الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سحر التدثر بالكتابة

سامر أبوالقاسم

2022 / 4 / 7
الادب والفن


للكتابة طعم يفوق التمثيل العقلاني لعلامات ورموز اللغة المتداولة، وحين تمتزج بعبق الوطن تسمو على كل تلك الهياكل المشيدة للغة من مفردات وقواعد، وتصبح ذات مفعول سحري في انكشاف الدول وتطور الحضارات والارتقاء بالثقافات، واستكشاف أسرار الغموض الكامن في ثنايا المعرفة البشرية، والاهتداء إلى سبل تنظيم وإدارة المجتمعات.
فهي تشكل تجسيدا مرئيا للأحاسيس والمشاعر، وتلعب دور فضح الحاجات والانتظارات والطموحات، وتمثل جسرا بين دلالات ومدلولات مفهوم الحياة، وقنطرة عبور للتعرف على مكنونات العيش المشترك.
وهي بذلك عابرة لكل معاني اللغة والفكر والقيم والتفاعلات والعلاقات، عبر متاهات مفضية إلى جعل الأشياء والموضوعات ظاهرة ومتجلية، في عملية جد معقدة من تقمص للممارسات والمصالح والحسابات والأغراض، وكذا الدروس والعبر.
وإذ نلجأ إلى التدثر بسحر الكتابة، فلسنا مدعين جعلها متجاوزة لمعنى الواقعية، بغرائب صورها الإبداعية وتكويناتها الفنية، أو لخلق نوع من الدهشة الوجودية، بل فقط لاستحداث مضامين ومدارات لحكايات وأطوار وأبطال وشخصيات بنكهة التمرد والعزوف عن الثابت والمألوف.
فهل تسعف حدود الموهبة والمساحة في الوقوف على مربع الإبداع؟ وهل يمكن
لهذا العبور الخاطف أن يصل إلى مستوى تصوير علاقة ممكنة بين ضدي الواقع والمتخيل، ولو على نحو مجازي؟
على الرغم من معرفة مطبات هذه القضايا والأسئلة، إلا أن التوق قائم والعزم مشدود إلى كتابة ما يعرفه القارئ ويفهمه، وإن عبر معاني غير مدركة، لأن الحكاية في الأصل عبارة عن بداية ونهاية ومضمون ومعنى، متبلة بما قد يحتمل أحيانا خيالا جامحا أو شططا في النص، دون الخروج عن دائرة الإقناع والإمتاع.
يستحق الوطن كل الحب والعشق، إذ كلما دنونا منه أحسسنا بابتعاده عنا، لكثرة الوسائط، ومن ثمة فالكتابة تقرب من الوطن، وما أشبهها بعشق الصور وإقامة علاقة خارج النطاق، كفعل يندرج ضمن رغبة في المراوحة بين الشعور واللاشعور. وكأنها تمثل خوفا من الانتهاك ورغبة في الخرق، امتثالا لوحي ذي طبيعة روحية أو سحرية جائحة.
الكتابة بعيدة عن ذاك الإشكال الوجودي، الذي يحتار بخصوصه المرء عند نقطة البدء، أهو للجنة أم الكلمة أم الفعل؟ لكن وضعها الاعتباري يجعلها في مقام تلك الشجرة المنغرسة جذورها في الأرض والممتدة عبر سيقانها وغصونها في السماء.
وما عسانا فعله في غمرة اللقاء بالعالم، إن لم نكن نملك سوى الكتابة لمواجهته، دون الاكتراث بما إن كان ما نرويه صحيحا أم خطأ، ودون أي اعتبار لاحتمال الوقوع في المحظور. فالنية صافية وخالصة في الإحسان إلى الوطن، ومخرجات الكتابة غير متحكم فيها لانعدام الضمانات.
فأن نكون شعبا معناه أن نمتلك هوية جماعية قوية مستوعبة لمبدأ الاحترام الوضعي، كنبع لقيم التضامن والالتزام بخدمة مشروع مشترك وتحقيق ما يتم الوعد به، في فضاء يشترك الناس الأحرار فيما بينهم. وأن نتفادى الوقوع في كذبة الاستغلال أو كذبة الرداءة، الرافضتين للعدالة والكرامة.
وأن نمتلك فكرا معناه أن نتمكن من خطة تأمل في الحضارة والوجود وأشكال التقويم، بما يقف سدا منيعا في وجه أي انقلاب على جميع القيم. لأن الديمقراطية كاهتمام بالوجود المشترك لا تنتمي إلى نظام الخيرات المتبادلة فقط، بل بكل ما يمكن تبادله ولو كان خارج مدار القيم القابلة للقياس، خاصة إن كنا مستحضرين للتعدد والتنوع في الهويات. فهي شكل من أشكال الإنسانية اللامتناهية والمعبرة عن ذاك الوجود المشترك، والتواقة إلى أن تولد الإنسان من جديد.
وليست الإثارة في هذا المقام قصدا ولا هدفا، إلا بقدر ما هي إدهاش للقارئ وأخذه إلى أبعد من إطار هذا النص. وهو ما يجعل الرهان قائما على جعل القارئ في وضعية إقناع نفسه بأنه أمام عالم مختلف.
فالكتابة ذوق بكل ما يحمله من معاني الجمال والأنانية، التي ترفض أن تجعل من الرياضيات منطلقا لتقييم الرؤى الوجودية، وأحكام الجمال غير قابلة للتوسط أو التفاوض، لأن الأشياء الجميلة لا يكتشفها إلا الذواقيون. والجمال على هذا النحو لا يأمرنا سوى بالاستحسان والحب كتأثير غير مدرك عن طريق المنطق.
وكما أن الكتابة صنعة لا مجال فيها للتصنع، فالوطن إحساس لا يتسع للتبجح والمزايدة في سوق الاتجار.
هناك قلق من مآلات الوضع، بعد تاريخ طويل وعريض من الدينامية، وما أفرزته من فسحة للأمل في مستقبل مشرق. قلق مزعج إلى حد رجوع التساؤلات القديمة حول الأهلية الاجتماعية والثقافية لنمط الديمقراطية التعددية.
فللتحول الديمقراطي مصاعب كثيرة مرتبطة بهندسة البناء السياسي ككل، بدل الاكتفاء بتنظيم انتخابات حرة وشفافة. والأزمة السياسية معقدة، خصوصا مع تراجع المطلب الديمقراطي في مقابل إعطاء الأولوية لمواجهة الإرهاب ومخاطر انهيار الكيان الوطني أمام مختلف الجوائح القائمة والمحتملة.
فما بين استبدادية مطلقة وديمقراطية فوضوية، قد توجد مساحات لديمقراطية داعمة للحمة الاجتماعية، ومستندة إلى توافق وطني صلب وثابت، خاصة إذا ما تم استحضار عنصر تقويم التصور الخاص بالعلاقة بين مطلبي الحرية والمواطنة، وتفادي اختزال الممارسة الديمقراطية في آلياتها الإجرائية ونماذجها القانونية.
وبقدر ما لهذه الآليات والنماذج من أهمية في تنظيم التعددية السياسية والتعبير عنها، بقدر ما لها من قدرة على التحول إلى وسائل لتشريع السيطرة، في غياب ضوابط تضمن الحرية وتحمي التنوع والتعددية.
فتعرض المؤسسات للتجاوز والانحراف، وسقوط المجتمع في حالات التوتر والتأزم والاحتقان، علامات للقصور الفادح في تجارب ومقاربات وسياسات العيش المشترك، كمجالات ودوائر للاعتراف والتعايش والحوار والتعاون والتعاضد، التي تكرس تماسك وصلابة النسيج المجتمعي.
للكتابة سلطة ما ورائية تتجاوز صاحبها، حين يتكلم وقت اشتهاء الآخرين للصمت، وحين يختار التنفيس واحتراف التفريج في وقت لجوء الآخرين لاستبطان كل ما يعتمل في الدواخل من تضارب للمشاعر والأحاسيس تجاه الوطن.
الوطن أسمى من أن يختزل في فرصة لكسب الأصوات وحشد الجماهير لتقوية مركز في السلطة عن طريق الاستعراض والتلاعب بالعواطف، وهو أرقى من أن يتم اختصاره في تسخير هذه الفرصة للزيادة في الثروات والملكيات ووضع مصلحة الناس في أدنى قائمة الاهتمام. بل هو أرفع مقاما من القيام بخدمة التعتيم على القضايا الجوهرية والتركيز على التفاهات الإعلامية وأخبار النجوم.
الوطن، كما عهدناه، يرفض تجهيل البشر وترويج نظريات المؤامرة، ووضع رأي المثقفين والعلماء في خانة الهراء أو المؤامرة الدنيئة الهادفة إلى تهديد العيش السلمي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا