الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسألة أكبر من أوكرانيا (3 - 3): عن الدول المختلقة والدول الطبيعية

آلان م نوري
(Alan M Noory)

2022 / 4 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


في معرض تحليلنا لحرب روسيا على أوكرانيا، بدأنا في الجزء الأول بتسليط الضوء على الطابع العابر للمحلية لمخاطر تسرب قوى مسلحة و دموية إلى مؤسسات الأمن والدفاع الحكومية في أي دولة، على غرار ما جرى في أوكرانيا، وأثر ذلك على السلم الأهلي وعلى أقلمة و دولنة الصراعات الداخلية. ثم انتقلنا إلى مخاطر نمط معين من "التحول الديمقراطي" يستثني قوى السوق من آليات الديمقراطية، و يوظف الديمقراطية نفسها لتعميق فجوة الثروة و فرص الرخاء الاقتصادي في المجتمع، مصحوبا بسياسات مبنية على الهوية الثقافية، تحرض على الكراهية و العنف ضد الآخر المختلف في هويته.

يبقى الخطر الأكبر، العابر للمحلية، في هذه الحرب، هو ضم روسيا لإقليم القرم، منذ 2014 و جهودها في الحرب الحالية، في سيناريو مماثل، لضم كل من لوغانسك ودونيتسك على الأقل، و كامل شرق أوكرانيا بما فيها العاصمة السابقة (خاركيف)، و الإقليم الساحلي في جنوب أوكرانيا (أوديسا)، إن تيسر لها ذلك!

فرغم ادعاء بوتين بأنه قام بـ "عمليته العسكرية" هذه لأسباب تتعلق بحماية أمن روسيا و نجدة الأوكرانيين من اصل روسي، إلا أنه لم يخفي نيته توسيع جغرافية روسيا على حساب أوكرانيا، استنادا الى اعتقاده بأن أوكرانيا هي دولة "مختلقة وغير طبيعية". و صرح بذلك علنا للرئيس الأمريكي بوش الأبن عام 2008، قائلا: "ماهي أوكرانيا؟ جزء منها هو أوروبي شرقي والجزء الأكبر هو هدية منا نحن الروس" وكرر تصريحه عن اختلاق أوكرانيا قبل يوم من بدء "العملية الخاصة" الحالية، في حديث متلفز، استمر قرابة ساعة كاملة، قال فيه أن أوكرانيا انوجدت عام 1918، في السنة التي مزقت الثورة الروسية أوصال الإمبراطورية الروسية العظمى. و خاض في تفاصيل كيف أن القادة السوفييت جاملوا القوميين الأوكرانيين و غيرهم من قوميي شعوب الإمبراطورية السابقة بتنازلات جغرافية على حساب القومية الروسية، وثم بتنازلات أخرى دستورية تمنح هذه الشعوب حق الإنفصال…و كل ذلك، لا لشيء، إلا لبقاء القادة السوفييت في السلطة، حسب وجهة نظره.

منطق ثنائية الدول المختلقة في قبال الدول الطبيعية، الذي يستخدمه بوتين للتوسع بالحرب، هو إشكالي بحد ذاته. لكنه أكثر اشكالية و خطورة حين يصدر من قمة الهرم السياسي في دولة عظمى هي ذات تاريخ امبراطوري توسعي من جهة، و يفترض بها أن تكون وريثة الاتحاد السوفيتي، أحد ضامنين أساسيين لبقاء النظام العالمي الذي ظهر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من جهة أخرى. وهذا النظام العالمي الذي يتجاوز عمره الثمانين سنة، يفترض به، تحت طائلة ما يسمى بتوازن الرعب أن يصون الحدود السياسية ووحدة أراضي الدول التي تثبتت حدودها بدخولها منظمة الأمم المتحدة (الإطار التنظيمي للعلاقات الدولية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية).

لذا، فإن الفحص التاريخي لهذه الثنائية يصبح ضرورة لفهم الواقع السياسي و الآفاق المستقبلية لتطلعات غالبية شعوب العالم التي وجدت نفسها في إطر دول تشكلت بجغرافيتها المعاصرة لأول مرة منذ عام 1918…ليس لأن الثورة الروسية فعلت ذلك، بل لأنه عام انتهاء الحرب العالمية الأولى وانهيار امبراطوريات كبرى من جرائها. و من ثم تثبّتت جغرافيات دولها لاحقا بعد الحرب العالمية الثانية.

و لكي نفهم ما يعنيه بوتين بالدولة المختلقة، يجب أولا فهم ما يمكن أن يعنيه بالدولة الطبيعية…فلازم الدولة الطبيعية، وجود امه، وجودا طبيعيا، على شكل تجمع بشري متكوّن بشكل طبيعي، في حدود جغرافية محددة، عبر التوالد. يستطيع كل فرد فيه معرفة علاقة القرابة التي تربطه بأي فرد آخر في المجموعة، بغض النظر عن الهياكل التراتبية الاجتماعية و السياسية التي تنشأ و تتغيّر عبر الزمن و تُغيّر تصور الأفراد لما يربطهم ببعض. هذه الأمة "الطبيعية" إذا، تكون بالضرورة نتاج الطبيعة وليست متخيلة إجتماعيا و سياسيا. و من الواضح أن هكذا "أمة" قائمة على هذه الرابطة البيولوجية الفعلية، بين أفرادها، لا يمكن أن تتجاوز عائلة واحدة أو تجمع سكاني صغير جدا من عوائل ترتبط بعلاقات قربى طبيعية فيما بينها. و تنتفي هذه العلاقة الطبيعية، غير المتخيلة، مع توسع المجتمعات وتمددها الجغرافي و احتكاكها بالتجمعات البشرية الأخرى. حينها يصبح الحديث عن رابطة الدم و العلاقة الطبيعية خطابا في التخيل و الأسطورة تفرضه حاجات اجتماعية-سياسية متغيرة بتغير الزمن. أي أن الخطاب عن رابطة الدم و الأجداد المشتركين بين أفراد مجتمع واحد هو انتاج إجتماعي و سياسي متخيل ينتج منه شعور بقراءة مشتركة لتاريخ مشترك وقيم مشتركة ومصير مشترك (كلها خليط ما بين فعلي و متخيل، و الفعلي منها يُصنع بواسطة المتخيل). و بهذا المعنى، فلا وجود للأمة الطبيعية إلا في المخيلة الجماعية لمجموعة سكانية و لأسباب اجتماعية-سياسية محكومة بزمانها. و من هنا، فأوكرانيا (حالها حال روسيا وسائر أمم وشعوب الأرض)، هي أمة من انتاج الشعور الجماعي لأفرادها، إنتاجا في الخيال له وظيفة اجتماعية-سياسية.

لكن ربما يقصد بوتين أن مشاركة القادة السوفييت في تحديد الجغرافيا الحالية لأوكرانيا هو سبب لإعتبارها مختلقة، وبالتالي سبب كاف لمطالبته إياها برد ما "أهداها" القادة السوفيت، مما كان سابقا جزءا من روسيا…إذا، لنرى أين يُوصل هذا المنطق لو طبقناه على العالم كله: ولاية ألاسكا، التي هي كبرى الوحدات الإدارية التي تشكل الولايات المتحدة الأمريكية، و تزيد مساحتها عن 17.5% من مجموع مساحة البلد، كانت من أملاك الإمبراطورية الروسية التي باعتها (دون ذنب من لينين والبلاشفة) إلى الأمريكان عام 1867، فهل يعني ذلك أن بشراء ألاسكا صارت الولايات المتحدة أكثر"إختلاقا" مما كانت؟ و هل ستكون ألاسكا على قائمة "التصحيحات" الجغرافية القادمة لبوتين؟

سيجيب حَواريو بوتين أن أوكرانيا هي هي روسيا، و أن الشعبين هما شعب واحد، يتشاركان في تاريخ الإمارات المترابطة التي سادت في سهول تتقاسمها أوكرانيا و روسيا المجاورة الحالية، بأسم الـ (الروس الكييفيين) لأكثر من اربعة قرون، وحاضرتهم الأساسية جميعا كانت كييف، العاصمة الحالية لأوكرانيا.. بل و حتى يتشاركون في الأساطير القومية التي شكلت المجتمع المتخيل السياسي للقومية الروسية (لذا تجد القوميين الأوكرانيين المعادين لروسيا يتجنبون لفظة (روس) في وصفهم للدولة و الشعب الروسيين و يستخدمون بدلا عنها لفظة (الموسكوفيين)... و يعتبر القومي الروسي "اختلاق" الوعي القومي الأوكراني نتاج مؤامرات (!!) بدأت منذ احتلال الجزء الغربي من أوكرانيا من قبل الإمبراطورية الليتوانية-البولندية، و تعمقت بتناوب الاحتلالات البولندية و الهنغارية و الألمانية للغرب الأوكراني. و على هذا الأساس، فأوكرانيا مختلقة لمعاداة الشعب الروسي و لخدمة أهداف محتلين غربيين، يتكررون عبر التاريخ (!!).

لا يختلف بوتين في هذا التفسير لنشوء الفكر القومي الأوكراني و للتطلعات الأوكرانية في الإستقلال عن تفسير قوميي الامبراطوريات السابقة في التاريخ الحديث؛ فالقومي الفارسي في عهد شاه إيران، رضا البهلوي، جرب فكرة أن كل شعوب إيران هي واحدة آرية بتاريخ و ثقافة و شعور قومي واحد، و أن أي تخيل اجتماعي يناقض هذه الفكرة هو عمل عدائي يستهدف تمزيق إيران . وكل ما فعلته جمهورية إيران الإسلامية هو أنها بدلت الهوية الواحدة الآرية بأخرى أحادية شيعية. كذلك يرى القومي التركي العثماني اليوم أن تمزق الإمبراطورية العثمانية و ذهاب مجدها بدأ حينما تخيل الأرمني و الكردي و العربي و الآشوري و اليوناني…الخ، بتحريض اجنبي، مجتمعات سياسية مستقلة تختلف عن واحدية تاريخ و ثقافة المجتمع العثماني المتخيل رسميا. و على نفس المنوال يفكر القومي العربي ان ما يسميها "الشعوبية" هي التي مزقت المجتمع الإمبراطوري الواحد الإسلامي العربي، و أن أي تخيل لمجتمع سياسي لا يكون مركزه العرب "من المحيط إلى الخليج" لابد أن يكون عملا تخريبيا يسوّقه أعداء الأمة العربية…و هكذا ديدن قوميي الأمبراطوريات البائدة في كل العالم.

ولك أن تتخيل أي عالم سيسود إن استطاع بوتين، بدءا من أوكرانيا، وبفضل نظريته عن الدول المختلقة و قدرة جيشه النووية، أن يفرض على العالم اعادة رسم الحدود على أساس فكرة الواحدية الثقافية للإمبراطوريات البائدة، وقلده في ذلك قومييو الإمبراطوريات البائدة في كل أنحاء العالم.

عانى البشر حربين عالميتين ليصل إلى نظام عالمي يتطلع إلى حفظ الحدود الدولية و يتيح إعادة ترتيبها بالوسائل الديمقراطية الداخلية السلمية فقط…لينتج عالما أفضل مما يدور في مخيلة بوتين و"بواتين" صغار من قوميي الإمبراطوريات البائدة، حيث الحدود ترسم و يعاد رسمها بحروب توسعية لا منتهية.

فشل مشروع بوتين في أوكرانيا مهم للقطيعة النهائية مع عالم الحروب اللامنتهية، إلا بإنتهاء العالم!…فالمسألة أكبر من أوكرانيا!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أميركية جديدة على إيران تستهدف قطاع الطائرات المسيرة


.. ماكرون يدعو لبناء قدرات دفاعية أوروبية في المجالين العسكري و




.. البيت الأبيض: نرعب في رؤية تحقيق بشأن المقابر الجماعية في قط


.. متظاهرون يقتحمون معهد التكنلوجيا في نيويورك تضامنا مع جامعة




.. إصابة 11 جنديا إسرائيليا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة ا