الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحداث 11 شتنبر ومعادلات الربح والخسارة في المجتمع الدولي

إدريس لكريني
كاتب وباحث جامعي

(Driss Lagrini)

2006 / 9 / 11
ملف مفتوح بمناسبة الذكرى الخامسة لاحداث 11 سبتمبر 2001


في الحادي عشر من شهر شتنبر 2001 وقف العالم مشدودا وحابسا أنفاسه لشدة الدمار الاقتصادي والبشري الذي لحق بقطب "النظام الدولي الجديد", ومترقبا ردة الفعل التي سيقدم عليها هذا الأخير.
ولم تمر سوى أيام قلائل حتى جاء الرد الأمريكي عنيفا ضد بلد إسلامي فقير ببنياته التحتية المدمرة أصلا والغني بموقعه الإستراتيجي (أفغانستان). وجراء ذلك جاءت التداعيات سلبية على بعض الأطراف, فيما كانت الانعكاسات إيجابية بالنسبة لأطراف دولية أخرى, وذلك بمنطق "مصائب قوم عند قوم فوائد".
الإطار العام لأحداث الثلاثاء الأسود بأمريكا
إن الكارثة التي لحقت بالولايات المتحدة الأمريكية – ورغم هولها وفجائيتها- لا يمكن فصلها عن التطورات الدولية التي أعقبت نهاية الحرب الباردة.
الزعامة الأمريكية لعالم يتغير
عندما انهار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات معلنا نهاية القطبية الثنائية التي عمرت بحربها الباردة زهاء نصف قرن، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية ضمنا وعلنا زعامتها المطلقة لهذا العالم المتحول، غير عابئة بالقوى الدولية المتصاعدة الأخرى (اليابان، ألمانيا، الصين، الاتحاد الأوربي, روسيا...)، وفي هذا الصدد برزت نظريات تكرس التفوق الأمريكي- الغربي، كنظرية نهاية التاريخ التي جاء بها "فرانسيس فوكاياما"، وإقرارا منها بهذه الزعامة, كانت الولايات المتحدة أول من بشر بميلاد "نظام دولي جديد" مبني على التعاون والإخاء ومواجهة الأخطار المحدقة بالسلم والأمن الدوليين، خال من "الإرهاب" وتلعب فيه الأمم المتحدة دورا بارزا. وبغض النظر عن حقيقة وجود هذا النظام أو عدمه، فإن العالم بعد نهاية الحرب الباردة سيشهد مجموعة من التغيرات والتحولات المتسارعة على مختلف الأصعدة.
حقيقة أن الحرب الباردة شغلت بال الحكام والشعوب بمخاطرها التي غالبا ما تمركزت حول العوامل العسكرية، ولذلك فإن نهاية هذه المرحلة من مراحل تطور المجتمع الدولي شكل بوابة للالتفات إلى قضايا دولية مشتركة جديدة غير عسكرية لها مخاطرها على السلم والأمن الدوليين, كتلك المخاطر الناجمة عن تلوث البيئة وخرق حقوق الإنسان والتحولات الديموقراطية والإرهاب...
وفي هذا الإطار كان الدور الأمريكي بارزا في تحديد مسار التوجهات العالمية الجديدة، وهو ما تبلور من خلال تفعيل الأمم المتحدة التي عانت زهاء نصف قرن من الشلل، وذلك بمنطق أمريكي, حيث أصبح مجلس الأمن يتوسع في تفسير بنود الميثاق إلى حد التعسف في استخدام سلطاته عند مباشرة التدخل في حالات دولية معينة بفعل الهيمنة الأمريكية، وهكذا أضحى يتدخل تحت ذرائع مختلفة, فتارة باسم الديموقراطية (حالتي هايتي والكامبودج وتيمور الشرقية...) وتارة بذريعة حماية الإنسانية (الصومال، شمال العراق...) وتارة أخرى باسم محاربة أوكار الإرهاب (السودان، ليبيا، أفغانستان...)، وقد أثبتت هذه التدخلات في مجملها تعسفها ومبالغتها في توسيع مفهوم السلم والأمن الدوليين، مع غض الطرف عن أزمات وقضايا دولية هامة أخرى كالقضية الفلسطينية التي تركت لمفاوضات ملغومة وغير متكافئة، وهو ما خلف نوعا من الخوف في أوساط الدول المستضعفة من أن يتحول هذا الجهاز (مجلس الأمن) من أداة رئيسية لحفظ السلم والأمن الدوليين إلى أداة زجرية لترهيب الدول الخارجة عن الطاعة الأمريكية.
