الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيروس البؤس الإنساني

سامر أبوالقاسم

2022 / 4 / 8
الادب والفن


كشفت التحاليل المخبرية، عن وجود حالة إيجابية لفيروس البؤس الإنساني، وتم الوقوف على بؤر وبائية داخل المؤسسات والإطارات. ويبدو أنه كلما حصل في مرحلة من المراحل نوع من التعافي من الفيروس بفعل محاولات طي صفحة الماضي، وكلما تقدمنا خطوة أو خطوتين إلى الأمام حتى لا يتكرر ما جرى، إلا وعاد للظهور بشكل متحور. وفي كل طور يترك من التداعيات والندوب ما يصعب إبطال مفعولها، وتصبح ملازمة للحاضر والمستقبل.
ومع ذلك، لا زالت الفكرة حاضرة وحية بكل تفاصيلها وجزئياتها. فالأمل شعلة متوهجة فينا، وأملنا هو وطن يضمنا بصدر رحب، ولا ينزعج من تمردنا، ويمنحنا ما نستحق لتجميل حياتنا، ويترك فسحة لإضاءات الفكر والوجود والإنسان، ويحملنا على عشق الحياة وحب الخير وتقدير الجمال وإشاعة المحبة بين الناس.
إذ ليس الألم نظرية بشرية مجردة، لكنه شعور وإحساس بالمعاناة، يعاش وقد لا يوصف. وليس قدر العيش أن يرتهن للأزمات التي تتوعدنا، وإن كان القليل منها مفيد لإنعاش الحياة. وليس من الإنصاف أن تقبض هذه الأزمات أحلامنا وتحرمنا من مستحقات العيش الآمن على قدم المساواة.
ما أروعنا بالسبق في مضمار التنافس البشري، حين اهتدينا لطريق اختراع مصانع سرية تتجلى فيها قيمة التستر عند الابتلاء، وحين فسحنا المجال لتنافس العصابات للاستحواذ على الأسواق، وحين هيأنا شروط التعاون لشبكات المهربين، وحين وفرنا فرصا محترمة للاستثمار في اقتناء أدوات النصب والاحتيال، للمساهمة في تغيير مسار الأحداث والوقائع، والحصول على علامات التميز الخاصة بترك المواطنين عالقين بالداخل.
الحياة لا تقتضي سوى أن تعاش داخل وطن دافئ، بما هي فن للعيش المشترك، وبوصفها شكلا من أشكال الإنسانية اللامتناهية، ليقع الإحساس بالوجود الذي يواجه غياب معناه النهائي.
فالأزمة المتولدة عن ضمور المجال العمومي وانحسار دوائر المواطنة الدامجة، تطرح مشاكل على مستوى الانزياح بين مقتضيات هوية المواطنة القائمة على المساواة وهوية المجموعات الضيقة المستندة لعصبيات السلطة والمال كعائق جوهري للمشاركة.
وما عساها تكون تلك الوسيلة الفعالة لضبط العيش المشترك وتوطيده، في ظل واقع يعاني من التوتر ويخيم عليه شبح التأزم والاحتقان، في غياب الاعتراف والتعايش والحوار والتعاضد، وفي ظل مؤسسات معرضة للتجاوز والانحراف؟
التعثر في الإصلاح وغياب النقاش العمومي حول ضمانات العيش المشترك، وبروز ظواهر التحلل والتفكك، كل ذلك يحول المجتمع إلى بؤرة لتأجيج الأزمات.
فأن نعمد إلى استكشاف كيف تجري الأمور في محيطنا، وبطريقتنا الخاصة، معناه أننا توجهنا إلى اختيار الطريق المهمل المليء بالأشواك، والدخول في غمار تحدي الذات والواقع طالما هناك حلول غير فعالة. ومدلوله أننا استكملنا المسار بالوقوف على الأقدام بالرغم من توالي نوبات الإخفاق.
وكما أن للإنسان قوة جبارة في مواجهة الطبيعة بكل مكنوناتها ومكوناتها، فإن للبؤس الإنساني أحزانه، ولو أنه ليس من صنعنا، بل وعلى حساب راحتنا وصحتنا ودمائنا.
فيحدونا الفضول، دون جدوى، لمعرفة أسباب عدم القدرة على الارتقاء بالفعل، ومسببات الانحطاط المستمر، وخلفيات الصراعات المزمنة، ومنطلقات ومآلات تزايد مظاهر البؤس لدى الإنسان، على النقيض من الاستقرار الحيواني في إطار تصارعي منطقي ومحدد وفق احتياجات غريزية.
ونتساءل، باندهاش كبير، عن تزايد نسب الانتحار والانحراف والتطرف، ونستغرب لوجود حالة من الاستسلام العام، والاستكانة للأوضاع، وخفوت صوت الضمائر الحية، والتراجع عن القيام بمحاولة تقويم الاعوجاج.
وبدل اعتلاء صهوة الطموح، والمجازفة بركوب موجة التفاؤل، نجد أنفسنا في قلب إعصار جارف من الترويض والتطويع، حتى لينتابنا شعور بأن الواقع لا يمكن تغييره بالتخيل، وأن جهود التفكير في التخلف والإصلاح لا تؤدي في نهاية المطاف إلى فهم حقيقة التاريخ.
كيف لا، والكرامة أصبحت قابلة للتفاوض ولو بدون حد أدنى للعيش من دون مشاكل، والعدمية أصبحت عملة للتداول على أوسع نطاق، والتيئيس علا شأنه في بورصة القيم، والأراضي المسترجعة تبخرت بقدرة قادر في سوق مزادات المال والمناصب العليا، والثروة الوطنية صارت موضوع رهن بالمؤسسات المالية.
لم يعد المواطن يملك ما يعطيه، وبات في وضعية انتظار عطاء قدر شحيح لسد ثقوب جيوبه، التي لم تعد في حاجة إلى ترقيع بقدر ما تنتظر فصالة وخياطة بشكل مغاير.
وصار الوطن في حاجة إلى فن ربط قطع قماشه، وتصميم منسوجاته، بما يكفل إلباس مواطنيه وسترهم وتدفئتهم وملء جيوبهم. أما أصحاب المصالح فما عدنا في حاجة إلى فاعليتهم الاقتصادية، بل فقط إلى تحريك حساباتهم الظاهرة والخفية لفك ارتباطهم بالمال العام.
تأثير جائحة البؤس بات واضحا في الممارسة اليومية، وعبر تزايد اضطرابات القلق العام واضطراب الوسواس القهري والخوف من الإصابة وحالات الاكتئاب، وما يترتب عنها من تفش للعنف الأسري والزوجي وارتفاع معدلات الطلاق.
فالهشاشة وعدم القدرة على التكيف مع المستجدات، المترتبة عن الجائحة، كلها عوامل ساهمت في استفحال هذه التأثيرات، وفي انتشار حالة مزاجية سيئة، وفي ردود فعل انفعالية على أبسط الأمور للكثير من الناس، وفي تأثير ذلك على الحياة الشخصية والمهنية للأفراد، وعلى جودة الحياة اليومية وتوازن العلاقات.
وبفعل فيروس البؤس، تحول التوتر والقلق من الوضعية العامة إلى تزايد الوسواس والأفكار القهرية، التي تحول دون ممارسة الناس للأنشطة الحيوية، وتعيقهم في حياتهم، وتسبب في معاناتهم، وتغير سلوكياتهم ومزاجيتهم ونمط تفكيرهم بشكل فاضح.
وقد أثرت هذه الحالة على كل المنظومات وعلى الكثير من المستويات؛ الصحية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والأسرية، وصولا إلى الأزمات النفسية والعقلية.
وإذا ما استشرنا خبيرا في الحياة اليومية، فبالضرورة سينصحنا بالبحث عن سبل الحفاظ على الأنشطة التي تمنح الأشخاص جرعات من الفرح والمتعة، وتساهم في التخفيف من الضغوط والإجهاد، والتخطيط للمستقبل بعقلية متفائلة وواقعية، واستثمار بعض الإيجابيات، التي تمخضت عن الأزمة والاعتناء بالعلاقات والتفاعلات. لكن، وللحقيقة والتاريخ، فإن إكراهات الموازنة العامة لا تترك للحكومات مجالا للتصرف!
نعم، للاعتدال وظائف ومنافع وفضائل من ميادين النشاط الإنساني. وهو يحيل على معنى التوسط بين السرعة والبطء، وعلى الاستقامة في التموقع، وعلى الليونة بدل التشدد والتطرف.
وهو بهذا المعنى نوع من الانحياز إلى ما هو حق وصواب ومدر للمنافع، وهو أخذ بالمصالح وتركيب للأمر على النحو المتفق مع طبيعته، في حدود الكافي والمناسب وبلا إفراط بالزيادة ولا تفريط بالنقص. وهو بعيد عن معنى الحياد الذي يقوض أسس الانتظام طبعا.
الاعتدال سعي إلى تحقيق المصالح بلا إضرار؛ لا بالذات ولا بالغير ولا بما نقوم به من أفعال ونتخذه من قرارات. وهو على النقيض التام لاتجاهات المغالاة والسطحية والاندفاع والبلادة والحماس وتفويت الفرص.
وهو محكوم بمبدأ التناسب. فتركيب أي شيء ينبغي أن يكون متوازنا في ذاته، ومناسبا لأغراضه ووظيفته. والعلاقات هي النموذج التجريدي للتناسب والتوازن. لكن، ومع ذلك، فإن الاستثناء ملازم لأوضاع الحياة عامة، ولأوضاع الإنسان خاصة، وعليه فإن هناك حدودا للاعتدال.
لا اعتدال في حب الوطن والمواطنين، ولا اعتدال في شأن الجهر بالحقائق، ولا اعتدال في الدفاع عن الذات والذود عن الكرامة، ولا اعتدال في العبقرية.. فهناك من المجالات ما لا يسمح فيها بالاعتدال.
فالبؤس الإنساني أصبح متحورا. وعلى الرغم من أننا لسنا من خبراء علوم الأحياء، أصبحنا أميل إلى الاعتقاد بكونه متحور وراثي / جيني، أصبحت له أنواع فرعية من الكائنات الحية الدقيقة التي تتمايز وراثيا عن السلالة الرئيسية بعدد من الطفرات التي عرفها التاريخ الإنساني.
وبذلك أصبح للبؤس سلالات قائمة بذاتها أكثر عدوى، تنذر بتشديد القيود وإجبار الناس على حظر العيش والتنقل. وقد كان ذلك متوقعا منذ بداية تفشيه، بالنظر إلى أنه أصبح متمكنا من الالتصاق بفاعلية أكبر مما كان عليه الأمر في مفاصل المجتمع.
ويبدو أن جهاز المناعة البشري ضعيف للغاية أمام هذا البؤس، ويفتقر إلى الأجسام المضادة الكفيلة بضمان فعالية ضد هذا الفيروس.
وما يدعو إلى القلق أكثر هو أنه أصبح أكثر فتكا بالفئات الفقيرة والهشة والمهمشة، إضافة إلى احتمال كبير لتكاثر سلالات هذا الفيروس أكثر مع مرور الوقت، فيصبح التنافس على تدبير الشأن العام حلا من الحلول الفردية للتخلص من تأثيراته وتداعياته، في ظل فشل الإديولوجيات واندحار نظريات الاقتصاد السياسي كما يسوق له حاليا، وأمام إرادة إنسانية هشة منساقة للرغبة في بذخ الاستمتاع بالحياة كما هو واقع الآن.
تتناسل الأسئلة في واقعنا، وننساب معها في بحر من التخيلات، يرمي بنا إلى شواطئ البحث عن الإلهام بالعودة إلى الطبيعة، وكأننا هرمنا دون الوصول إلى تلك اللحظة التاريخية.
فكيف نجرؤ على تفسير اختفاء التضامن في حالات اشتداد الفقر والعوز؟ وكيف لنا أن نبرر الثمن الذي قد تؤديه الأوطان مقابل الخلافات غير الخاضعة لأي تقدير أو تقييم لحد الآن؟ أوليس للوطن قلب محروس بكاميرات خفية تشعره بأن الحياة باتت صعبة وغير مريحة، والبيروقراطية أصبحت خانقة، والانتظار في الصفوف لا زال طويلا ومملا؟
يكفينا الوقوف على طرق التحكم، وكيفيات إصدار الأوامر، وغياب الاعتناء بالضعفاء حتى في لحظات المرض واشتداد الأزمات، ومعاناة استعمال النقل العمومي، وانعدام إمكانية القيام بخطوة خارج الأعراف، لنحس بالاختناق والرغبة في التمرد على كل ذي مكانة ورفعة داخل المحيط.
وفي الوقت الذي تعرف أعداد الإصابة بفيروس البؤس الإنساني مستويات قياسية، لا يزال الإقدام على تمنيع المجتمع معلقا، ولم يصل الإدراك بخطورة الوضع إلى المستوى المطلوب. بحيث لم تتمكن الحكومات من محو الأمية ووقف نزيف الهدر المدرسي والجامعي، وتمكين الناس من الحق في الشغل والصحة والسكن. علما بأن الموجة الجديدة من الاستعباد تتسم بالسرعة الكبيرة في الانتشار، والجميع مشدود إلى بلوغ الذروة للتعافي من تداعيات الجائحة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح