الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ارتكاب الفظائع والمحاسبة عليها

جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)

2022 / 4 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


إن الفظائع التي ارتكبتها القوات الروسية في أوكرانيا هائلة ومثيرة لاشمئزاز إنساني عميق. وليس المقصود هنا تلك الفظائع التي تم الكشف عنها في ضواحي العاصمة كييف والتي تدّعي موسكو أنها من صنع الأوكرانيين أنفسهم، أو أنها محض إخراج سينمائي، بل إن المقصود هنا هو ما لا مجال للجدال في حقيقته على الإطلاق: كثافة أعداد الضحايا المدنيين، وهول شهادات النساء المغتصبات، وتدمير مدن بكاملها بحيث لم يبقَ فيها مبنى واحد إلا وتحطّم واحترق. إنها فظائع تمرّس عليها الجيش الروسي في هجومه الوحشي على بلاد الشيشان تحت إشراف فلاديمير بوتين في عامي 1999-2000 وتدميره الأسطوري للعاصمة غروزني. وقد مارس الجيش ذاته جانبها التدميري بكثافة في سوريا، في حلب وسواها، بينما تمارس الجوانب الأخرى قوات روسية غير رسمية منتشرة في دارفور (السودان) وفي بعض مناطق أفريقيا جنوب الصحراء.
إنها فظائع مقيتة، مثلما هي مقيتة الفظائع التي ارتكبها الجيش الأمريكي وحلفاؤه في العراق وفي أفغانستان، والفظائع التي ارتُكبت في اليمن الحزين، ومثلما هي مقيتة الفظائع التي ارتكبها الجيش الصهيوني طوال تاريخه، لاسيما في حروبه على لبنان وغزواته المتكررة لغزة. لا شك في ذلك، كما لا شك في أن الحكومات الغربية التي تُعرب عن استنكارها، إنما يُبدي بعضها درجة عليا من الصفاقة في التغافل عما ارتكبته قواته في ساحات شتى. أما الحكومة الصهيونية فإذا لم يعلُ صراخها المنافق استنكاراً للفظائع الروسية، بل اكتفت بتصريح لأحد وزرائها، فليس بالتأكيد لتواضعها وإدراكها أن بيتها من زجاج بحيث لا تستطيع أن تراشق الآخرين بالحجارة، بل فقط لأنها داخلة في تحالف مع روسيا البوتينية المتخصصة في اللعب على الأضداد، كما في لعبتها المثلثة في سوريا بين إيران وتركيا وإسرائيل.
لكن هل يعني ما سبق أن كل هذه الدول أسواء، فلا فرق بينها من وجهة نظر الضحايا؟ بكلام آخر، هل أن التعرّض لاجتياح روسي أو أمريكي أو إسرائيلي أو فرنسي، إلخ، أمر واحد لا فرق فيه؟ من يدّعي الجواب إيجاباً يكون غير صادق، وهذا لسبب بسيط، لا يكمن في اختلاف حكام هذه البلدان، بل في اختلاف خضوعهم للمراقبة من قِبَل المحكومين واختلاف مدى تأثرهم بأنظار العالم إلى ما يفعلون.
ولنأخذ حالتنا في وجه عدوّنا الصهيوني: لا تعزية في الأمر بالتأكيد، لكن لا بدّ من أن نعترف أننا نستفيد من كون دولة إسرائيل خاضعة لمراقبة دولية مشدّدة وأنها مرتهنة بالدعم الغربي، تتأثر بالتالي بالرأي العام في البلدان الداعمة لها كما تتأثر بالمدافعين عن حقوق الانسان داخل حدودها بالذات. ونتذكر كلام إسحاق رابين في تبريره تولية أمر الأراضي المحتلة في عام 1967 للسلطة الفلسطينية بموجب اتفاقية أوسلو، عندما قال إن السلطة الفلسطينية لن تكون مقيّدة بمنظمة حقوق الإنسان «بتسيلم» ولا بالمحكمة العليا الإسرائيلية (وبالفعل، فأول ما قامت به السلطة الفلسطينية كان تنفيذ مجزرة قمعية في غزة في خريف 1994 وكأنها أرادت تصديق كلام رابين).

فلولا الضوابط المذكورة التي تحدّ من قدرة آلة الحرب الصهيونية على ارتكاب الفظائع، لما بقي فلسطيني واحد في الضفة الغربية، ولقامت إسرائيل بتنفيذ حملة «تطهير عرقي» على نطاق واسع بغية تهويد الضفة الغربية خلال أسابيع قليلة في عام 1967، أو في مناسبات أخرى كانتفاضة الأقصى في عام 2001. لذا أيضاً تنزعج إسرائيل وتغتاظ لحملة المقاطعة الدولية ضدّها، ليس لأنها تخشى تلك الحملة اقتصادياً، بل لأنها تخشى وقعها على الرأي العام في الدول الغربية مصدر دعمها. ويكفي النظر إلى ما تقوم به روسيا في شرق أوكرانيا ومقارنته بما حلّ بنا على يد الدولة الصهيونية لندرك أهمية تأثير رقابة الرأي العام في الحدّ من الفظاعات، ولو نسبياً فقط.
وكذلك، فإن الاحتلال الأمريكي قد ارتكب فظاعات في العراق، لاسيما في فلوجة وأبو غريب، لكنّ الكشف عن هذه الفظاعات قد أربك الحكومة الأمريكية شديد الإرباك، وقد واجهت في عقر دارها حركة مناهضة للحرب ساهمت في هزيمة مشروعها العراقي. وفي الماضي، ارتكبت أمريكا فظاعات أعظم بكثير في فيتنام، لكنّ المجتمع الأمريكي أصيب بأزمة أخلاقية حادة عند الكشف عنها، وبلغت الحركة الأمريكية المناهضة للحرب آنذاك حجماً عظيماً سرّع في الانسحاب الأمريكي من فيتنام الشهيدة. وقد أصبح هذان الاحتلالان لطختين كبيرتين على ضمير الأمة الأمريكية، كما تعكسه الأفلام العديدة التي خُصّصت لتصوير فظاعة الاحتلال الأمريكي لفيتنام، وبعده تلك التي تناولت احتلال العراق.
فلنقارن ما سبق بما يجري في روسيا: تعتيم إعلامي كامل على الحرب الدائرة في أوكرانيا التي يصوّرها الإعلام الرسمي وكأنها «عملية خاصة»، وليست حرباً، غايتها اقتلاع «النازية» من أوكرانيا، بما يذكّرنا بادّعاء دولة الإرهاب الصهيوني أنها تحارب «الإرهاب» الفلسطيني كلما اعتدت على غزة؛ وأكثر من خمسة عشر ألف معتقل ومعتقلة من المناهضين للحرب داخل روسيا خلال أيام قليلة (تصوّروا لو اعتقل الحكم الأمريكي خمسة عشر ألف شخص كلما هبّت في وجهه حركة مناهضة للحرب)؛ وعقوبة سجن قد تصل إلى خمسة عشر عاماً لمن يصف اجتياح أوكرانيا بالحرب ويحتجّ على الفظاعات التي ترتكبها حكومته (ومثلما يجري عادة في الدول الاستبدادية، ينفّس المواطنون عن سخطهم بالتهكّم، كما في النكتة المتداولة بين الروس والقائلة بإعادة تسمية رواية تولستوي العظمى «العملية الخاصة والسلام»!).
فليس ما يحدّ من فظاعات الحكم الروسي داخل روسيا سوى ما قد ينجم لاحقاً عن نتائج الحرب الشنيعة التي يخوضها. وهذا ما يجعل من السلطة الاستبدادية الروسية إحدى أفظع السلطات المجرمة في زمننا الراهن، وما يجعل من مقاومة شعب أوكرانيا ومعارضة قسم كبير من الشبيبة الروسية لتلك السلطة مقاومة ومعارضة بطلتين، تعملان لصالح كافة الشعوب إذ يقوم تقدّم البشرية من الهمجية إلى الحضارة على إرساء الرقابة الاجتماعية على الحكام وتقنين حقوق الإنسان وفرض حكم القانون، ولا بدّ من الدفاع عن هذه الأمور جميعاً وباستمرار إزاء نزعة الحكّام إلى قضمها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -عفوا أوروبا-.. سيارة الأحلام أصبحت صينية!! • فرانس 24


.. فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص




.. رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس


.. انقلاب سيارة وزير الأمن القومي إيتمار #بن_غفير في حادث مروري




.. مولدوفا: عين بوتين علينا بعد أوكرانيا. فهل تفتح روسيا جبهة أ