الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما هو هذا النظام الدولي القائم على القواعد؟

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2022 / 4 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


تخرق حرب بوتين في أوكرانيا القواعد ، لكن هذا ليس حكراً على روسيا، إذ غالباً ما تقوم الدول القوية بذلك دائماً. وبعيداً عن صور الموت ، لا يزال يتعين، علينا، بناء نظام عالمي عادل.
سيمون واكسمان
ترجمة: محمود الصباغ
قدّم فلاديمير بوتين، بإعلانه أن روسيا ستكثف عدوانها الذي دام ثماني سنوات ضد أوكرانيا من أجل "القضاء النازية" وحماية المتحدثين الروس المضطهدين (إقرءها: الانفصاليون الموالون لموسكو)، أضعف ذريعة لحرب عبر الحدود منذ العام 2003 عندما قامت الولايات المتحدة بغزو العراق. ولكن هذا لم يمنع هذه الأخيرة من النظر، رسمياً، إلى روسيا باعتبارها تقوض النظام العالمي القائم على القواعد والذي يفترض أنه ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
مما لا شك فيه أن هدف بوتين الحقيقي أبعد ما يكون عن الأهداف الإنسانية. إذ يتعلق الأمر أكثر بقمع الديمقراطية في مجال نفوذ روسيا – تلك الديمقراطية التي يجعل مجرد وجودها من طغيانه أكثر وضوحاً وبغيضاً في الداخل. وإذا كان من الواجب إدانة غزو أوكرانيا بأشد العبارات الممكنة. فإن هذا لا يمنعنا، في ذات الوقت، من تجاهل ازدواجية موقف الولايات المتحدة وحلفائها ، وذلك لعدة لأسباب، ليس أقلها أن هذه الازدواجية هي عنصر أساسي في دعاية بوتين. يكذب بوتين بشأن أشياء كثيرة، لكنه على حق عندما يقول إن الغرب يُلزم روسيا بمعايير لا يلتزم هو نفسه بها - وهي شكوى يبدو أن الروس يتشاركونها على نطاق واسع وتضفي على حربهم غير العادلة وغير القانونية زخارف من شرعية ما.
لا جدال في أنه ، من الناحية العملية ، لا وجود للنظام العالمي القائم على القواعد الذي تنادي به الولايات المتحدة والذي أثاره كل من منتقدي روسيا والروس. فأين كان هذا النظام العالمي في العام 2003؟ أين كان عندما قصف الناتو يوغوسلافيا في العام 1999؟ وعندما قصفت الولايات المتحدة ليبيا في العام 1986؟ وعندما دعمت الولايات المتحدة انقلاباً في هندوراس في العام 2009 ، أو انقلاب إيران في العام 1953؟ أين كان هذا النظام ، في هذا الصدد ، عندما غزت روسيا جورجيا في العام 2008 ، لإسكات التذمر في الخارج؟ لقد استهدفت روسيا المدنيين آلاف المرات في سوريا بينما كان بقية العالم يغط في نوم عميق. لم يقم الناتو ولا الولايات المتحدة ولا روسيا بما سبق من إجراءات بموجب ميثاق الأمم المتحدة أو الاتفاقيات الأخرى التي تحكم قوانين الحرب، وهي العمود الفقري للنظام العالمي المزعوم. لقد قيل لنا أن النظام العالمي ظهر إثر هزيمة ألمانيا في العام 1945 ، ومع ذلك وُلد هذا النظام ميتاً. يتذكر العالم بكل سهولة محاكمات نورمبيرغ ، مشروع الحلفاء لتقديم مجرمي الحرب النازيين للعدالة ، لكننا ننسى مدى انتقائية هذه العدالة ومن جانب واحد. ننسى كيف أنقذ الحلفاء مجرمي الحرب ، بمن فيهم أولئك الذين قصفوا مدناً في أوروبا واليابان، وارتكبوا مذابح جماعية ضد المدنيين. لم تأخذ العدالة مجراها لمحاكمة المتعاونين مع حكومة فيشي الفرنسية. ويتجاهل جميع المؤرخين، باستثناء عدد قليل منهم، أكبر حالة تطهير عرقي ارتكبت على الإطلاق، عندما طرد الحلفاء، في أعقاب الحرب مباشرة ، أكثر من 12 مليون مدني ألماني من منازلهم وأعاد توطينهم بالقوة. وسُجن الكثير ، أثناء ترحيلهم، في معسكرات الاعتقال ذاتها التي ارتكب فيها النازيون إبادة جماعية. لقد مات نصف مليون، ولم يُعاقب أحد على موتهم.
مستوطنات فرساي التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، والتي كانت خاضعة للنظام الملزم بقوة القانون والتي يرغب بمثلها الآن المسؤولون والمعلقون الأمريكيون، لم تمنع لاحقاً من التسلح والتمويل الجيد. لقد أذنت ،عصبة الأمم، والتي كانت أحد أهم تجليات النظام الجديد، بالاستعمار البريطاني والفرنسي في الشرق الأوسط ، حتى عندما كان من المفترض أن يكون المبدأ التوجيهي للعصبة هو تقرير مصير الدول. وبينما كان الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون يتغنى بنغمة هذا المبدأ الصارم لتقرير المصير ، كان الكونجرس [الأمريكي] يرفض استقلال الفلبين، حيث أكملت الولايات المتحدة هناك حملة وحشية لمكافحة التمرد الاستعماري. وفلاديمير لينين، الذي كان بدوره مؤيداً قوياً لحق تقرير المصير، كان بالكاد قد تولى السيطرة على الدولة السوفيتية الجديدة عندما بدأ عمليات الضم القسرية لبولندا وأوكرانيا.
واليوم، لا تزال القواعد المزعومة تخدم ذات الغرض الذي طالما كانت تخدمه: تبييض الاختيارات المتعجلة للدول القوية. ضع في اعتبارك تطور التدخل الإنساني. تم دعم التدخلات الإنسانية في العديد من الحالات الماضية من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ، لكن الدول القوية في هذه الأيام لم تعد تنتظر مثل هذه الموافقة. نوايا هذه الدول المعلنة هي المبرر الوحيد الذي تحتاجه. أن رغبات الأقوياء قد تحل محل القواعد بحيث تحولت هذه الرغبات، الآن، إلى نوع من القاعدة، وغالباً ما يتم التعبير عن تلك الرغبات من منظور إنساني. ففي الوقت الذي كانت فيه إدارة الرئيس جورج دبليو بوش تروج للأكاذيب عن امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل، فقد بررت مهاجمة العراق لأسباب إنسانية. وفي سياق قصف يوغوسلافيا قام الرئيس بيل كلينتون، بدفع من هيلاري كلينتون، وهي من مشجعي سيادة القانون الدولي، وإحياء مبدأ تقرير المصير في الوقت الذي تندد فيه بانتهاكات حقوق الإنسان. فإذا كانت هذه الرغبات ،التي تحولت إلى قواعد، مفيدة وجيدة بما يكفي للولايات المتحدة، فلماذا لا تكون كذلك لدولة أخرى؟ ادعاءات روسيا بوجود دوافع إنسانية في أوكرانيا ليست سوى أحدث مثال على هذه الاستراتيجية، حيث يستغل بوتين القانون الدولي من أجل تدعيم أساطيره القومية. فهو يشتكي، على سبيل المثال، من أن أوكرانيا ليست "دولة حقيقية"، بل هي، في الواقع، جزء من روسيا انتُزعت منها بالخطأ. هذه لعبة منطق طفولية انحرفت عن مسارها. لأن الدولة الحقيقية هي أي دولة قوية بما يكفي للحفاظ على حكومتها وحدودها، وهي حقيقة يعرفها رئيس روسيا مثلما يعرفها أي شخص آخر. لكن تاريخ بوتين هذا، الملتوي والمنتقى بعناية، لاستقلال أوكرانيا في القرن العشرين له قوته ووجاهته لأنه يبدو أنه يضع روسيا في موقع الدفاع عن نظام القواعد الدولية. أن مثل هذا الادعاء الذي يمكنه اكتساب مؤيدين هو دليل إيجابي على أن القواعد توفر غطاء لأعمال المصلحة الذاتية للأقوياء. تخبرنا القواعد بما نحتاج إلى قوله من أجل تقديم ما يبدو كحجة جيدة - نوع الحجة التي تثير إعجاب المناصرين في الوطن، وتساعد الحاكم في الحفاظ على سلطته وتظل بلاده "حقيقية".
أما بالنسبة لمزاعم بوتين التاريخية القومية، فهي من الواضح، كما ظهرت، مزاعم سخيفة لامحالة . في خطابه في 24 شباط- فبراير الماضي ،الذي أعلن الحرب على أوكرانيا من أجل حماية "الوطن التاريخي" من أولئك الذين أخذوه "كرهائن" ، قدم بوتين العديد من الحجج المشابهة بشكل لافت للنظر إلى حجة هتلر في تبريره في العام 1938 لضم إقليم السوديت، الذي كان جزء من تشيكوسلوفاكيا. أعاد الروس، لتبرير هذا الرأي، كتابة تاريخ ليس فقط القرن العشرين بل حتى القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ففي كانون الثاني -يناير الماضي، وجهت وزارة الخارجية الروسية اللوم إلى "وزارة الخارجية البريطانية للتوقف عن الأنشطة الاستفزازية والتوقف عن نشر الهراء والتركيز على دراسة تاريخ خاقانية التتار والمغول". قد يكون هذا التصريح قد أصاب معظم العالم باعتباره تصريحاً متكلفاً بعض الشيء ، لكن الأمر في روسيا مختلف، إذ تظل فترة السيطرة المغولية في أوروبا الشرقية محكاً سياسياً قوياً.
واليوم ، يتم الاحتفال بقادة البلاط الموسكوفي، الذين استفادوا من حكم المغول ثم حاربوهم، كأبطال حق تقرير المصير الروسي – بل وحتى كقديسين ، في إشارة إلى اندماج القومية الروسية الوثيق مع المسيحية الأرثوذكسية. ولكن، كما توضح المؤرخة ماري فافيرو ، لم يكن هناك قط حكم تتاري مغولي. بل كان هناك حكم مغولي غير مباشر -طردت إمبراطورية المغول الغربية حكام كييف روس Kievan Rus ، ثم جعلت الأمراء الروس جامعي الضرائب- ولكن هذا كان لصالح الروس بشكل عام ، الذين ازدهروا تحت حكم المغول ، وللموسكوفيين على وجه الخصوص. بعيداً عن قمع الثقافة الروسية والإنجاز ، دمج المغول التجار الروس المستقلين والمدن التجارية الهامة مثل فلاديمير ونوفغورود في شبكاتهم الاقتصادية العالمية، مما أدى إلى إثراء العائلات التي ستقود ما يُعرف الآن الأمة الروسية التاريخية. قبل أن يقوم المغول بتمكين قادة موسكو وتنشيط اقتصادها، كانت العاصمة المستقبلية لروسيا عبارة عن قرية تتكون من خشبية متداعية ترتجف في ظل نوفغورود المبنية بالحجارة. تقول المؤرخة فافيرو: "الأمة التي يحتفل بها القوميون الروس، والكنيسة ، والمواطنون بشكل عام هي الأمة المرتبطة ببلاط موسكو ، والتي ساعد المغول على صعودها". "كان ثمة عائلة من موسكو [تنتمي لطبقة نبلاء]، هي عائلة رومانوف ، الذين أصبحوا أغنياء وأقوياء بما يكفي للسيطرة وحكم الدولة القومية الروسية الحديثة المحببة للخيال القومي الروسي. ومع ذلك، فإن تلك الأمة، المتصورة في مواجهة نير التتار، ربما لم تكن لتوجد أبداً لو لم يعطل المغول نظام الحكم في كييف ويفضلون عليه نظام الحكم الموسكوفي، ويرفعوها، أي موسكو، إلى قمة السلطة الروسية ".
النقطة ليست أن بوتين يتراجع عن تاريخه لأنه يعطي موسكو الأولوية على كييف. بل ما ينبغي ملاحظته، بشكل خاص، كيف بنى الروس إحساساً بالذات على أساس المظالم ضد الأجانب. يخطىء من يتهم الرئيس الروسي بالسعي لإقامة إمبراطورية إن بوتين وأنصاره قوميين وليسوا إمبرياليين. ما يهم ليس احتواء الآخرين بل احتواء الروس وتطهيرهم من التأثيرات الخارجية. لا تمثل أوكرانيا، بالنسبة لبوتين والروس الذين يشاركونه التفكير، مشكلة لروسيا لأنها ديمقراطية، أو لأن حكومتها تتمسك بالأمل في الانضمام إلى الناتو، بل تكمن المشكلة في كونها أوروبية: بؤرة أمامية لأوروبا في "الوطن التاريخي" للأمة الروسية. لقد أوضح بوتين هذه النقطة في خطابه يوم 24 شباط-فبراير ، حين قال: "لا تتعلق المشكلة، بالطبع، بحلف الناتو بحد ذاته، فالحلف مجرد أداة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة. إنما المشكلة في المناطق المجاورة لروسيا، والتي يجب أن أشير إلى أنها أرضنا التاريخية، حيث يتشكل هناك كيان "مناهض لروسيا". بالنسبة للقوميين الروس ، فإن فكرة احتمال أن تكون أوكرانيا أوروبية هي فكرة لا تطاق, وهي مثل فكرة الاستمرارية السياسية والثقافية للمغول , وحرفيا استمرار حمضهم النوي DNA .
الحرب التي تدور رحاها في أوكرانيا هي حرب قومية، لكنها مغلفة بنداءات النظام العالمي. من الضروري أن ينتبه الرأي العام العالمي إلى هذا -أن يدرك المواطنون الدور الذي تلعبه بروباغندا الأممية القائمة على القواعد، سواء أكانت أمريكية أم روسية أم أوروبية أم غير ذلك. حيث يتم زيغ الناس عن الحقائق في كل مكان والتلاعب بهم من قبل القادة السياسيين والشخصيات الإعلامية، الذين يتنافسون على خرق القواعد بدلاً من الاعتراف بأن اتباع القواعد كان دائماً اختيارياً لمن لديهم ما يكفي من القنابل والبنادق. وإذا كان هناك ثمة أمل في التغيير ، فإنه يكمن في الدافع نحو العدالة التي يفترسها دعاة البروباغاندا. حيث تنجح نداءاتهم جزئياً لأن الناس يتوقون إلى نظام دولي عادل وقواعد يتبعونها. في أعقاب المزيد من الموت والدمار ، سوف يكون الأمر متروكاً لنا لتحويل غضبنا إلى عمل جماعي والمطالبة ببناء مثل هذا النظام العادل في النهاية.
المصدر: https://bostonreview.net/articles/what-rule-based-international-order/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي... ابن لمغربي حارب مع الجيش الفرنسي وبقي في فيتنام


.. مجلة لكسبريس : -الجيش الفرنسي و سيناريوهات الحرب المحتملة-




.. قتيل في غارات إسرائيلية استهدفت بلدة في قضاء صيدا جنوبي لبنا


.. سرايا القدس قصفنا بقذائف الهاون جنود وآليات الاحتلال المتوغل




.. حركة حماس ترد على تصريحات عباس بشأن -توفير الذرائع لإسرائيل-