وفي جانب آخر ونأيا منها عن الانتقادات الدولية المحتملة، أضحت الولايات المتحدة الأمريكية تفرض ضغوطات وعقوبات سياسية واقتصادية وعسكرية انفرادية بعيدا عن مجلس الأمن والأمم المتحدة على الأنظمة التي ترى أنها تسيء لمصالحها, ونذكر في هذا الإطار حالات كل من ليبيا، السودان، كوبا، العراق، كوريا الشمالية...
وتكريس الهيمنة الأمريكية ترجمته أيضا جهود هذه الأخيرة لتصدير قيمها ومبادئها الغربية بأشكالها الفكرية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى مختلف أنحاء العالم في سياق ما أصبح يعرف بالعولمة التي خلفت عالمين متباينين: شمال غني إلى حد الوفرة والرفاه وجنوب "متخلف" إلى حد الفقر والمجاعة.
إن هذه الإستراتيجية الأمريكية الجديدة التي تتوخى المصلحة الضيقة وإن على حساب مبادئ الشرعية الدولية ومصالح الشعوب ومصالح الجماعة الدولية (حقوق الإنسان، البيئة، مكافحة الإرهاب...)، أقلقت وأفزعت الأصدقاء قبل الأعداء، بل خلقت تيارات معارضة إلى حد العداء حتى داخل الولايات المتحدة نفسها، وهو ما يجعلنا نقر بأن أحداث الثلاثاء الأسود – التي لا نقبلها ولا نبررها- لا يمكن عزلها عن هذه المتغيرات.
مظاهر وحجم الواقعة
إن أحداث الثلاثاء الأسود، فاجأت أعتى المخابرات الدولية وأكبر المحللين والدارسين الإستراتيجيين والخبراء الدوليين، فحجم الواقعة فاق كل التوقعات، بحيث أن حامية الليبرالية و"زعيمة العالم" تتعرض لضربات موجعة غير مسبقة في عقر دارها, وذلك منذ تاريخ 1812 عندما تدخلت بريطانيا في هذا البلد.
والحقيقة أن الولايات المتحدة كانت تترقب من حين لآخر أعمالا انتقامية ضدها كرد فعل منطقي على سياستها، فهي تعرف أعداءها، وتحاول مراقبتهم وتضييق الخناق عليهم، مع عرض عضلاتها العسكرية من خلال نشر أساطيلها وقواعدها العسكرية في مختلف أنحاء المعمور، غير أنه ومع ذلك جاءت الضربات في زمن ومكان لم يكونا في الحسبان ومن خصم لدود غير واضح المعالم، فالتوقيت لم تسبقه تهديدات آنية ولم تستشعره المخابرات الأمريكية التي تحظى بدعم بشري ومالي وتكنولوجي كبير، خاصة وأن حجم الضربة وخطورتها لا يقاس بكونه تم في العمق الأمريكي فقط وإنما بحساسية وأهمية المراكز الرمزية المستهدفة، فهناك مركز التجارة العالمي والبنتاغون الأمريكي بما ينطوي عليه ذلك من ضرب لرمز القوة الأمريكية في تجلياتها الاقتصادية والعسكرية، فالضربة كانت موجعة وخلفت نوعا من الاضطراب في الأوساط الأمريكية الرسمية والشعبية، فالرئيس الأمريكي اعتبر الواقعة في البداية بمثابة عمل إرهابي جبان قبل أن يصفها بالحرب المعلنة ضد الولايات المتحدة.
وتمظهر الاضطراب أيضا في إقدام السلطات الأمريكية على إغلاق العديد من المنشآت والمؤسسات الرسمية الهامة (وزارة الخارجية، الكونغرس، المطارات...) وتشديد الرقابة على المسافرين جوا بشكل غير مسبوق، وهو ما أفرز حالة من الهلع والشك في أوساط الأمريكيين.
معادلات الربح والخسارة بعد الأحداث
أفرزت الأحداث الأمريكية مجموعة من النتائج أفادت البعض وأساءت إلى البعض الآخر، ونشير بداية أن عناصر ومكونات الربح والخسارة تختلف بحسب الأطراف, بحيث نجد طرفا قد ربح سياسيا بينما خسر اقتصاديا، فيما خسر البعض عسكريا وربح البعض الآخر إعلاميا، كما أن التطورات الجارية ميدانيا كفيلة بان تفرز خاسرين ورابحين آخرين مع مرور الوقت.
الأطراف الرابحة بعد الكارثة
إن حصيلة الربح تختلف أهميتها من طرف لآخر، فبرويز مشرف ذلك العسكري الذي وصل إلى سدة الحكم في الباكستان عن طريق انقلاب عسكري غير مشروع وغير مبرر والذي أثار نوعا من التحفظ والقلق لدى العديد من الدول، اكتسب شرعية أمريكية/ دولية كبيرة، فاقت وتجاوزت "الشرعية الشعبية" بعد هذه الأحداث, خصوصا عندما تسابقت كبريات العواصم الدولية والغربية ووسائل الإعلام الدولية لاستقباله، بعد أن ضم بلاده إلى التحالف الأمريكي لمواجهة "الإرهاب"، وهو ما نتج عنه أيضا رفع العقوبات الانفرادية الأمريكية واليابانية ضد بلاده، واستفادتها من مساعدات غربية سخية.
كما أن إسرائيل أيضا كان ربحها السياسي بعد هذه الأحداث كبيرا، فالمفهوم الأمريكي الجديد/القديم لمواجهة "الإرهاب" الذي يتعمد الخلط بين العنف السياسي كعمل محرم ومجرم وبين ممارسة حق تقرير المصير المشروع، حقق لها مكسبا طالما دافعت عنه وروجت له سياسيا وإعلاميا، وهو تبرير عملياتها الوحشية ضد الفلسطينيين وإضفاء طابع من الشرعية على كبت وإقبار حركات التحرر الفلسطينية (حماس، الجهاد، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فتح...), وتندرج ضمن هذا الإطار أيضا كل من روسيا التي وجدت المبرر والفرصة الملائمة لضرب المقاومة الشيشانية، والهند التي استغلت الظرفية لضرب المقاومة في كشمير.
كما نجد بعض الدول العربية قد وجدت ضالتها في هذه الظرفية لفرض مزيد من القيود والتضييقات على بعض الجهات المعارضة "الإسلامية" منها وغيرها، وذلك بتثمين غربي (مصر، سوريا، الأردن...)، في حين نجد دولا عربية مستقرة أخرى، أصبحت ملجأ آمنا لبعض رجال الأعمال العرب والمسلمين لتحويل استثماراتهم المالية من الدول الغربية وخاصة أمريكا مخافة تجميدها بذريعة الاشتباه في تمويل "الإرهاب", بعدما أصبح المسلم والعربي في الولايات المتحدة والدول الغربية –أحيانا- بعد هذه الأحداث، مدانا حتى وإن ثبتت براءته، ومعلوم أن هذا التحويل ستنجم عنه آثار اقتصادية واجتماعية إيجابية بالنسبة للدول المستقبلة ) تونس, لبنان, المغرب, مصر...(.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فكان ربحها المعنوي والسياسي كبيرا عقب الأحداث التي مستها، فقد شكلت ذريعة مكافحة "الإرهاب" مناسبة جيدة لواشنطن من أجل تبرير إخفاقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية, ولأول مرة تبدو هذه الدولة القوية في موقف الضحية وتنال تضامنا وتعاطفا دوليا واسعا, شكل إلى حد ما مبررا لرد فعلها في أفغانستان, وهو ما مكنها من التموقع قرب مناطق استراتيجية وحيوية لم يكن بإمكانها الوصول إليها في السابق (الجمهوريات الإسلامية السوفيتية الإسلامية، باكستان، الصين...), وهذا طبعا سوف يساعدها على ضرب وتكسير أي حلف إسلامي قد يضم باكستان وأفغانستان، ومراقبة إيران ثم احتواء روسيا وعدم السماح لها بالوصول إلى المياه الدافئة, واحتواء الصين الطامحة للحصول على ممر إلى المحيط الهندي عبر كل من باكستان وأفغانستان، ناهيك عن التموقع في منطقة تضم أيضا احتياطيا نفطيا ضخما (بحر قزوين الذي يقدر مخزونه من النفط ب200 مليار برميل, يصل ثمنها إلى حوالي 4000 مليار دولار بسعر 20 دولار للبرميل الواحد )، والضربة التي تعرضت لها الولايات المتحدة أعطتها أيضا درسا وعبرة لمراجعة أوراقها وتعزيز قوتها وأمنها باتجاه تأبيد زعامتها الدولية، وذلك بعد أن نبهتها لمكامن الضعف والقصور لديها, فالأحداث وضعت هذه الدولة أمام خيارين استراتيجيين: أولهما تعزيز حمايتها من خلال تطوير منظومة الدفاع العسكري الاستراتيجي, وثانيهما الأخذ بعين الاعتبار مصالح الأمم الأخرى عند صياغة القرارات الكبرى ذات البعد الدولي.
هذه الأحداث شكلت أيضا مناسبة مهمة لبعض القوى الإقليمية المتصارعة لإعادة النظر في علاقاتها باتجاه إذابة خلافاتها وتعزيز علاقاتها, بعد أن أصبحت تواجه مخاطر وتهديدات عسكرية مشتركة, باعتبارها دولا "راعية للإرهاب" من المنظور الأمريكي ( العراق, إيران , سوريا...), كما أن قناة "الجزيرة" كانت من ضمن أكبر الرابحين عقب هذه الأحداث، فقد تحولت إلى قناة رقمية دولية بعد ما انفردت بنقل أخبار وصور المواجهة من قلب أفغانستان "الطالبانية"، ويعد هذا التطور إيجابيا ومكسبا مهما وكبيرا، بالنظر إلى الدور الإعلامي كقوة فاعلة ومؤثرة في الساحة الدولية, قد يمكن العرب والمسلمين من نزع احتكار الغرب وإسرائيل لهذا الجانب ويمكنهم من إبراز مواقفهم ووجهات نظرهم وثقافتهم وتلميع وتصحيح صورتهم التي شوهها الإعلام الصهيوني والغربي في الأوساط الدولية, وبخاصة بعد أن برزت بقوة العديد من القنوات الفضائية العربية الأخرى التي أثبتت احترافيتها في هذا الشأن، كما أن شخص "أسامة بن لادن" أيضا كانت حصيلته إيجابية بعد هذه الأحداث، حيث أضحى زعيما غير رسمي في عيون وأذهان الكثيرين ( غالبا من منطق عدو عدوي صديقي) وصار نجما إعلاميا – ولو على مضض أحيانا- تتناقل أخباره وصوره مختلف المنابر والقنوات الإعلامية والدولية، المرئية والمقروءة والمسموعة, بعد أن وضعته الولايات المتحدة على رأس قائمة المتهمين المطلوبين في أحداث الثلاثاء الأسود.
الأطراف الخاسرة بعد الكارثة
إن الضربة التي تلقتها الولايات المتحدة كان أثرها واضحا على الزعامة الأمريكية بشتى مظاهرها، فعلى المستوى الاقتصادي يمكن القول: إن تدمير المركز العالمي للتجارة الضخم نتج عنه وفاة العديد من الأدمغة التي تتحكم في الحياة الاقتصادية الأمريكية, وضياع حجم كبير من الوثائق الهامة والأموال، ناهيك عن الطائرات التي تحطمت وما نتج عنه من اضطراب في الملاحة الجوية الأمريكية، كما لحقت الخسائر الفادحة المقدرة بملايير الدولارات عددا من الشركات, وهو ما سيؤثر سلبا على النظام الاقتصادي العالمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة.
وهي الخسائر الاقتصادية التي قدرها البعض بثلاثة أضعاف ما تكبدته أمريكا أثناء الهجوم العسكري الياباني الكاسح على قاعدة "بيرل هاربر" في المحيط الهادي خلال الحرب العالمية الثانية, وثمن إجمالي الخسائر البشرية الأمريكية طيلة حربها في فيتنام.
وتكبر هذه الخسائر إثر إقدام العديد من الشركات غير الأمريكية على نقل رساميلها وعملياتها إلى خارج الولايات المتحدة, مخافة اتهامها بتمويل الإرهاب, هذا بالإضافة إلى الخسائر التي تحملتها الشركات الأمريكية الكبرى أيضا نتيجة لإقدام بعض فعاليات المجتمع المدني ببعض الدول العربية والإسلامية على الدعوة لمقاطعة السلع الأمريكية كرد فعل على السياسة التعسفية لهذا البلد عقب الأحداث.
وعلى المستوى العسكري، يمكن القول أن استهداف وزارة الدفاع الأمريكي وضرب قلب نيويورك، هو بمثابة تحطيم لأسطورة أمريكا الآمنة والقوية أو على الأقل إثبات نسبيتها، فهذا الحدث أبرز نوعا جديدا من المواجهة العسكرية في الساحة الدولية، وهي " الحرب" غير المتكافئة بين طرف واضح المعالم وطرف شبح, وهو ما يعد من أخطر المواجهات لما نتج عنه من حالة الهلع والفزع في أوساط المجتمع الأمريكي، بعد أن أضحى يواجه خطرا غير محدد المعالم تجاوز خطر " الدول المارقة", ولم تستطع الأساطيل العسكرية الأمريكية ولا الترسانة النووية ولا الصواريخ الإستراتيجية ولا المخابرات إيقافه( للإشارة فقط, فالولايات المتحدة تخصص لميزانيتها العسكرية ما يقدر بحوالي 30 بالمائة من الإنفاق الإجمالي العالمي في هذا الشأن )، ونرى خسارة الولايات المتحدة في هذا الجانب كبيرة بالنظر إلى أن "عدوها" أسامة بن لادن الذي اعتبرته مسؤولا رئيسيا عن الأحداث كان معلوما لديها وما فتئ يتوعدها من حين لآخر بعمليات انتقامية دون أن تتمكن من ضبط نشاطاته في هذا الشأن رغم إمكانياتها.
وعلى مستوى الريادة والزعامة الديبلوماسية الدولية, فإن انشغال الولايات المتحدة بمشكلتها الضخمة فوت عليها فرصة التدخل ديبلوماسيا بشكل فعال في العديد من القضايا الدولية البارزة (قضية الشرق الأوسط مثلا).
ومن ناحية أخرى, فإن العديد من الإجراءات السياسية والأمنية التي اتخذتها هذه الدولة عقب الأحداث سيكلفها خسائر كبيرة, فالقيود على الهجرة نحوها سينعكس سلبا على مكانتها كمركز لجذب الكفاءات, بل وقد يؤثر سلبا على مكانة جامعاتها (نشير هنا إلى أن الكثير من المؤتمرات العلمية الدولية التي تشرف على تنظيمها مؤسسات أمريكية, أصبحت تعقد خارج الولايات المتحدة, تفاديا لعراقيل الهجرة).
وإذا كانت إسرائيل قد ربحت بعض الأوراق السياسية كما رأينا, فإن الاقتصاد الإسرائيلي قد تأثر سلبا بهذه الأحداث, حيث أعلن بنك إسرائيل المركزي في بداية شهر نونبر لعام 2002 أن الأجانب سحبوا ما قيمته 340 مليون دولار من إسرائيل في هذه الأجواء التي أعقبت العمليات.
ولقد تأثرت حركات التحرر في العالم سلبا بفعل هذه الأحداث أيضا، بعدما أضحت الولايات المتحدة تصر على عدم التمييز بين العنف " المقبول" والعنف "المنبوذ" أي بين حركات التحرر المشروعة والإرهاب السياسي المحرم, وقد برز التضييق على هذه الحركات من خلال استصدار أمريكا للائحة تضم أسماء لمجموعات تعتبرها "إرهابية"، والعمل على تجميد أرصدتها المالية بالخارج ثم الضغط على الدول التي تستضيفها، وتبدو حالة القوى التحررية الفلسطينية واضحة في هذا الشأن بفعل الضغوطات والجهود الإسرائيلية والأمريكية الرامية إلى إلصاق تهمة "الإرهاب" بها.
والأمن القومي والإقليمي العربي والإسلامي الذي تصدع مع دخول السادات في اتفاقيات ثنائية مع إسرائيل وتدهور مع اندلاع أزمة الخليج الثانية، وصل إلى مرحلة الاحتضار بعد هذه الأحداث, من خلال تعزيز التواجد الأمريكي بالمنطقة العربية وخلق تصدع في المواقف العربية إزاء التحالف الأمريكي لمواجهة "الإرهاب"، ناهيك عن ممارسة الضغوطات والرقابة على آخر معقل إسلامي (باكستان) يجسد التوازن الإستراتيجي مع إسرائيل.
أما منظمة الأمم المتحدة التي تدخلت بشكل غير مسبوق في معظم الأزمات الدولية من خلال جهاز مجلس الأمن – وبمنطق أمريكي- بعد نهاية الحرب الباردة، فقد تقاعست أمام هذه الأزمة التي احتكرت الولايات المتحدة دواليب إدارتها. وهكذا يمكن القول أنه رغم حصول هذه المنظمة قبيل الأحداث على جائزة نوبل للسلام تكريما لجهودها في مجال المحافظة على السلم والأمن "الدوليين"، فإنها فقدت المزيد من مصداقيتها، بفقدان ثقة شعوب العالم فيها, بعدما سلكت موقف المتفرج أمام هذه الأزمة، حيث اكتفت بمنح الولايات المتحدة الضوء الأخضر للتدخل الزجري في أفغانستان.
من ضمن الخاسرين جراء هذه الأحداث أيضا هناك الشعب الأفغاني الذي دفع بضحاياه من الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء ثمن جرم لم يرتكبه.
ثم هناك الجالية العربية والإسلامية بأمريكا والدول الغربية التي كابدت ويلات التهجم والاعتداء والمهانة بهذه الدول جراء الدعاية الغربية والصهيونية التي ما فتئت تخلط بين "الإرهاب" والإسلام.
كما نجد الاقتصاد العالمي قد تأثر سلبا بفعل هذه الأحداث، وكان منطقيا أن تطال الخسارة محيط الاقتصاد الدولي بعد أن أصابت المركز (الولايات المتحدة الأمريكية)، وفي هذا الشأن تأثرت معظم القطاعات الدولية (الملاحة الجوية، السياحة، التجارة الخارجية، تدفق الرساميل الدولية...الخ).
أخيرا يمكن القول أن السلم والأمن الدوليين كان تأثره سلبيا بهذه الأحداث، فبعد أن كان هناك اتجاه حثيث نحو خفض الإنفاق العسكري بسبب العولمة بعد نهاية الحرب الباردة, تزايد هذا الإنفاق بشكل مهول سواء داخل الولايات المتحدة أو في غيرها من بلدان العالم.
كما أن حقوق الإنسان وحرياته في الولايات المتحدة وفي الدول الغربية وفي غيرها من دول العالم, أصبحت تتعرض للعديد من القيود وذلك بذريعة مكافحة "الإرهاب".
إن ما وقع في الولايات المتحدة الأمريكية من دمار وقتل للأبرياء لا يمكن لأي شخص إلا أن يدينه ويعتبره عملا غير مشروع، ولكن ليس إلى حد القبول المطلق للرد الأمريكي الذي تمخض عنه قتل المدنيين الأفغان بشتى أنواع الأسلحة المتطورة والمحظورة دوليا ودون رقيب أو مبرر قانوني مقنع وكافي وذلك في غياب أدلة دامغة تدين بن لادن أو طالبان. ويمكن القول أن ما قامت به الولايات المتحدة في هذا الشأن هو شكل من أشكال العنف السياسي المحظور دوليا وهو ما يندرج ضمن أشكال العدوان وإرهاب الدولة، ذلك أن مكافحة "الإرهاب" بالإرهاب ذاته، قد تكون لها نتائج عكسية وخيمة تذكي وتشجع على تنامي هذه الظاهرة عوض القضاء عليها من جذورها, لأن مكافحة الإرهاب يجب أن تتم وفق ضوابط تجد سندها في العديد من المواثيق والاتفاقيات الدولية التي نذكر من بينها: اتفاقية طوكيو لسنة 1967 واتفاقية لاهاي لسنة 1970 واتفاقية مونتريال لعام 1971 المتعلقة بحماية الملاحة الجوية وبروتوكول 24 فبراير 1988 المكمل لها ثم الاتفاقية الدولية لمناهضة خطف الرهائن الموقعة في نيويورك بتاريخ 17 دجنبر 1989 وأخيرا، الاتفاقية الخاصة بقمع الأعمال غير المشروعة ضد الملاحة البحرية والموقعة في روما بتاريخ 10 مارس 1988.
إن المخاطر التي أضحت تهدد الولايات المتحدة الأمريكية ليست هي نفسها فقط وبالضرورة المخاطر التي تهدد الإنسانية جمعاء، ومن تم فتركيز المجتمع الدولي على مشكل "الإرهاب" ومكافحته يجب أن لا يكون ولا يتم على حساب الشرعية الدولية أولا, وعلى حساب المواجهة الجماعية لمخاطر وأولويات أكثر إلحاحا ثانيا, من قبيل الأمراض الفتاكة والفقر والمجاعة وتجارة المخدرات واستغلال الأطفال والجريمة المنظمة وتلوث البيئة والمشاكل المرتبطة بحرب المعلوميات والديموقراطية وحقوق الإنسان و"الإرهاب"ـ أيضا ـ الذي تنامت مخاطره وتطورت أساليبه وتغيرت مجالاته والذي يتطلب تحديدا دقيقا لمفهومه من قبل أعضاء المجتمع الدولي بشماله وجنوبه, وذلك لقطع الطريق على كل القوى التي تحاول استغلال غموضه – الإرهاب - خدمة لأغراضها الضيقة.
وعموما أثبتت هذه الأحداث الفجائية أن العوامل المهددة للسلم والأمن الدوليين تتطور بتطور المجتمع الدولي وأن هذا الأخير لم يستقر بعد على نظام محدد الملامح ولم تتشكل بعد أقطابه وضوابطه ذلك أنه لا زال يعاني من مرحلة العتمة والضبابية التي يتماهى ويختلط فيها الشرعي باللاشرعي, ومن تراجع مبادئ قانونية دولية كمبدأ السيادة وعدم التدخل لصالح "مبادئ" جديدة كالتدخل والكيل بمكيالين, وهي مرحلة قد تطول طالما تتم فيها معالجة الأعمال غير المشروعة دوليا بعمل غير مشروع ويتغلب فيها منطق القوة والمصلحة على منطق العدالة والقانون.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد تحرره من القيود الانتخابية.. هل يعاقب بايدن إسرائيل أم ي


.. بوتين يشيد بشجاعة ترمب ويؤكد أنه مستعد للحوار معه بعد الحديث




.. 12 شرطا صارما.. هكذا يخطط ترامب لأول صفقة كبرى | #غرفة_الأخب


.. ألسنة لهب تضيء سماء بيروت إثر غارات إسرائيلية




.. حزب الله يعلن الاشتباك مع قوة إسرائيلية في مارون الراس ويقصف