الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جرير والفرزدق , صراع أدبي أم أخلاقي

علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)

2022 / 4 / 3
الادب والفن


يقال إنَّ بداية الخصومة الأدبيّة بين جَرير والفُرزدق كانت بسبب البَعِيث المُجاشِعي وهذا أحد الشعراء الذين عرفوا بالخطابة والفصاحة , والبَعِيث من مُجاشع قبيلة الفرزدق فقد قيل أنَّ فتية من يربوع عشيرة جرير، سرقوا إبلاً للبعيث ، فقال جرير قصيدته التي يهجو فيها البّعيث ويفاخره ،مطلعها:
طاف الخيالُ وأينَ منك لماما فارجعْ لزورك بالسلام سلامَا
فرد عليه البَعيث ، قائلاً :
أجريرُ أقْصرْ لا تحنْ بك شقوةٌ إنَّ الشقيَّ ترى له أعلاما
وعندما سمع الفرزدق ذلك ، انتصر للبعيث بقصيدة يهجو فيها جريراً، مطلعها:
ألا اسْتهزأتْ منّي هنيدةُ أن رأتْ أسيراً يداني خطوه حلَق الحجْلِ
وتبعه البعيث بأخرى ، يهجو فيها جريراً، ويقول :
أهاجَ عليك الشوق أطْلال دمْنةٍ بناصفة الجوّين أو جانب الهجْلِ
فرد عليه جرير بقصيدة ، يقول في مطلعها:
عُوجي علينا واربعي ربة البعْلِ ولا تقتليني لا يحلُّ لكم قتْلي
فرد عليه الفرزدق ، قائلاً :
ألا حيّ رهْبَى ثم حيّ المطاليا فقد كان مأنوساً فأصبحَ خاليا
وتدخل في المعركة شعراء آخرون منهم غسان السَّلِيطي وهو أقارب البعيث فهجوا جريراً لكنه غلبهم جميعا ولم يصمد أمامه سوى الفرزدق .
قيل إنَّ الأخطل أرسل ولده مالكاً ليتعقَّب أخبار جريرٍ والفرزدق فعاد مالك لأبيه فقال في وصف الشَّاعرين : جرير يغرف من بحر ، والفرزدق ينحت من صخر , فقال الأخطل : إنَّ الّذي يغرف من بحر أشعرهما ,على الرَّغم من أنَّ الأخطل كان يناصر الفرزدق ضدّ جرير , وقد ميَّز الشاعرُ مروان بن أبي حفصة بينهما تمييزاً دقيقا , فقال بحقِّهما :
ذَهَبَ الفَرَزدَقُ بِالفَخارِ وَإِنَّما حُلوُ القَصيدِ وَمُرُّهُ لِجَريرِ
وَلَقَد هَجا فَأَمَضَّ أَخطَلَ تَغلِبٍ وَحَوى اللُها بِبَيانِهِ المَشهورِ
ويروى أنَّ الفرزدق قال للنَّوار زوجته : أنا أشعر أم جرير؟ قالت : إنَّك لشاعر وإنَّ جريراً ـ والله ـ لشاعر، قال لها : أتقسمين على جرير؟! قالت: إنَّه والله غلبك على حلوه وشاركك في مرِّه .
والحقيقة أنّ كلاً من جرير والفرزدق شاعر لا يشقّ له غبار , فقد مُنحا قدرة غريبة على التَّفنن في القول والبراعة في السَّبك وبعد الخيال وقوة العارضة لكنَّهما انمازا بلسانين سليطين قد يتحاشى المرء ذكر بعض ما دار بينهما من سباب لفحشه .
وعلى الرَّغم مما اشترك فيه الشَّاعران من صفات الشّاعريَّة عامّة قد يلحظ المتتبع أنَّ أثر العائلة والثَّقافة والمزاج والفروق الفرديَّة لكلٍّ منهما , فقد انعكست تلك المؤثرات على شخصيتهما فقد كان الفرزدق كريم المحتّد أصيل النَّسب ذو حسب عريق , فبيته من جمرات العرب وأهله من مشايخهم لذلك كان أرستقراطيّاً معتدّا بنفسه جداً وكانت شمائله جاهليّة , يسير على سنن القدماء في الهجاء والفخر , فكان شعره من هذه النَّاحيّة أجزل وأقوى سبكاً من شعر جرير حتّى قال فيه أبو عمرو بن العلاء : كان الفرزدق يُشبّه من شعراء الجاهليّة بزهير , لكنَّ الفرزدق ـ مع ذلك ـ يبدو في أحيان كثيرة خشناً قاسيّاً سليط اللسان , فاجر النّفسِ .
أمّا جرير فقد كان طامّة كبرى فهو أولاً ترعية غير ذي حسب فكان لا يهمه قول ولا يتحاشى شتيمة أو سبّة , فقد كان نسبه القريب متواضعاً ليس فيه ما يستحق الفخر ، كان جدّه راعياً ووالده كان بخيلاً ذميماً ، فقد سأله ذات يوم رجلٌ : من أشعر النّاس ؟ فأخذ بيده وأدخله على أبيه ، إذا هو يرتضع من ثدي عنز ، فاستدعاه فنهض واللبن يسيل على لحيتيه , فقال جرير للذي سأله : أتبصر هذا ؟ قال : نعم ! قال : أتعرفه ؟ قال : لا ! قال : هذا أبي ، وإنّما يشرب من ضرع العنز لئلا يحلبها فيسمع جيرانه حس الحلب فيطلبوا منه لبناً ، فأشعر النَّاس من فاخر بهذا ثمانين شاعراً فغلبهم جميعاً .
ومن هنا يبدو جرير متحرّراً نوعاً ما من قيود الانتماءات العشائريَّة أو التّقاليد الرّسميّة في التعامل مع الذات لذلك كان حراً جريئاً يختار من الكلام ويقلّبه كيف شاء فكان من هذه الناحية أشعر من الفرزدق , وقد اعترف الأخطل بشاعريَّة وقدرته على التَّلاعب في القول والتفنن في تنويعه حين قال : إنَّ جريراً أوفى من سيَّر الشعر مالم نؤته .. فقد قلت بيتا ما أعلم أنَّ أحدا قال أهجى منه :
قومٌ إذا استنبحَ الأضيافُ كلبهُمُ قالوا لأمّهِمِ : بُولي على النّارِ
بينما قال هو (جرير) بيتا فلم تبق شقاة ولا أمثالها إلَّا رووه :
والتَّغلِبِيُّ إذَا تنَحْنَحَ لِلقِرَى حَكَّ اسْتَهُ ، وتمَثَّلَ الأمْثَالا
وروى الأصمعي ، عن أبيه ، قال : رأى رجل جريراً في المنام بعد موته فقال له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي ، فقيل : بماذا ؟ قال : بتكبيرةٍ كبَّرتها بالبادية , أمَّا الفرزدق فقد أهلكه الله بقذف المحصنات .
ويبدو أنَّ جريراً كان ذا حظوة عند الخلفاء والأمراء لما تقدم من صفاته ولما كانوا يرون في الفرزدق من عنجهيّة فقد روي أن (الفرزدق وجرير والأخطل) اجتمعوا في مجلس عبدالملك بن مروان ، فاحضر بين يديه كيساً فيه خمسمائة دينار، وقال لهم : ليقل كل منكم بيتاً في مدح نفسه ، فأيّكم غلب فله الكيس , وبدأ الفرزدق , فقال :
أنا القَطْرانُ والشُّعَرَاءُ جَرْبى وفي القَطْرانِ للجَربَى شِفاءُ
ثم التفت إلى الأخطل , فقال :
إِن تَـــكُ زِقَّ زامِـــلَةٍ فَــإِنّــي أَنـا الطـاعونُ لَيسَ لَهُ شِفاءُ
وبعدهما قال جرير:
أَنـا المَـوتُ الَّذي حُدِّثتَ عَنهُ فَــلَيــسَ لِهــارِبٍ مِـنـهُ نَـجـاءُ
فقال عبد الملك لجرير : خذ الكيس ، فلعمرى إنَّ الموت يأتي على كلّ شيء .
وذكروا أنّ جريراً والفرزدق اجتمعوا عند الحجّاج أثناء ولايته على العراق ، فقال لهم : من مدحني منكم بشعر يوجز فيه ويحسن صفتي فله هذه الخلعة .
فقال الفرزدق :
وَمَا يأْمنُ الْحَجَّاجَ وَالطَّيْرُ تَتَّقِي عُقُوبَتَهُ إِلا ضَعِيفُ الْعَزَائِمِ
وقال جرير :
فَمَا يأمنُ الْحَجَّاجَ أما عِقابُهُ فَمُرٌّ وأمّا عَقْدة فوثيقُ
يُسِرُّ لَك الشحناء كلُّ مُنَافِق كَمَا كلُّ ذِي دينٍ عَلَيْك شفيقُ
فقال الحجاج : ويحك يا فرزدق ، ما قلت شيئاً ، إنَّ الطير تتقى الصبي والخشبة , ودفع الخلعة إلى جرير .
وقد حاول الخليفة سليمان بن عبد الملك الصّلح بينهما دون جدوى ، حيث سأل جريراً : مالك والفرزدق ؟ فأجاب : إنَّه يظلمني ، بينما قال الفرزدق : رأيت آبائي يظلمون آباءه ، فسرت فيه بسيرتهم .
وعلى الرَّغم من اعتداد الفرزدق بنفسه فقد كان يفتقد الرَّد في المحاججة أحياناً فقد ذكر ابن قتيبة أنَّ الفرزدق قال للكميت حينما كان شاباً أيسرَّك أنّي أبوك , فقال الكميت : لا , لكن يسرني أن تكون أمّي , فحصر الفرزدق حتّى قال : ما مرّ بي موقف مثله طيلة حياتي .
ومن فحشيات الفرزدق , قوله :
دَعَانـي جَرِيـرُ بـنُ المَرَاغَـةِ بَعْدَمَا لَعِبْنَ بِنَجْدٍ وَالمَلا كُلَّ مَلْعَبِ
فَقُلْتُ لَهُ: دَعْني وَتَيْماً، فَإنّنـي وَأُمِّكَ، قَدْ جَرّبْتُ ما لـمْ تُجَـرِّبِ
وقال أيضا يهجو جريراً :
مِثْلُ الكِلابِ تَبُولُ فَوْقَ أُنُوفِهَا يَلْحَسْنَ قَاطِرَهُنّ بِالأسْحَارِ
ويبدو أنَّ الفرزدق كان ضيق الصَّدر لا يحتمل النّقد أو اللوم وإن كان النّاقدُ صادقاً ولهذا لم يسلم من هجائه حتَّى علماء اللغة الذين كانوا يتداركون عليه هناته الشعريّة فقد روي أنّ عبْد اللَّه بْن أَبِي إسحاق زيد بْن الحارث بْن عَبْد اللَّه الحضْرَمِيّ الْبَصْرِيّ ، مولى لهم أحد الأئمّة فِي القراءة والنَّحْو سمع الفرزدق ينشد:
وعضُّ زمانٍ يا بن مروان لم يدعْ ... من المالِ إلّا مُسحتاً أو مجلَّفُ
فقال له ابن أبي إسحاق : على أي شيء ترفع (أو مجلف) ؟ فقال : على ما يسوءك وينوءك , وَقيل أنَّ الفرزدق بلغه أَنَّ عبد الله الحضرمي يعيب عَلَيْهِ ، فَقَالَ :
فَلَو كَانَ عبد الله مولى هجوته ... ولكنَ عبد اللهِ موْلى مَوَالِيَا
ويروى أَنَّ الحضرمي لما سمع هَذَا الْبَيْت ، قَالَ : وَهُوَ فِي هَذَا أَيْضاً مخطئ، وَالصَّوَاب : مولى موالٍ .
لكنَّ فحش الفرزدق كان يُقابل من قِبَل جرير بفحشٍ أكثر تنويعاً وأكثر إيلاماً فحين , قال الفرزدق يهجو جريراً :
ولو تُرمَى بلُؤمِ بني كُلَيب نجومُ الليلِ ما وَضَحَتْ لِساري
ولو يُرْمى بلؤمِهِم نهارٌ لَدَنَّسَ لُؤمُهم وَضَحَ النّهارِ
سارع جرير بالرَّد قائلا :
لَقَد وَلَدَت أُمُّ الفَرَزدَقِ فاجِراً وَجاءَت بِوَزوازٍ قَصيرِ القَوائِمِ
وَما كانَ جارٌ لِلفَرَزدَقِ مُسلِمٌ لِيَأمَنَ قِرداً لَيلُهُ غَيرُ نائِمِ
وحين قال الفرزدق :
أولَئِكَ آبائي فَجِئني بِمِثلِهِم إِذا جَمَعَتنا يا جَريرُ المَجامِعُ
ردَّ عليه جرير بقوله :
قَومٌ إِذا حَضَرَ المُلوكُ وُفودُهُم نُتِفَت شَوارِبُهُم عَلى الأَبوابِ
و قال الفرزدق :
أدرسان قيس لا أبـالك تشترى بأعراض قوم هم بناة المكارمِ
فرَّد جرير عليه :
وَإنّي وَقَيساً، يا ابنَ قَينِ مُجاشعٍ، كَرِيمٌ أُصَفّي مِدْحَتي للأكارِمِ
وقد رأى الفرزدق جريراً محرماً للحجِّ فقال : والله لأفسدنَّ على ابن المراغة حجّه ، فجاءه مستقبلا له ، فجهَّره قائلاً :
إنَّك لاقٍ بالمشاعر مِن منىّ … فخاراً فخبّرني بمَن أنتَ فاخرُ
فقال جرير : لبّيك اللهم لبّيك ولم يجبه
لكنّه عاد فعيّره قائلاً :
زَعَمَ الفَرَزْدَقُ أَنْ سيقتلُ مِرْبَعًا … أبشر بطول سَلامَة يَا مربعُ
وكنَّا إذا الجبَّارُ صعّرَ خدَّهُ ضرَبْناه حتى تستقيمَ الأخادعُ
وكان جرير هو الآخر يتتبع زلات الفرزدق , فقد كان الفرزدق مقيما بالمدينة , و كان يوصف بأنه أزنى الناس , فقال شعراً يقول فيه :
هُمَا دَلّتَاني مِنْ ثَمانينَ قَامَةً كما انقَضّ بازٍ أقتمُ الرّيشِ كاسرُهْ
فَلَمّا اِستَوَت رِجلايَ في الأَرضِ نادَتا أَحَيٌّ يُرَجّى أَم قَتيلٍ نُحاذِرُه
فقلتُ ارفَعوا الأَمْرَاسَ لا يَشْعُروا بنا وأَقبلتُ في أَعجازِ لَيلٍ أَبَادِرُهْ
فعيره جرير بذلك في قوله :
هُوَ الرِجسُ يا أَهلَ المَدينَةِ فَاِحذَروا مُداخِلَ رِجسٍ بِالخَبيثاتِ عالِمِ
لَقَد كانَ إِخراجُ الفَرَزدَقِ عَنكُمُ طَهوراً لِما بَينَ المُصَلّى وَواقِمِ
تَدَلَّيتَ تَزني مِن ثَمانينَ قامَةً وَقَصَّرتَ عَن باعِ العُلى وَالمَكارِمِ
وعلى أثر ذلك اجتمع أشراف المدينة إلى مروان بن الحكم وكان واليا بها فقالوا : ما يصلح أن يقال مثل هذا الشعر بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوجب عليه الحد , فقال مروان : لست أحده ولكن أكتب إلى من يحده , فأمره مروان بالخروج من المدينة وأجله ثلاثة أيام وفي ذلك يقول :
توعَّدِني واجَّلَني ثَلاثاً ... كما وُعِدَتْ بمهلكها ثمودُ
ثم كتب له كتاباً إلى عامله يأمره فيه بأن يحده ويسجنه وأوهمه أن كتب له بجائزة .
وكان الفرزدق كثير الفخر بأجداده , ومن ذلك قوله :
ترى النَّاسَ ما سِرْنا يسيرونَ خلْفَنا وإن نحنُ أومأنا إلى النَّاس وقّفوا!
وقوله :
إنّ الذي سمكَ السماءَ بنى لنا بيتًا دعائمُهُ أعزُّ وأطولُ
حُللُ الملوكِ لباسُنا في أهلنا والسابغات إلى الوغى نتسربلُ
فأجابه جرير :
أخزى الذي سمك السماء مجاشعاً وبنى بناءك في الحضيض الأسفَلِ
بيتـــــاً يحمحم قينكـــــم بفنائـــــهِ دنســاً مقاعــده خبيــــث المدخَـــلِ
قُتل الزبير وأنت عاقـدُ حبوةٍ تبـاً لحـبـوتـك التـي لـم تحــلـلِ
وافاكَ غدرُكَ بالزبير على منى ومجر جعثـنـكم بذاتِ الحرملِ
بات الفرزدق يستجيـر لنـفـسه وعجان جعثن كالطريقِ المُعمِلِ
وحين قال الفرزدق :
أحلامُنا تزن الجبال رزانةً وتخـــالُـنــا جنـــًا إذا مانجهــلُ
أنَّا لنضرب رأس كل قبيلةٍ وأبـوك خـلف أتــانـه يــتـقمـَّـلُ
أجابه جرير :
أبلغ بني وقبانَ أن حلومَهُم خَفـتْ فلا يزنـونَ حبَـةَ خردَلِ
ووقبان نبز لبني مجاشع .
وروى هشام بن محمَّد الكلبي عن أبيه , أنَّه قال : دخل رجل من بني عذرة على عبد الملك بن مروان يمتدحه بقصيدة وعنده الشّعراء الثلاثة ، جرير والفرزدق والأخطل ، فلم يعرفهم , فقال عبد الملك للأعرابي : هل تعرف أهجى بيت قالته العرب في الإسلام ؟ قال : نعم ! قول جرير:
فَغُضَّ الطَرفَ إِنَّكَ مِن نُمَيرٍ فَلا كَعباً بَلَغتَ وَلا كِلابا
وهذا البيت قاله جرير ضمن قصيدة دامغة يهجو فيها الرَّاعي النُّميري الذي كان يُفضِّل الفرزدق على جرير في قوله :
يا صاحِبَيَّ دَنا الأَصيلُ فَسيرا غَلَبَ الفَرَزدَقُ بِالهِجاءِ جَريرا
على الرَّغم من تحذير جرير له بأنَّ لا يتدخَّل بينهما فكانت قصيدة جرير شؤما على بني نُمير حتَّى أنهم إذا سئلوا عن نسبهم لا يذكرون نسبهم إلى (نمير) بل إلى جدِّهم الأبعد عامر , وقيل أنَّ الرَّاعي مات كمداً جرّاء هذه القصيدة .
فقال عبد الملك بن مروان : أحسنت ، فهل تعرف أمدح بيت قيل في الاسلام ؟
قال نعم ! قول جرير :
أَلَسْتُمْ خيرَ من ركب المَطَايَا وأندَى العَالمينَ بُطونَ راحِ
وهذا البيت من قصيدة قالها جرير في مدح الأمويين , فقال : أصبت أحسنت ، فهل تعرف أرقَّ بيت قيل في الإسلام ؟ قال الأعرابي : نعم ! هو قول جرير:
إِنَّ العُيونَ الَّتي في طَرفِها حَوَرٌ قَتَلنَنا ثُمَّ لَم يُحيِينَ قَتلانا
يَصرَعنَ ذا اللُبَّ حَتّى لا حِراكَ بِهِ وَهُنَّ أَضعَفُ خَلقِ اللَهِ أَركانا
وهذان البيتان من قصيدة قالها جرير في هجاء الأخطل بدأها بالغزل , فقال : أحسنت ، فهل تعرف جريراً ؟ قال : لا والله ، وإنّي إلى رؤيته لمشتاق , قال : فهذا جرير وهذا الفرزدق وهذا الأخطل , فأنشأ الإعرابي يقول :
فحيَا الإلهُ أبَا حَزْرَةَ وأرْغَمَ أنفك يا أخْطلُ
وجد الفَرَزْدَقِ أتْعِسْ بِهِ ودق خياشيمَه الجَنْدَلُ
وأبو حزرة ؛ كنية جريرٍ .
فأنشأ الفرزدق يهجو الأعرابي :
يا أرغمَ اللهُ أنفاً أنتَ حامِلُه يا ذا الخَنا ومقال الزور والخَطلِ
ما أنتَ بالحكم ِ التُرْضَى حكومتُه ولا الأصيل ِ ولا بذي الرأيِ والجدلِ
ثمُّ أنشأ الأخطل يقول :
يا شرّ مَنْ حَمِلَتْ ساقٌ على قَدَم ٍ ما مِثلُ قولك في الأقوام ِ يُحْتَمَلُ
إن الحُكومَة لَيْسَتِ في أبيكَ و لا في معشر ٍ أنتَ مِنْهُمُ إنهُمْ سَفلُ
فقام جرير مغضباً فأنشأ يقول :
شَتَمْتُما قائلاً بالحق مُهْتدِيَا عندَ الخليفةِ والأقوالُ تنتضِلُ
أتشْتُمان سفاهاً خيرَكُمْ حسبًا ففيكُمَا وإلَهيَ الزورُ والخطلُ
شَتُمْتُماهُ على رَفعِي و وَضْعِكُما لا زِلْتما في سَفالٍ أيها السفَلُ
فوثب جرير إلى الأعرابيّ فقبَّل رأسه ، فقال : يا أمير المؤمنين جائزتي له , فقال عبد الملك : وله مثلها من مالي , فقبض الأعرابي ذلك كلَّه وخرج .
وقد صار الهجاء بين الشَّاعرين فنّاً منفصلاً قائما بذاته لا يمسّ صُلب العلاقة بينهما فقد كان الشّاعران قريبين من بعضهما في النّسب فكلاهما تميميّان ؛ الفرزدق هو همام بن غالب الدّارمي التّميمي وجرير هو ابن عطيّة اليربوعي التَّميميّ وقد استمر الهجاء بينهما حتَّى توفي الفرزدق سنة 114 هجريَّة فرثاه جرير بقصيدة مترحماً عليه وذاكراً فضائله , وممَّا جاء فيها :
لَعَمري لَقَد أَشجى تَميماً وَهَدَّها عَلى نَكَباتِ الدَهرِ مَوتُ الفَرَزدَقِ
عَشِيَّةَ راحوا لِلفِراقِ بِنَعشِهِ إِلى جَدَثٍ في هُوَّةِ الأَرضِ مُعمَقِ
لَقَد غادَروا في اللَحدِ مَن كانَ يَنتَمي إِلى كُلِّ نَجمٍ في السَماءِ مُحَلِّقِ
عِمادُ تَميمٍ كُلِّها وَلِسانُها وَناطِقُها البَذّاخُ في كُلِّ مَنطِقِ
والغريبُ أنَّ جريراً مات بعد الفرزدق بستّة أشهرٍ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس