الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على جسم السد

شريف حتاتة

2022 / 4 / 6
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


-------------------------------
بعد خروجى من السجن فى أواخر سنة 1963 ، عينت طبيبا فى إدارة الوحدات الصحية الريفية بوزارة الصحة . وفى شهر يوليو سنة 1964 سافرت مع المرحوم الدكتور النبوى المهندس ، وزير الصحة إذ ذاك ، فى وفد للتفتيش على المنشآت الصحية فى أسوان .
وقفت أطل من أعلى السد العالى . الصور تتوالى فى ذهنى . ليلة 26 يوليو سنة 1956 فى معتقل الواحات . صوت عبدالناصر نسمعه واضحا فى الخيمة حيث جلسنا القرفصاء . فى بعض الأيام كرهت هذا الصوت . لم ينطق بالحق دائما ، وسلبنى حقى فى الحرية والكلام . لكن الليلة صوته فيه دفء ، صاف كالبللور يحمله نسيم الليل فوق المسافات . الصدف فيه ينفذ إلىً ، يتبلور فى النطق ، فى النبرات .
كان المذياع كبير الحجم فحفرنا له حفرة فى الرمل حتى لا يهتدى إليه الحرس ، وفى الليل أخرجناه ، وجلسنا حوله القرفصاء نستمع إلى كلماته تصل إلينا هادئة مفعمة بالعزم . لغتها بسيطة يخاطب بها الناس . فيها ذلك الحس الذى يقترب منهم فى اللحظات العظيمة ، يرفع الأقنعة ، ويقول كلمة الحق باترا كالسيف . تحدث عن " يوجين بلاك" رئيس البنك الدولى جاء إلينا يفاوضنا ، ويفرض علينا رقابة دولية مقابل القرض الذى سيبنى به السد . يريد أن يحدد مصادر الدخل ، وكيف نصرفها ، وأن يكرر ما فعله الإنجليز ، والفرنسيون . فى عهد خديوى مصر حفرنا قناة السويس بدماء عشرات الألوف من الفلاحين وعرقهم ، بالسخرة ، والفأس ، ثم بعنا الأسهم لنسدد القرض . الاستعمار القديم حل محله استعمار جديد اخطر منه . والخواجة " يوجين بلاك " جاء يذكرن بالخواجة " ديليسبس " .
أسمع ضحكة عبد الناصر . ضحكة من القلب . ضحكة فيها مرارة ، وسخرية ، وحب للنفس ، وللشعب . ضحكة المنتصر على التردد ، والخوف يواجه الظلم . ضحكة مصرية صافية اخترقتنى ، وأنا جالس قرب المذياع اسمعه .
أخذ قراره ، ونفذه . ستعود إلينا القناة . جزء من أرضنا . حفرناها بجهدنا . فى هذه اللحظة أحاطت الدبابات المصرية بشركة قناة السويس . أممناها . أصبحت ملكا للشعب .
انطلقنا من أبواب الخيم . حملنا كل ما يمكن الاستغناء عنه . قطعا من الخشب ، جذوعا للنخيل نستخدمها للجلوس عليها ، فروعا للزعف جفت فى الشمس ، ملابس قديمة للسجن ، جردلا فيه كيروسين ، وصفيحة صغيرة من المازوت .
كومناها فى الحوش على الرمل . أشعلنا فيها النار فصعدت ألسنتها حمراء فى الليل. رقصنا حولها رقصصة الفرحة بالنصر ، بالذل يرفع عن كاهلنا . رقصنا لعبد الناصر ، للأرض التى ولدتنا .
قلبى يدق . اأشعر به تحت الضلوع كبير الحجم ، ملىء بالفخر ، بسعادة ليس لها حد ، تدمع عيناى . أتوقف عن الرقص . ساقاى ترتعشان من الجهد الذى بذلته . آخذ نفسا عميقا . نسيم الليل يتسلل إلىً ، أصابعه تلمسنى . عيناى تدوران حول المعتقل . أرى ألسنة النار تصعد حمراء وبرتقالية ، وذهبية اللون .
انقضت الساعات ، واقترب الفجر . مازالت الأصوات تغنى . مازالت الأقدام تدق الأرض على وقع الطبل . لكن فى النصف الآخر من المعسكر ، حيث يرقد الأخوان المسلمون لا أرى شيئا غير أشباح الخيام ، والظلام . ولا أسمع شيئا سوى الصمت .
.........................................................
أقف أعلى السد العالى وأطل فى عين الشمس . الريح تعبث بسترتى ، وتطيرها . أحكم أزرارها وأغلقها . الشمس على وجهى وجسمى تدفئنى ، والمساحات تمتد أمامى مثل الحرية بلا حد . مثل الحياة انتظرها . النظرة هنا مثبتة على شىء فى البعد . لا تنظر تحت قدميها ، فأمامها البراح تستكشفه . الوجوه فيها صحة لفحتها الشمس ، وصقلها الجهد . تقاطيع الطبيعة الصخرية تنتقل الى الوجوه ، مثل صيادى البحر . يرتدون القبعات ويضعون اليد فوق الحاجب ليحموا العين من الشمس . يشيرون إلى الجبل ، شقوه بالديناميت ، وآلات الحفر . أزالوا عنه الحطام ، وفى الفراغات التى صنعوها صبوا الأسمنت والجرانيت الأسود .
آلاف العمال جاءوا ليبنوا السد ، لا بالسخرة وإنما بالأجر ، لا بالإجبار ، والقهر ، وإنما هذه المرة بقدر من الرضاء وفى لحظات بالفخر . نقلوا عشرات الآلاف من أطنان الحجر ، والرمل ليقيموا السد . عمل ضخم يحتجز وراءه بحيرة من المياه مساحتها خمسمائة كيلو متر مربع . قام به مئات من المهندسين ، والفنيين ، والعمال المهرة من مصر ومعهم عدد من السوفييت .
يقف بعض المهندسين بالقرب مِنى . لا يملون من الشرح . أليس هذا العمل الضخم ملكهم ، صرحهم بنوه للغد ؟ . سيبقى بعد أن يرحلوا هم ، ليغذىمنطقة الوادى بالمياه ، وينظم الرى ، ويولد طاقة كهربائية تصل إلى أبعد بعد قرية ، وحى ، وتدير المصانع التى نحتاج إليها . يقولون عشرة آلاف كيلوا وات ساعة ، فأهز رأسى كأننى أدرك معنى هذا الرقم وضخامته . أتصوره فى خيالى قادرا على إضاءة مصر ، واكتفى بهذا القدر من الفهم . يشير أحدهم إلى المياه تتدفق شلالا أبيض من احدى البوابات ، يقول بنبرة فخر : " هذا هو التوربين الأول " . الرذاذ على وجهى ينعشنى . أستنشقه . أملأ صدرى بتدفق جديد للحياة فى الجسم . يضيف : " بعده سيتم تركيب التوربين الثانى والثالث " .
خمسة وثلاثون ألف عامل ، جاءوا ليعملوا فى موقع السد . أغلبهم من صعيد مصر . مازال بعضهم موجودين بعد أن رحل أغلبهم .. أرى أجسامهم السمر تتسلق الجبال ، تنتقل على سطح الحجر الأبيض ، والأصفر اللون . أحد الواقفين يقول أن كسَارة الحجر يخرج منها غبار خطير على صحة العاملين . يتسبب عنه تكلس فى الرئة شبيه بما يحدث فى مناجم الفحم تحت الأرض .
أعرف معنى هذا الداء . تكلس الرئة يحول دون أن تتنفس الرئة لتعطى الأكسجين للدم . انه يخنقها . يعنى الموت . لا يمهلهم سوى بضع سنوات ينقض بعدها عليهم . هكذا دائما . يبنون ويموتون . الأهرامات ، وقناة السويس ، والسد العالى ، وأشياء كثيرة أخرى. يقيمون المبانى ، والإنشاءات ، والصروح ، مقابل كسرة الخبر والمِش ، والفول ، والبصل والفجل .
هبطت إلى التوربين . لم أر آلة بهذه الضخامة من قبل . أشعر بالرهبة أمامها . قدرة الإنسان غير المحدودة ، تتجلى فى هذا الصنع ينقلنا من عصر إلى عصر ، من الكيروسين والمازوت ، والفحم إلى طاقة نظيفة بيضاء اللون . انتقل فى صمت ، عيناى تلهثان من شىء إلى شىء آخر . أتأخر . أسير ببطء ، بعيدا عن الزحام ، عن المسئولين يشرحون للوزير ، يسألهم . يهز رأسه ببطء . حوله الوجوه . نفس الوجوه لا تتركه . تسير معه خطوة خطوة حتى لا يفلت منهم . فمنْ يدرى ، ربما فى لحظة غفلة بتسلل إليه منْ ليس منهم . صلعاتهم تلمع فى الشمس . أضع يدى فوق رأسى أتحسسه . الشعر أقل لكن الصلع لم يأت بعد . الوزير يقول شيئا ، يضحكون جميعا . لا يتخلف عن الضحك أحد منهم .
هنا عيون الناس فيها بريق . ليست كعيون الجالسين خلف مكاتبهم . هنا يبنون حياة جديدة . لم يعد يهمهم الفراش المريح ، ولا أضواء المدينة . ربما وحشتهم الأسرة تركوها ، ولكنهم يحيون على الرسائل ، ومنظر البناء يرتفع أمامهم ليتحكم فى النهر .
صعدنا مرة أخرى فوق جسم السد . وجدت إلى جوارى رجلا قصير القامة ، مدكوك الجسم يرتدى قميصا مفتوحا ، وبنطالا كاكى اللون ، وصندلا من الجلد . عيناه ضيقتان ، زاد من ضيقهما الحملقة فى ضوء الشمس .. ألمح فيهما بريقا حادا ، يطل من بين الجفون نصف المغلقة مثل عيون القط . خطواته فيها حيوية ، رغم حفر الزمن على وجهه . سألته :
" منذ كم سنة ، وأنت هنا ؟ " .
قال :
" منذ ثلاث سنوات " .
" والحياة صعبة هنا ، أليس كذلك ؟ " .
" إلى حد ما ، لكننا تعودناها ، والعمل يستوعبنا . أنا لا أتعب إلا فى الصيف . عندى دوسنتاريا مسالة بسيطة مقدور عليها " .
ساعة تناول الطعام جلسنا على مائدة طويلة مخصصة للضيوف . جاءت جلستى إلى جواره على الطرف . سألته :
ما هو عملك فى المشروع ؟ .
قال :
" أنا نائب المدير التنفيذى للمشروع . اسمى " إبراهيم زكى قناوى " .
----------------------------------------------------------------------------
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
------------------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران تتوسع في إفريقيا.. والسودان هدفها القادم.. لماذا؟ | #ا


.. الجزيرة ضيفة سكاي نيوز عربية | #غرفة_الأخبار




.. المطبات أمام ترامب تزيد.. فكيف سيتجاوزها نحو البيت الأبيض؟ |


.. حماس وإسرائيل تتمسكان بشروطهما.. فهل تتعثر مفاوضات القاهرة؟




.. نتنياهو: مراسلو الجزيرة أضروا بأمن إسرائيل | #غرفة_الأخبار