الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا يستحق محمد صفاء عامر لقب إمبراطور الدراما الصعيدية؟!

إيرينى سمير حكيم
كاتبة وفنانة ومخرجة

(Ereiny Samir Hakim)

2022 / 4 / 8
الادب والفن


قوبلت الأعمال الفنية للمؤلف المبدع محمد صفاء عامر، بلقب نقدي وهو إمبراطور الدراما الصعيدية، ولم يكن نصيب هذا الكاتب من ذلك اللقب مجاملة فنية، أو وصف مؤقت تزامن مع نجاحات أعماله، بل ظل هذا اللقب يترسخ ويتأكد حتى وقتنا هذا، وذلك باستمرارية نجاحاته، وقصور الأعمال الدرامية الأخرى عن الصعيد، التي عجزت عن عكس واقعه ومناقشة شؤونه بواقعية حيادية.

وإن كان هذا اللقب قد مُنح له عن استحقاق فهو عن استحقاق يعود إلى جوهر أهداف عامر من هذه الدراما الصعيدية التي تخيلها ودوَّنها، ويبزغ هذا الجوهر النبيل عند تخليه عن منصبه كقاضٍ على مشاكل مُجتمعه، ليدافع عن أبطال روايات تلك القضايا درامياً، الذين أصبحوا قصراً وجهلاً، تحت نير عادات وتقاليد اجتماعية توارثوها.

فقد كان عامر من أهم الكُتَّاب الدراميين الذين ركزوا في كتاباتهم على نقد العادات السيئة في صعيد مصر، والعمل على تصحيحها وتوجيهها، ولقد زرع ذلك الهدف في أعماله الفنية التي قام بتأليفها، خاصة المسلسلات التي تدور في تلك الأجواء الصعيدية، مُجسداً أحداثًا ومواقف تدحض أفكار التقاليد والعادات التي ساهمت في تشويه الشخصية الصعيدية، وساعدت في تقليل شأن الصعيد وتراثه الإنساني بما يحمله من إيجابيه وتميز.

ولد عامر في 22 يناير 1941م، ورحل عن عالمنا في 13 أغسطس2013م، وهو ينتمي لقبيلة "هوارة" الشهيرة في محافظة قنا، لذا كان استلهامه لكتاباته صادقاً، حيث نهل إبداعه من وحي هذه البيئة الخاصة التي جعلته يبرع في الكتابة عن الصعيد بصدق، لا عن خيال أو مجرد جمع لمعلومات أو دراسة، مناقشاً الشخصية الصعيدية وجوانبها بتعمق وتحليل شامل، عاملاً على تنقيتها من الشوائب، حتى لُقِّب بـ"إمبراطور الدراما الصعيدية".

ومن أبرز الأعمال الدرامية التلفزيونية التي قدمها: ‭"‬ذئاب الجبل"، "الضوء الشارد"، "الفرار من الحب"، "أفراح إبليس"، "حدائق الشيطان"، التي استطاع من خلالها أن يُقِّدم صورة واقعية لحياة الصعيد في جنوب مصر، بعيداً عن لغة الاصطناع والتقمص الباهت، الذي وقعت فيه أعمال درامية وسينمائية كثيرة، كما اتخذ من الصعيد وقضاياه محوراً لحركة الصراع الإنساني فيها.

وقد رأى الكثير من النقاد والفنانين أن الدراما الصعيدية، برزت على نحو لافت، إن لم يكن قد ولدت بشكل جديد على يد محمد صفاء عامر، فقبله لم تكن هناك دراما صعيدية بمعنى الكلمة، تُجسد ثقافة الصعيد وعاداته وتقاليده وقضاياه، وطرائق مأكله ومشربه، ولهجته ومصطلحاتها، فهو أبرز كاتب رسَّخ لهذه الدراما، وجعل لها رصيداً في ذاكرة المشاهد المصري وسط دراما القاهرة التي تصب على أبنائها فقط.

وفنياً قد تميزت دراما عامر بمقومات تفرد واضحة، حتى في لغة الحوار المستخدمة، التي جعلت الكثير من المشاهدين يبدأون في احترام اللهجة الصعيدية ومفرداتها، بعد أن كانت مرتبطة في وجدان المصريين بمفارقات المزاح والنكتة.

ومن ذكاء الموهبة وحسن إدارتها لدى عامر، أنه لم يجعل كتاباته هذه تقتصر في حكاياتها الدرامية على أهل الصعيد فقط من الألف إلى الياء، بل امتدت لتشمل المحيط القاهري، ومحافظات أخرى في الشمال، فقد ربط في مسلسلاته بين الصعيد والقاهرة ومحافظات أخرى مثل الأسكندرية التي كان قاضياً فيها.

فعلى سبيل المثال في مسلسل ذئاب الجبل، تقابلت البطلة "وردة" ابنة عائلة هوارة، الفتاة الصعيدية المتعلمة مع الشاب السكندري الذي أحبته، ومن ثم ترك كل منهما بلده في قصة حب متمردة على العادات والتقاليد بمساندة والدها المستنير، وسافرا إلى بريطانيا ليطَّلِعا على ثقافة جديدة، وليدرسا في جامعة أكسفورد، وقد تكرر الأمر نفسه في مسلسل "الضوء الشارد"، حيث تقابل فيه البطل "فارس"، بالفتاة القاهرية "فرحة" التي أحبها وتزوجها، ويشاء القدر أن تذهب هي بعد ذلك لتستكمل حياتها في الصعيد.

وقد تنوع هذا الجسر الجغرافي الإنساني، الذي يربط شمال وجنوب مصر ببعضهما درامياً وواقعياً في مسلسلات، "أفراح إبليس"، و"حق مشروع" و"مسألة مبدأ" وغيرها. وذلك كبوابة اصطنعها عامر، للتغيير ولاقتراح فرص الانفتاح الثقافي.

وثمة أهداف لعامر في كتابته عن الصعيد، فلقد ذكر أنه أقدم على كتابة الدراما الصعيدية، لإعطاء صورة صادقة عن هذا المجتمع الغامض بالنسبة للكثيرين، فقد وصف الصعيد بأنه عالم له سحره، وله غموضه وتفرده، وذكَر آسفاً أنه في الأعمال الدرامية العديدة التي تحدثت عنه لم يأخذ حقه، وغالباً ما يُسلَّط عليه الضوء بصورة ساذجة تثير سخط الصعايدة، فالصعيدي إما يُمثَّل أبله أو شديد القسوة بصورة جهنمية، وأضاف عامر بأن هذا غير حقيقي، ففي التحدث عن شخصية الصعيدى لابد وأن نُفرق بين القسوة والغلظة من ناحية، وصرامة الطبع وجفافه من ناحية أخرى، فالصرامة لا تعرف المجاملات التي تتميز بها المجتمعات الحضارية، وهذا لا يعني أنه لا يكون شديد الحس والرقة في داخله، بدليل أنه عند تأمل الفلكلور المصري، نجده أغلبه صعيدى في تراثه الفنى، وهذا يشير بقوة إلى أن الإنسان الصعيدي في داخله فنان بالفطرة.

ولهذا النضج الإنساني في موهبة عامر في الكتابة، وبسبب أهدافه التوعوية الصادقة، التي أحتلت أولوياته لا الربح، كان النجاح الساحق الذي حدث لأول أعماله الدرامية في مسلسل ذئاب الجبل عام 1992، ومن ثَم توالت النجاحات في أعماله الأخرى.
حيث لم يأت عامر بدراما منمقة متملقة لوجدان المشاهد، بل جاء بدراما قوية في المواجهة ناعمة في التأثير، كما عكس قضايا وأزمات في الصعيد متجذرة بكل صراحة وسلاسة، محاولاً في كل عمل أن يذهب بهدف تنقية الشخصية الصعيدية ومجتعمها من الشوائب، إلى أبعد مدى يُمَكِنه منه وقت المسلسل وحبكته الدرامية.

ومن الأمراض الاجتماعية التي حاول عامر مواجهتها في كتاباته، دوائر القهر والتطرف، الإيمان بالأعمال والسحر، الاحتيال بالأعمال الخيرية لأهداف سياسية، تشيئ الأنثى وزواج المصالح، النظرة العنصرية للمرأة، رصد ظاهرة الاختلال الأمني التي تمثلت في عدة مظاهر منها: سهولة القتل وتأجير القتلة - تجارة المخدرات والسلاح - مطاريد الجبل.

ومع هذا فدائماً ما كان يعطي عامر مؤشر للأمل في كسر القاعدة السيئة، حيث استخدم بوصلة آماله في الأحداث التي رسمها وعمل على توقعها، مشيراً بمؤشرها لكسر قوالب العادات والتقاليد السلبية، مُجسداً لهذا المؤشر مرة في صورة رجل ومرة في صورة أنثى، حتى يتيح الفرصة لتوقع الخلاص عن طريق كل منهما، والإمساك بزمام المبادرة وتحمل مسئولية المصير الصحيح بألمه ومجده، حيث جسدته مرة "وردة" بنت "الشيخ بدار" في ذئاب الجبل، ومرة كان "فارس" الأخ الأصغر لـ "رفيع بيه" ابن "العزايزة: في الضوء الشارد، فكانت "وردة" رمز لوردة شقت طريقها وسط أشواك بيئتها، و"فارس" هو الفارس الذي شق طريقه خارج بيئته متطلعا لحقيقة أفضل، وقد كان كلا منهما أخ وأخت صغرى لشقيق يحفل عالمه بحفظ العادات وتقديس التقاليد، حتى منها الذي يدهس المنطق ويتناقض مع الإنسانية، فكانا هما حجر العثرة في استمرار الجيل الأكبر بغشاوته، وكانا نقطة انطلاق لجيل جديد باحث عن حرية حقيقية.

كما اهتم عامر بالتركيز على نقطة التعليم في الصعيد بشكل عام، وتعليم المرأة بشكل خاص، بل والتشديد على ذلك في الكثير من نماذج أبطال وبطلات مسلسلاته، بداية من "وردة" في ذئاب الجبل، التي اهتم والدها الشيخ بتعليمها مواجهاً صعاب عدة، حيث أعطاها الثقة بالسفر بمفردها يوميّاً إلى قرية أخرى لمواصلة التعليم الثانوى فيها، مما أعطاها كرامة فعَّالة أرسَت لشخصية قوية، تمكنت من مواجهة عراقيل كفيلة بتحطم أي شخص مهزوز في أساسه النفسي، وكان هذا الرسم الذكي للشخصية ومسار الأحداث من عامر، لا يحث على تعليم المرأة فقط، بل هو توصية منه على التربية الحانية والمتفهمة من الآباء لبناتهم.

كذلك في مسلسل الضوء الشارد ركز عامر على أهمية التعليم، في اهتمام عائلة كبير العزايزة بإرسال ابنهم الصغير إلى القاهرة للدراسة، وحرصهم على إكمال تعليمه حتى الجامعة، وقد أوضح عامر في الكثير من تفاصيل الأحداث سواء في هذا المسلسل أو ذاك، مدى الفارق النفسي والشخصي بين شخصية من تعلم عمن حوله، وعلى سبيل المثال بين "فارس" المتعلم و"رفيع بيه" (أخيه الأكبر)، الذي لم يُكمل تعليمه مثله، حتى يتفرغ مع أبيه لتولي المسئولية من بعده، ليُمسِك بزمام أمور البلد ومقاليد إدارة شئون العزايزة معه، وأوضح عامر مدى تأثير التعليم على تعامل كل منهما مع سلبيات عادات وتقاليد بلدهم.

وبالرغم من واقعية عامر، إلا أنه كان حريصاً على توظيف العاطفة درامياً، كعامل أساسي للعلاج والتشافي للشخصيات، حيث قدَّم تفاصيل درامية دقيقة وتعبيرات في الأحداث، تُعبِّر عن مدى التأثير الإيجابي للحب على من تغير به، فمثلا في ذئاب الجبل عندما أحب "البدرى" قد تغيرت ميوله الثقافية والنفسية، وأصبح مستمتعاً بالفن، حيث أحَب الموسيقى والأغانى، وأمسى متفهماً لقصة حب أخته التي كان يبحث عنها لقتلها، وفى مسلسل الضوء الشارد شخصية "رفيع بيه"، كانت عاطفته تتحكم فيه للعدول عن بعض قراراته، وتغيير أفكاره وطريقته في تطبيق عادات بلدتهم.

فقد عبَّر عامر في منطقهِ الكتابي بكل إنسيابية وتسلسل مقنع في الأحداث، عن كيفية تحطيم كل العادات والتقاليد السلبية بكل عنفها، لدى كل من شخصيتي "البدرى و"رفيع" أمام الحب الذي قابلاه، ولم يكتف بهذا بل ركز في كل من هذين المثالين، وبقية أعماله على التعبير عن الانتقال من التشدد إلى الإنفتاح، ومن السلبية في الشخصية إلى إيجابيتها، عن طريق عامل كان من أهم العوامل التي رمى أساساتها في بناء الشخصية الجديدة، وهو الانفعال العاطفى، وكان دائماً ما يشير إلى العلاج بالحب بصوره المختلفة، وأكد كثيراً على أن جمود العاطفة هو بمثابة حجر عثرة في طريق إنطلاق الإنسان بشكل عام والشخصية الصعيدية بشكل خاص، نحو الإستمتاع بالحياة والتعامل معها بإنفتاح وإيجابية.

وهكذا تمكن عامر من تشذيب الشخصية الصعيدية، لتحويلها إلى ما في مخيلة أمنياته، فلم ينسخها بإخراجها من قالبها الصعيدى وجذورها لوضعها في قالب شخصية أخرى، إنما فقط تحويلها من جانبها السلبي إلى الإيجابي، محتفظاً بطبائعها وإيجابيات تقاليدها، نابذاً السلبيات التي تجرجرها إلى حضيض الأفكار والإنسانيات مرتقياً بمكانتها إلى ما تستحقه بالفعل.

وأخيراً نجد في تلك التوازنات التي بحث عنها الكاتب القناوي، بها فعلا ما يفيد بلده بل والمجتمع ككل، متجلياً في أعماله غيرته على ميراث بلده الانساني، مستخدماً موهبته في الكتابة وخلفيته البيئية، ليصنع مزيجاً رائعاً من الفن والرصد الإجتماعي، مُقدماً فنًا توعوياً، مُحثاً للشخصية الصعيدية بل والمشاهد عامة، على البحث عن إيجابياته لتفعيلها، بمواجهة السلبيات والأخطاء التي تبنتها، وتسليط الضوء عليها، واستعراض نقاط التحفيز والتشجيع للتمكن من التغلب عليها، محاولاً طرح بعض الحلول.

وبهذا يكون قد استطاع بالفعل أن يحقق هذا الإنسان هدفه الفني والإنساني، بأن ينجح في تحوله إلى مدافعاً عن أبطال القضايا الاجتماعية التي عُرضت عليه .. لا قاضياً عليهم!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل