الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قوة الإرادة .. ونعمة الحرية

صلاح زنكنه

2022 / 4 / 7
الادب والفن


قليلة هي القصص التي تترسخ في الذاكرة, وتترك أثراً في الوجدان، وقصة "الرهان" للكاتب الروسي المبدع أنطوان تشيخوف واحـدة من هذه القصص الرائعة لما لها من بعد إنساني، بالرغم من بساطتها الظاهرة, إلا أنها عميقة بدلالتهـا ومدلولاتها, وهـذا ديـدن تـشـيـخـوف في معظم قصصه ومسرحياته.
القصة تبدأ من حيث ما تنتهي في (ليلة خريفية مظلمة، والمصرفي العجوز يذرع مكتبه جيئة وذهاباً من ركن لآخر مسترجعا في ذاكرته الحفلة التي أقامها قبل خمسة عشر عاماً مضت) وتداول المحتفلون مسألة "عقوبة الإعدام" واستبدالها بـ "الـسـجـن مـدى الحيـاة" حيث يـرى المصري أن الاعـدام يقـضـي فـورا على الإنسان, بينما يقضي السجن مدى الحياة على الإنسان تدريجيا، وثمة محامي شاب كان بين الحضور رأى أن السجن مدى الحياة أكثر إنسانية, لأن العيش بطريقة أو بأخرى أفضل من عدمه، وهكذا يحتدم النقاش حتى يتحول الى رهان بين المحامي الشاب والمصرفي العجوز الـذي يعلن ..
- أنهـا أكذوبة، أراهنك بمليونين، أنك لا تقدر أن تبقى في زنزانة حتى خمس سنين.
فيجيبه المحامي .. إن كنت تعني ذلك بـصـورة جـادة, فأنا أراهنك بأني سأبقى ليس لخمس سنين فحسب، بل خمسة عشر عاماً.
فيصيح المصرفي .. خمسة عشر عاماً؟ اتفقنا! أيها الـسـادة أن أراهـن بمليـونـيـن.
فـيـوافق المحامي فورا .. أني موافق، أنت تراهن بمالك وأنا بحريتي.
هنا يأخذ الرهان حيز التطبيق، ويـوضـع بـنـود الاتفاقية التي تنص أن ينهي المحـامـي سجنه تحت المراقبة الصارمة في جناح حديقة منزل المصرفي, فيما يـقـوم الأخير بـتـوفيـر المـسـتلـزمـات الضـروريـة مـن مأكل ومشرب وملبس وكـتـب ورسـائـل وأفلام وحـتـى الخـمـر والتبغ, بيد أن المحامي في عامه الأول من السجن يرفضها لأن الخمر يثير الرغبات والرغبات عدوة السجين, بينما التبغ يلوث هواء الغرفة، وهكذا يرضخ المحامي لمحكوميته "الرهانية" بمحض ارادته، وفي السجن يسمع الكلاسيكيات ويعزف على البيانو ويعكف على القراءة ودراسة اللغات والفلسفة والتاريخ, فضلا عن الروايات حيث ينهي ستمائة مجلد واسع في مختلف شـؤون المعرفة، وحين تنقضي مدة السجن وفي الليلة ما قبل الأخـيـرة يـشـعـر المصـرفي بـالـنـدم لأنه سـيـلـزم بـدفـع مـلـيـونـين مـن مـاله إلى المحـامـي الـذي صـار في الأربعين مـن العمر، لذا يقرر أن يقتله، وما أن يشرع بتنفيذ مهمته في حلكة الليل ويدلف زنزانة السجين ليهم بخنقه حيث يجده نائماً وثمة ورقة إلى جانبه فحواها أنه "المحامي" قـرر خـرق الاتفاق بـهـربـه من السجن قبل خمس دقائق لكي يحتفظ المصرفي بـنـقـوده لأنه يحـتـقـرهـا ولأنه نهل من الكتب التي زودها إياه "خـمـرا معتقاً وغنيت أغـانٍ واصـطـدت غـزالاً وخنزيرا في الغابات, أحببت نساءً, وزارتني ليلاً نساءً جميلات مثل السحب السمـاويـة خلقن من سحر عبقرية الشعراء، وهمسن لي بحكايات عجيبة جعلت رأسي ثملاً، تسلقت عبر كتبك قمم الجـبـال، ورأيـت كـيـف تـشـرق الشمس، رأيت غابات خضرا ومـروجـاً وأنهـاراً وبحيراتٍ ومدناً، سمعت غناء حـوريـات وعـزف مـزامـيـر الآلهـة, لقـد منحتني كتبك الحكمة"
لقد جسد الـكـاتـب قـوة الإرادة عبـر شخصية المحامي وتحمله سنوات السجن ورفضه المال الذي وعده به المصرفي لأن الحرية لا تقدر بثمن ولأنها نعمة أثمن وأكبـر من نعمة المال، ولو كان تشيخوف قاصاً تقليديا لأنهى قصته بحصول المحامي على الملونين, وتمتعه بالحياة عبر هذا المبلغ الكبير, ومن ثم موت المصرفي غماً وكمدا أو قتل المحامي من قبل المصرفي وإيداع الأخير في السجن مدى الحياة, أو إعدامه حسبما أوحى لنا القاص, إلا أن تشيخوف كان حاذقا وبارعا في مجمل كتاباته القصصية وحتى المسرحية, حيث جعلـنـا نحـن مـعـشـر القـراء نستمتع ونبهر بنصوصه الأثيرة بعد كل هذه السنوات التي تفصله عنا.
...
جريدة الاتحاد ٥ / ٣ / ٢٠٠٥








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا