الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفارس

طالب جانال

2006 / 9 / 11
الادب والفن


لحظة رفع فيها مؤذن المسجد آذان الفجر ، ضجّت ساعة منضدية في غرفة من غرف منزل مجاور. تثائب رجل راقد في فراشه ، وزحفت كفه النحيلة متحسسة بطنه الضامر ، ممسدة عضوه الذكري ، ثم مستقرة بين فخذيه. انزاح الغطاء قليلا عن جسده ، فعبرت الى أنفه رائحة عطنة ، ما لبثت موجتها الحادة وأوقضت حواسه النائمة ، قبل أن تتكسر مختلطة بمقاطع من بقايا صور مرتبكة وكوابيس راودته الليلة طويلا.
نهض على عجل ، وفي نيته وضع حد لجميع الاختلاطات غير المرغوب فيها ، فأوقف منبـه الساعة ، وجلس على طرف فراشه ، باحثا بقدميه النحيلتين المتدليتين أسفل السرير عن نعليه ، بينما في رأسه ، المنشغل ببقايا الصور والرائحة ، اصطفقت أبواب لحظة فاصلة بين حالتين كونيتين هو على وشك الانتقال بينهما . امتدت أصابعه المرتعشة لتمسح لحية كثة طويلة وغير مشذبة ، ثم لتتسلقها نحو رأس حليق ، نقرته اطرافها ، فأصغت فراغات روحه الهائمة ، بتلذذ بالغ ، الى جمجمته المكورة في فضاء الله ، ككوكب وحيد ، وهي ترجع صدى نقرات أصابعه كالطبل.
- (( لأسرج فرســي ))..
قام الى مفتاح الكهرباء ، ضغطه ، فغمر الغرفة ضوء أصفر شاحب ، كشف عن حيطان جرداء الا من صورة رجل ملتح . وضع قلنسوة بيضاء على لمعة رأسه ، وخرج من الغرفة محكما اغلاق بابها . بحث في غرف مغلقة الابواب على جانبي رواق طويل ، فارغة الا من أفرشة مبعثرة وبقايا أطعمة ، عن اخوان يبدو انهم لم يرجعوا ليلة البارحة الى مأواهم ، ربما قضوا ، لكن في غرفتين متباعدتين عثر على بعضهم ، ذوي اللحى الطويلة ، يستغرقهم نوم عميق.
أغلق الابواب ، وجـّر خطاه القصيرة ، عبر الرواق ، على أنغام صوت المؤذن وهو يرفع اذان الفجر ، نحو صالة فارغة الا من منضدة حملت على سطحها بضعة أشياء : مسدس تمنطق به ، بقايا طعام ، وخارطة ، مفتوحة على وسعها ، لم يميز فيها سوى اشارات وخطوط سوداء ، طواها، ثم دسها في جيب جلبابه القصير . ترك الصالة ، وفي الباحة ، دنى ، بخطوات متمهلة حذرة كأنما مخافة أن تجفل ، من سيارة (( بيجو سوداء )) ، ودار حولها مطبطبا على بدنها البارد برفق . بلل قطعة قماش ، وانهمك في ازالة غبارها المتراكم ، لتعدو به نظيفة هذه التي بدأت تلمع وتعكس الاضواء الملونة لمصابيح المدينة ، فتتوهج وتتوهج ، حتى لايعود ثمة معنى لصوت المؤذن الذي كاد ينهي آذانه .. منذ استلامه لأمر(( هم )) بالتوجه الى ((هنا)) وهو يخوض غمار مأزق بالغ الخطورة ، يتعلق بأمر مستقبله الكوني ، وينذر باطاحة الكثير من اليقينيات التي رسخها على مر الدهر. لذا ، تساءل مرارا وتكرارا ، في الاونة الاخيرة ، عن قيمة ذاك ((الشئ)) كهدف ، يقدم نفسه قربانا على عتبته ، أمام أهداف وافرة أخرى ، أوضح أهمية وأكثر التصاقا بجوهر راسخات معتقداته ، كان الاوفق لو وجهوه نحوها ، كما يوجهون الاخرين بصورة يومية متكررة لينالوا بعدها ما ينالون . لكن ما يهون من مرارة ملاماته تلك ، هو ان ((الشئ)) مميز حقا ، وكما تدل الصورة المرفقة بأمر((هم)) ، لانظير له ، لا في العلم ولا في الحلم ، ولم يصدف ان لاقى شبيها له عبر المسالك والممالك التي اضطر لاجتيازها من مكمنه الى ((هنـا)) . كاد شعور طاغ بالزهو يغمره ، لولا ان حركة مباغتة ، صادرة من خلف براميل فارغة لصق الجدار الخارجي ، جمّدت كفه الممسكة بقطعة القماش المبللة على زجاج ((البيجو السوداء)) الأمامي ، فتابعت عيناه الحذرتان المسار الوهمي للحركة التي تحولت الى أصوات خرخشة مكتومة ومواء قطط سائبة سرعان ما اختلطت بصوت المؤذن ، في المسجد المواجه ، وهو ينهي اذان الفجر بصوت خشن ونغمة ممطوطة.
- (( برهة ، ليس أكثر وأكون هناك )) ..
انطلق ب((البيجو السوداء)) المتوهجة تحت الأنوار الملونة ، عبر مجاهل المدينة الباردة الغافية على تخوم الفجر ، باحثا بدلالة خارطة ، رسمها دليل ، عن ((شئ)) لايفقه له معنى . ((شئ)) ، أثار في سكون أراضيه العديد من زوابع الظنون حتى كادت تلقيه في غيابت العصيان ، ولطّخ بياض صفحات طاعته بسواد تساؤلات لا يجدر أن يوضع من أجلها موضع الشك والريبة ، رغم عقوقها ، ولا أن يحسب خارجا عن الملة ، معاذ الله ، فجل الأمر ، لايعدو مجرد وسوسة شيطانية لن يؤثم بسببها ، وسوسة اللحظات الاخيرة ، قبل لقاء السلف الصالح ومن خلفهم ، تتقافز كالجنادب ، أسراب من الحوريات اللائي وعد بهن .. أزاحت ظل ابتسامة باهتة تزمت شفتيه الغامقتين ، ودفعت قدمه للضغط على دواسة الوقود ، لتندفع (( البيجو السوداء)) أسرع وسط طرقات بدأ الناس توا يبزغون بين ثناياها ومنعرجاتها وخططها ، وكأنهم استعجلوا مغادرة منازلهم لامر تفوق لذته لذة احضان الاناث والغرف المقفلة . أحاطه جمال يفرش الطرقات ، يتسلق الحيطان ، يدخل المنازل ، يفيض من المتاجر التي شرعت تكشف ، كالعذارى ، عن واجهات شبيهة بزمردات او قطع جواهر سمع بها من قصص عجائز مملكته المترعة بالجدب والرمال . مملكة ، لاتتوفر فيها هذه الاشجار والعرائش التي لايعرف لها أسماء أو فوائد يمكن ان يجنيها سكان هذه الديار من هذا الولع العجيب بزراعتها في الشوارع ، الساحات ، البيوت ، حافات الشرفات ، أعالي السطوح ،داخل معارض متاجرهم الزجاجية . اينما حللت بوجهك فثمة عرائش خضراء . حتى بشرهم الذين تكاثروا وتزاحموا واختلطوا ، اناث وذكران ، في هذا الصباح المشرق يلوحون كعرائش أخرى ، حتى أصواتهم الصاخبة ، صمتهم ، حزنهم ، ضحكاتهم الضاجة ، عرائش ، عرائش ، عرائش.
- (( ونساءهم الكافرات كالحوريات ))
بعد مسيرة فراسخ وعند اعتلائه صهوة جسر ، رأى الشئ الملغز الملعون ، الذي لايدري كيف أقاموه في مملكة تخشى الله ، شامخا شموخ الفراعنة ، ينتصب ، امام روضة من باسقات العرائش ، على هيئة جدار رخامي عملاق محمول على دعامتين ، وعلى سطحه الاملس لايفهم كيف التصقت شياطين وأبالسة وأشكال غامقة بدت كطلسم ، بين أسراره العصية ، يتيه رأسه الوحيد الحليق الذي عاد يرجع صدى نقرات أصابعه ، كالطبل.
- ((فجــــرة))
دار ثلاث دورات حول المكان ، مشغولا بالشئ الوثني الذي أمام هول جبروته يتصاغر نصب ( بوذا ) اللعين الذي ألغموه وهدوه أيام العز . وأسفله ، فوق المساحة المكسوة ببلاطات اسمنتية ، أبصر عرائش أخرى خضراء ، تحت فيئها يتحلق رجال يتجادلون ، فنفضت قرون استشعاره غبار التواريخ العطنة عن مجساتها ، وتنبهت تلتقط ذبذبات المكان المشاكسة..
- (( زناديق ))
فتواشجت نتوءات روحه المقفرة في دوامات هائمة تناسلت منها حوريات يسبحن حالمات حول الكتل الوثنية والعرائش وحشد الرجال ..
- (( طابت رياح الجنة ))
في اللحظة التي انتبه فيها الجميع ان (( البيجو السوداء )) مندفعة نحوهم ،دوى في الفضاء صوت انفجار ارتجت له الأرض تحت اقدام المارة على مبعدة أميال وأميال . تطايرت أشلاء مختلطة من بلاطات ، لحم ، ثيران ، خوذة ، طيور ، قرص شمس ، مطرقة ، بقايا أشجار ، وعندما هبطت تبعثرت على مدى بغداد الرحبــة.......
- ((...............))
هبط ،جواد سليم ، من السماء مرفرفا بجناحين أبيضين شاسعين ، نشرا في شوارع يغداد شذى المسك ، وأنزلا على قلوب أهلها السلام. لم يذرف دمعا ، أو يتأوه ، بل شرع لحاله يلملم أشلاء بقايا ملحمة حريته ليعيد صياغتها. وفي غمرة انهماكه بالعمل ، اكتشف نصف جمجمة فارغة ، لاتنتمي للملحمة ، مرمية على قارعة الطريق ، ترنو ، بعين ضيقة وحيدة ، نحو السماء في انتظار أن تهبط الحوريات ليحملنه الى الجنة ، بينما في الافق ، الافق الشاسع البعيد ، كانت شمس جواد السومرية تبزغ من جديد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب


.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو




.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق


.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس




.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم