الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لقد عبروا النهر

عفيف إسماعيل

2022 / 3 / 30
الادب والفن


قالَ لي جدي:
"عندما عبرنا النيلَ الأزرق إلى ضِفتهِ الغربيةِ
لم نرّ غير بيوتاتٍ طينيةٍ متناثرة وأكواماً من الحصى

والريحُ تلعبُ بدواماتِ الغبارِ التي تهبُ فجأةً هنا
وهناك
ثم تنطفي مثل نيرانِ البدو الرُحل"..
عندما تعبنا من المشي
قالت لي جدتكُ "دعنا نرتح قليلاً هنا تحتَ ظل شجرةِ السنط حتى العصر
ثم نواصلَ الرحيلَ لنجدَ مرعى أفضلَ لأغنامنا"
لكن..
..
في ذات المكانِ وُلدت أُمك وخالاتك وأخوالك
وانت وكل اخواتكَ واخوانك
فهذه البلدةُ الحبيبةً
المسماةُ الحصاحيصا..
قد تظنها كبيرةً بعددِ حروفها الخادع
لكنها صغيرةُ.. صغيرةُ بلا أسرارٍ
عند الحلاّق
أو في استاد كرة القدم
أو في العرضَ الثاني بالسينما الوحيدةِ تجد كلَ أخبارِها
..
لا شيئاً يميزني عن جوقةِ أطفالِ الحي الأشقياء
غير ذاك الهزال الذي يبرزُ عظامي الناحلةَ مثل هيكلٍ عظمي تغطى بجلدِ ملي بالخدوشِ
نفعل كُل شيء وفقَ بوصلةِ نزقٍ طفولي خفي يسكنُ ارواحنا
ولا نأبهَ كثيراً لتحذيراتِ الأمهاتِ الطيبات

الحق....

كانت قائمةَ الممنوعاتِ الطويلةِ التي نحفظها عن ظهرَ قلبٍ هي خارطةَ اكتشافنا لكنوزِ الحياة
وأول تلك الممنوعاتِ ألا نقربَ النهرَ الا في رفقةِ الكبار
في طقوسِ الختانِ والاعراسِ
أو الاحتفاءِ بميلادِ طفلٍ جديدٍ
أو نرافقَ الجدات لتقديم قرابينهن المبهمةَ لآلهة النهرِ التي لم نرها مطلقاً!
أما ما كان يثيرُ حماسنا لتلك الضفاف فهو أن نتسلقَ أشجارها الضخمة ذات الظلالِ الوارفة
أو نملأ أعيننا بالنظر لجروفِ الخضرواتِ الطازجة
التي تنامُ بدعةٍ وادعةٍ مثلَ قطيفةٍ مخمليةٍ إيرانية على الضفةِ الشرقية..
ونستنشقُ روائح البخور ِالمنعشةَ التي تفوحُ بلا انقطاعٍ من ضريحِ أحدَ الأولياءِ الصالحينَ..
ونرى الأسماكَ التي تتراقصُ في سلالِ الصيادينَ..
وتلك التماسيح التي تتشمسُ بكسلٍ على رملِ الجزيرةٍ الصغيرة في انتظارِ طيورها..
واحياناً نبصر افراسَ النهرِ الضخمة التي تأتي في موسمِ الفيضانِ
ونتفرجُ لساعاتٍ طويلةٍ على "البنطون" الحديديِ مثل سفينةِ نوحٍ ينقلُ بين الضفتين الناسَ
والانعامَ
واللواري..
ونتساءلُ كل يومٍ بحيرةٍ: لماذا لا يغرق!
كانت تفتنا الرمالُ اللامعة والقواقع
وتلك القلاعَ الرملية التي نتفننُ في بنائها ثم تأتي الأمواجُ لتبتلعها كلها في لمحة عين..


ذات نهارٍ صيفي كنا نتراشقُ بالمياه
ونلهو كأننا نملكُ النهرَ والضفتين
وتلك السحب العابرة التي تتشكلُ مثل قطيعٍ من الزرافاتِ الراكضة
عندما صاح أحدُ الرفاقِ: "دعونا نتسابق للضفةِ الأخرى"
ثم قفزنا مثل دلافينَ لاهيةً في الماء صوبَ الضفةِ الشرقية
وتركنا خلفنا صوت مزمار الصيادِ الخشبي الذي كان ينادي به اسماك البلطي
والقراميط
وخشم البنات،
كأنه مؤثرُ موسيقي جذاب يتواتر مع ضرباتِ اذرعنا المتلهفةَ للانتصارِ
كنتُ في الصف الأخير للسباقِ عندما أحسستُ بتلك اللسعةِ الكهربائية
فأرتعدَ جسدي وثقل وتصلبَ وغاصَ نحوَ القاعِ..

عند الشهقةِ الأولى
على غير العادةِ اضطربت أنغامَ المزمارِ الخشبي الطروبة
عندَ الشهقةِ الثانية
اختفى صوتُ المزمارِ تماماً
في شهقتي الثالثة
رأيتُ وجهَ أمي وهي تحذرني من السباحةِ في النهرِ
والملائكةُ تحملُ بين اجنحتها النورانية جسدَ صديقي في الصفِ الأولِ في المدرسةِ الابتدائية
الذي ابتلعهُ النهرُ قبل عامين..
..
..
افقتُ على همهمةٍ مبهمةٍ وغابةٍ من الأعينِ المذعورةِ التي تحدقُ في وجهي
ثم تبتسمُ عندما يشتدُ سعالي ويخرجُ الماءُ من فمي وانفي
والصيادُ الطيبُ راكعُ مثل قديسٍ يدلكَ لي صدري؛ ثم قال لي:
""أنت محروسٌ برقياتِ الأسلافِ.. لقد ادركتُكَ قبل أن تغوصَ في القاعِ
أو تجرفكَ الأمواجُ بعيداً"
..
..
لقد كبرتُ وأشتعل العمرُ بالسنواتِ أيها الصيادُ الطيبُ
وجرفتني أمواجُ المحيطاتِ بعيداً عن الحصاحيصا بلدتي المحبوبة
بعيداً عن بلدتي المحبوبة الحصاحيصا
لقد طفتُ كل القاراتِ، وزرتُ عجائبَ الدنيا السبع
لكنها لم تسحرني
كتلك اللحظاتِ الساطعة برفقةِ أصدقاء طفولتي على شاطئ النيل الأزرق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا