأسس إذن أفلام آندرشون على مجموعة من اللقطات-المشاهد، هي اللقطات المركبة، بحيث نرى في كل لقطة-مشهد لوحة فنية تشكيلية تعرض حال الإنسان اليوم، من خلال مواقف يمكن وصفها بالباردة لا بالساخنة، مواقف عادية روتينية من تفاهات الحياة اليومية في المدينة الحديثة، فهو لا يختار لقطاته كي يعرض لنا لحظات درامية مشحونة بالعواطف والانفعالات، بل على النقيض، يعمل آندرشون من خلال البرودة لا السخونة، ومشاهد أفلامه كلها يمكن وصفها باللادرامية. هناك قول لأحد الأصدقاء السينمائيين: "كلما ضعف السينمائي، كلما لجأ إلى السخونة في الدراما." بهذا الوصف، فإن آندرشون يتربع اليوم على قمة سينمائيي العالم.

عدم الفعل، والفعل العنيف
إحدى الثيمات الهامة في سينما آندرشون هي فكرة المراقبة أو المشاهدة. إنسان العصر قد تحول من فاعل إلى مشاهد، متفرج، متلقي، مفعول به في مجتمع الاستهلاك المفرط (معظم ممثلي آندرشون إما بدناء، أو مفرطي النحافة على نحو مرضي.)

في فيلم (يا من تعيش، 2007) مثلاً، نرى لقطة-مشهد تستدعي فيلم (النافذة الخلفية، هتشكوك، 1954) يقف فيها أحد الممثلين في شرفة بيته متطلعاً إلى البناية المقابلة ويتفرج على جار له يعكف داخل غرفته على أداء تدريبات على عزف الترومبيت. نرى جاراً آخر للعازف، في الشقة السفلية، واقف وهو ممسك بعصا مقشة يدق بها على السقف لكي ينبه جاره إلى الإزعاج الصادر من آلته، في حين تتفرج زوجة العازف عليه من الغرفة المجاورة. هذه هي نوعية الاتصالات الآن بين الناس في سينما آندرشون. وضع يتفرج فيه الجميع على الجميع. حتى في مشاهد الحشود، نرى الناس جالسين أو واقفين يتفرجون على بعضهم البعض، أو على أحدهم، في بلادة.

حالة الشلل، أو عدم القدرة على الفعل، يقابلها الإفراط في الفعل؛ أي الفعل العنيف تجاه الغير، كمشاهد ضرب الشباب الاسكندنافي للرجل الشرق أوسطي في (أغانٍ من الطابق الثاني) على سبيل المثال، أو الإبادة الجماعية في (عالم المجد.) العنف أيضاً قد يوجه إلى الداخل لا إلى الآخر، إلى النفس والذات، ولذلك نجد في أفلام آندرشون عدداً معتبراً من المشاهد تجري في المستشفيات وفي الحانات. وسواء أكان الفعل عنيفاً، أو شللاً وعدم قدرة على الفعل، فإن كلاهما هما الحدان المتطرفان لأشكال التشوه في الاتصالات بين البشر.

أحد الفاولات الاتصالية الأخرى في سينما آندرشون نجد أفضل تعبير بصري لها في فيلم (أغانٍ من الطابق الثاني)، الذي تتخلله لقطات طويلة نرى فيها ازدحاماً مرورياً شديداً، ونرى جميع السيارات متوقفة في مكانها، ويبدو أن الجميع ذاهبون في نفس الاتجاه؛ مسار إجباري. البشرية تتحرك في اتجاه واحد، وهو اتجاه مسدود ومغلق ومستحيل الوصول بهذا الشكل إلى أي مكان، ورغم ذلك فالجميع مستمرون في السير على نفس الطريق. هذه ثيمة أخرى مهمة في أفلام آندرشون.

يمكننا أيضاً، وببعض رحابة الصدر، أن نقارن بين الحياة الراكدة المشلولة داخل البيوت السكنية، وبين مفهوم "دولة الرفاهة الاجتماعية" الذي ميز الحياة في السويد وباقي المجتمعات الاسكندنافية طيلة عقود متتالية. إن تعبير "دولة الرفاهة الاجتماعية" في اللغة السويدية هو نفسه "بيت الشعب." والبيت يظهر عند آندرشون رمزاً لوحدة الإنسان وعزلته، معيقاً لعملية اتصاله بغيره. وحتى داخل البيت الواحد، سنلاحظ أن هناك مشاكل اتصالية بين أفراد الأسرة الواحدة. وكأن آندرشون يسخر من مفهوم "بيت الشعب". وربما لذلك ينمط كل الديكورات الداخلية للبيوت في أفلامه، فلا يكاد يفرق أحدها عن الآخر، وكأن المراد أن هذا هو حال الإنسان عموماً داخل "بيت الشعب"، في مجتمع "دولة الرفاهة الاجتماعية."

المكان
ديكورات آندرشون دائماً حضرية في المدن. شقق سكنية خاصة، مبان عامة كالمستشفيات والحانات والمطاعم والمتاحف، شوارع وميادين، محطات حافلات وقطارات وصالات مطارات. وفي كل الحالات، يستعمل آندرشون العدسات الواسعة، وعمق المجال، المناسبان لتصوير المستويات الثلاثة للصورة (مقدمة- وسط- خلفية.)

في بعض الأحيان نرى عدداً قليلاً من الممثلين في اللقطة الواحدة، وأحياناً أخرى نرى حشداً وزحاماً من الناس، وفي كلتا الحالتين يصلنا الإحساس بالعزلة، حتى ولو كان بالمشهد حشد. يستعمل آندرشون الحشود كي يضاعف إحساسنا بالعزلة، الذي يصل في كثير من الأحيان حد "رهاب الأماكن المغلقة"، حتى في مشاهد المرافق العامة والميادين المفتوحة.

يمكن القول بإن هذه هي الدراما الحقيقية في أفلامه؛ مساحات الفراغ الواسعة بين الشخصيات، والتي تؤكد على وحدة الإنسان وعزلته وعدم قدرته على التواصل مع الآخرين. ويهتم آندرشون بإبراز هذا الفراغ بين الناس بصرياً بأكثر مما يفعل، أو فعل، أي مخرج آخر في كل تاريخ السينما.

إحدى سمات المكان الأخرى عنده هي الطابع العالمي للمكان والديكورات؛ سواء في الشقق الخاصة، أو في الأماكن العامة. أي ديكور لآندرشون يمكن أن يكون في أية مدينة حديثة على الكوكب. والزمن عنده هو الحاضر دائماً، الحاضر الأبدي الذي لا نهاية له. كابوسي؟ ربما.

هناك أيضاً سمة لاحظناها في الأماكن العامة عند آندرشون؛ أن لها طابعاً استهلاكياً لا تخطئه العين. ليس فقط في مشاهد الحانات والمطاعم والمتاجر وما إليها، ولكن حتى في المستشفيات أو عيادات الأطباء على سبيل المثال، التي يصلنا الإحساس بأن المرضى فيها هم نتائج مباشرة لطغيان الطابع الاستهلاكي على المجتمع بالخارج. هذه الملاحظة تنسحب أيضاً على الأماكن الخاصة. إن معظم لقطات الديكورات الداخلية في الشقق السكنية تجري في مواقف استهلاكية على نحو أو آخر؛ تحضير أو تناول الطعام في غرف المائدة، أو مشاهدة الإعلانات الاستهلاكية في التلفزيون، على سبيل المثال.

وقد يوافقني المشاهد على وجود رغبة في إبراز فكرة الدائرة المفرغة التي يدور فيها الطابع الاستهلاكي ذاك في أعمال آندرشون. في كثير من الأحيان توحي الأماكن نفسها بالدائرية؛ القطارات ومحطاتها، الحافلات ومحطاتها، البواخر ورحلاتها، وما إلى ذلك. إذن ليس هناك مجال للفرار، والإنسان، سواء أكان في الخارج أم في الداخل، هو في عزلة ووحدة، حتى ولو كان ضمن حشد.

الزمن
قدمنا أن الزمن عند آندرشون هو الحاضر الأبدي، الحاضر الكابوسي إن شئت. لكن ربما وجب قول كلمة إضافية عن استعماله للزمن. في السينما التجارية، وخصوصاً الأمريكية، ليس لدى السينمائي سوى ساعة ونصف، أو ساعتين على الأكثر، لكي يعرض لنا قصته متسلسلة على نحو منطقي. هذا يجعل من الزمن مشكلة كبرى لدى كل سينمائي. يعتبر صانع السينما أن الزمن هو عدوه الذي ينبغي قهره، ولا يجد سوى سلاحين بين يديه: الأول هو تقصير وقت اللقطات نفسها، والتي يكون عدد كبير منها لقطات مكبرة (متوسط طول اللقطة الواحدة في الفيلم التجاري الأمريكي الآن هي ما بين 3 إلى 6 ثوان)، والسلاح الثاني هو استخدام المونتاج (وخصوصاً السريع) في لحم هذه الشذرات من اللقطات. وبهذه الطريقة يستطيع السينمائي تمرير أي شيء يريده إلى المتفرج، بما في ذلك تمويه الأخطاء الفنية التي وقع فيها فريق التصوير (أخطاء في الراكورات مثلاً) بسبب عدم سماحه لوعي المتفرج بأن يعمل. سلطة استبدادية مطلقة يمارسها صانع السينما، عن طريق الإيقاع السريع والمونتاج المتسارع، على المتفرج، لتعطيل وعيه، وتمويه ضعفه الفني هو شخصياً. إذن يمكن اعتبار أن نفي آندرشون للمونتاج برمته من أفلامه هو تحويله للعدو التقليدي إلى بطل أساسي للفيلم من ناحية، واحترام عميق للمتفرج ولوعيه، من ناحية أخرى.

لكن آندرشون لا يستعمل اللقطات الطويلة الممتدة في أفلامه وفقاً لمبدأ أندريه بازان؛ أي حتى لا يقطع تدفق وسيولة الحدث الواقعي الذي تصوره الكاميرا، تدفق الدراما، فأفلام آندرشون لا توجد بها دراما، ولا أحداث ساخنة. إن آندرشون يستعمل الزمن الممتد بمفهوم يختلف عن مفهوم بازان للسينما الواقعية. من يجرؤ على إطلاق وصف "الواقعية" على سينما آندرشون! هي "فوق واقعية"، واقعية أشد واقعية من الواقع، مرآة محدبة أو مقعرة وليست مرآة مستوية تعكس الواقع بصورة فوتوغرافية. تقطير للواقع، للتعبير عن الحقيقة مقطرة كما يراها الفنان.

ما فوق الواقعية
طريقة عمل آندرشون في السينما أنه لا يصور مطلقاً أي شيء جاهز عى الإطلاق، بل يبني كل ديكورات مشاهده من الصفر، حرفياً. حتى مشاهد محطات القطارات، وصالات المطارات، وعنابر المستشفيات، وغيرها، يبني آندرشون ديكوراتها من الألف إلى الياء في الستديو الضخم الذي يملكه، والذي بناه وكوَّنه من الأموال التي جناها من عمله الطويل في الإعلانات التجارية. هذا يجعلنا، ونحن نتفرج على أفلامه، نشعر بطابع "الاصطناع" في تلك المشاهد. هو يسميها في تصريحاته "الواقعية المفرطة" أو "ما فوق الواقعية." أسلوب يناسب فيلسوف الصورة الذي يعمل على التجريد في أعماله.

من ناحية أخرى، يقرب طابع الاصطناع هذا سينما آندرشون من فنون بصرية أخرى، وتحديداً فن الرسم، وفن المسرح، على نحو يمكن معه القول بإن أعماله عابرة للنوع، ليس فقط من حيث الشكل والأسلوب، بل وأيضاً من حيث المعاني والمضامين، لأنها تتشرب كل الثراء التاريخي لكلا الفنين معاً.

أسلوب اللقطة المركبة، بالإضافة إلى عمق المجال واحتواء الصورة على عدة مستويات، ناهيك عن طول زمن اللقطة، يسمح لنا بالاستنتاج بأن آندرشون يشجع المتفرج بهذه الطريقة على أن يصبح مراقباً يقظاً منتبهاً وواعياً وذا موقف، لا مجرد متفرج سلبي محايد. بقول آخر، بهذا الأسلوب السينمائي، يلحم آندرشون ما هو داخل الشاشة بما هو خارجها (أي المتفرج)، يلحم الفضائين العام والخاص، الاصطناع والواقع.

وسنلاحظ أن آندرشون، وفي كل لقطة تقريباً في أفلامه، يمارس لعبة "الكادر داخل الكادر." لو كانت اللقطة لغرفة بيت مثلاً، أو مطبخ، أو صالة طعام، سنجد أن هناك باباً أو نافذة مفتوحة على فضاء آخر يمكن بوضوح رؤية ما يحدث فيه. حتى في مشاهد المطاعم والحانات العامة، يحرص آندرشون على أن يكون لها جداراً زجاجياً واحداً على الأقل، ليكشف لنا من خلاله ما يحدث في الخارج.

لعبة "الكادر داخل الكادر"، مع سكون الممثلين وعدم حركتهم، يجبران عيني المتفرج على التنقل ما بين عناصر الصورة المتنوعة في مستوياتها المختلفة في المشهد الواحد. هذا وجه آخر للتشابه ما بين مشاهد آندرشون السينمائية وبين خصائص فن التصوير؛ الذي تكون فيه العناصر الداخلية في اللوحة المرسومة ساكنة، بينما تأتي الديناميكية من تجول نظرة المشاهد عبرها، من تحديقه فيها. إن عنصر "التكثيف" هذا واضح في سينما آندرشون، وهي نفس طريقة فن التصوير في تكثيف الحقيقة من خلال موقف واحد ساكن ثابت جامد، حتى ولو كانت العناصر في حالة حركة داخل اللوحة.

وهكذا يجوز لنا القول بإن المفتاح الأساسي للأسلوب الفني عند آندرشون هو تصوير حالة التدهور والتفاهة والعزلة القصوى للإنسان، بأرفع ما يكون من جماليات بصرية وتشكيلية للصورة. معرض فني راق للعزلة البشرية التي وصلت إلى حال مثير للشفقة. جاليري للانحدار والبؤس.

هذه الشكلانية في الأسلوب في أرقى صورها، إضافة إلى تشابه الهم الإنساني الذي تعبر عنه أفلامه، هما ما يجعلان من سينما آندرشون شديدة الأصالة، وشديدة العالمية في نفس الوقت، وهما ما يعلوان بسينماه لتصبح رأساً برأس مع أروع منجزات فن التصوير.

فيلموجرافيا
مخرج، وسيناريست، ومنتج سينمائي ولد في جوتنبرج بالسويد عام 1943. صنع فيلمه الأول (قصة حب سويدية) عام 1970، وحقق الفيلم نجاحاً تجارياً ونقدياً في أوروبا كلها. صنع بعده فيلماً تجارياً آخر، اعتبره هو شخصياً فيلماً فاشلاً، فتوقف عن صنع السينما لأكثر من عشرين عاماً، تفرغ خلالها لصنع الإعلانات التجارية، حتى أصبح أهم صانع إعلانات في أوروبا. تميزت إعلاناته بأسلوب خاص فريد، اعتمد على اللقطة الواحدة الطويلة، والسخرية اللاذعة من الوضع الإنساني. قال إنجمار برجمان عن إعلاناته إنها أروع ما شاهد من إعلانات في حياته على الإطلاق. يُعرف بانحيازه للإنسان، وانتقاده للأوضاع الاجتماعية التي تدفعه نحو العزلة وإهمال الآخرين. عام 1981، أسس (ستوديو 24) في ستوكهولم، وهي الشركة التي أنتج من خلالها إعلاناته التجارية، وأفلامه فيما بعد. بنى من أموال الإعلانات ستوديو ضخماً يصور فيه كل أفلامه. له كتاب منشور بعنوان (زمننا الذي يخشى الجدية، 1995.) عاد للسينما بالفيلم القصير (عالم المجد، 1991)، الذي حصل على العديد من الجوائز في المهرجانات العالمية، ويعد الآن واحداً من أهم عشرة أفلام قصيرة في تاريخ السينما. ابتكر أسلوباً سينمائياً فريداً يميز أعماله ويقترب بها من تجريد فن التصوير. من حيث الأسلوب، ومن حيث القيمة الفكرية، يعد أهم سينمائي على قيد الحياة، جنباً إلى جنب مع تار بيللا المجري.

صنع حتى الآن ستة أفلام روائية طويلة، هي:
1- قصة حب سويدية، 1970؛
2- جلياب، 1975؛
3- أغانٍ من الطابق الثاني، 2000، (جائزة لجنة التحكيم الخاصة لمهرجان كان)؛
4- يا من تعيش، 2007؛
5- حمامة جلست على غصن تتأمل في الوجود، 2014، (أفضل فيلم في مهرجان فينيسيا)؛
6- عن اللانهائية، 2019، (أفضل مخرج في مهرجان فينيسيا.)

--
*النسخة القصيرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب


.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو




.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق


.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس




.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم