الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ناصرية مكسيك (الجزء الثالث)

طارق حربي

2022 / 4 / 10
السياحة والرحلات


#ناصرية_مكسيك (الجزء الثالث)
#ادب_الرحلات
#طارق_حربي
في العاصمة مكسيكو سيتي وتُعَدُّ من كبريات العواصم في العالم، حيث تعدّى عدد نفوسها ال 20 مليوناً، العاجّة بالحركة والنشاط والعصابات، وصنفتها الأمم المتحدة في عام 1992 بأنها أكثر المدن تلوثاً على الكرة الأرضية، ويزورها نصف عدد السيّاح الذين يزورون المكسيك سنوياً، ويقدر عددهم بأكثر من 22 مليوناً، عليَّ حسب التعليمات الانتباه والحذر
- ألّا أخرج من الفندق في الليل وحيدا!
- أن أكون حذراً أمام الصرّاف الآلي، الذي لم أحتج إليه بعدما تعودتُ في سفري خلال أكثر من عشرين عاماً على حمل الدولار الأمريكي معي أينما سافرتُ!
- ألّا أستقلَّ سيارات الأجرة إلّا المرخَّص منها!
- ألّا أذهب بعيداً عن مركز المدينة والتجول في ضواحيها!
في صباح يوم 7 شباط عام 2019 وصلتُ إلى مكسيكو سيتي، وأول انطباع تكوَّنَ لديَّ، هو افتقار العاصمة المكتظَّة بالسُّكان، إلى بريق العواصم الغنية في أوربا وآسيا. فلا بهرجة ألوان، ولا مباني حديثة لها واجهات زجاجية نظيفة ولامعة، ولا سيارات فاخرة الطراز. كما لا يرتدي الناس أحدث موديلات الثياب الأوربية ولا ولا! كانت حالات الفقر بادية على وجوه الكثيرين من سكان البلد، فمنهم من افترش في الشوارع والأزقة والساحات الورق المقوى الوسخ المتهرىء! مثل الهنود الذين شاهدتهم في نيودلهي ومومباي، وناموا على الأرصفة وفي والحدائق أفراداً فقراء وعوائل!
***
الجذور الأصلية والماضي الاستعماري والحاضر بما فيه من حداثة، ثلاث لحظات تاريخية شكلت ساحة الدستور أو ساحة زوكالو (1). وتُعَدُّ ثاني أكبر ساحة في دول العالم، وأول ساحة في العالم الأسباني والقلب التاريخي للمكسيك. وقفتُ في منتصف الساحة حيث ركزتْ قاعدة العلم المكسيكي. وكانت إلى الشمال منها بقايا عاصمة حضارة الأزتيك (تينوتشتيتلان (Tenōchtitlan) التي شيدتْ في عام 1325 وأسقطها الغزاة الأسبان في عام 1521، وبنيتْ عليها العاصمة الحالية وفق معايير المحتل الأسباني. وأينما تيمم وجهك في ساحة زوكالو تجد عناصر الشرطة المنتشرين ببزاتهم سوداء اللون شاكي السلاح حاملين حقائب وأجهزة اتصال، وسياحاً أوربيين معظمهم من المانيا وهولندا وبريطانيا والولايات المتحدة، ورسامي بورتريترات، وشحاذين من كل الأصناف، من يُري الجالسين على المصاطب عبوات دواء طلباً للمساعدة، ومن يحمل طفلاً أو شخصاً من ذوي الاحتياجات الخاصة يستدر به عطف السيّاح والمكسيكيين ويشحذ به، أو يقدم نفسه مع صورة لعائلته شاكياً فقر الحال، وموسيقيين بقلانس محلية الصنع وشفقات ولحى يعزفون بحماس الشبّان، وبائعي حاجيات من ثياب وسكائر وحلويات وبالونات ملونة على شكل عنقود عنب ضخم مقلوب، وصبّاغي أحذية إذا لم يجدوا زبوناً اعتلوا عروشهم العالية وجعلوا يتصفحون تلفوناتهم المحمولة! تندفع في الساحة واسعة الأرجاء أفواج من السيّاح في كل الاتجاهات، ثمة العشرات منهم يتبعون المرشدين السياحيين الذي يرفعون أعلام بلدانهم أو شركاتهم السياحية، نحو كاتدرائية كنيسة مطرانية الكاثوليك في الجزء الشمالي من زوكالو، هناك يقع الممر الموصل إلى الهوستيل حيث أقيم فيه. بُنيتْ هذه الكاتدرائية على أنقاض معبد أزتيك، وهي مزيج من أنماط عصر النهضة والباروك والكلاسيكية الجديدة، ويقع القصر الوطني إلى الشرق. وإلى اليمين ثمة المباني الاستعمارية الأنيقة.
وقف في باب الهوستيل المطل على ساحة زوكالو حارس بِبزَّةٍ رسمية، كل ما كان يقوم به رغم انشغاله بهاتفه القديم النقال، هو فتح الباب الرئيس الحديدي المشبك للنزلاء وإغلاقه بإحكام وعينه على هاتفه! أظن أنه لا داعي لوقوفه في الباب، فقد كان لموظف الفندق المشغول بهاتفه القديم النقال أيضاً، قدرة على تمييز وجوه النزلاء من مكتبه الواقع في نهاية الممر الطويل، ما أن يُقبلوا على الباب الخارجي.
لم أفاجأ بطلب الموظف مني دفع دولارين زيادة بحجة الضريبة! وخلافاً لكانكون، انتبهتُ إلى وضع مُشَبَّكاتٍ حديدية إضافية على الأبواب الداخلية وتوصد بأقفال كبيرة ليلاً، فينتاب السائحَ شعورٌ بأنه سجين لدى إحدى عصابات مافيا المخدرات المكسيكية!
يحتوي فناء الفندق الباروكي المعتم الكئيب على نافورة صغيرة يتدفق فيها الماء هيناً، وتماثيل لنساء شبه عاريات، وكراسي ومناضد قديمة، وعدا ذلك فلا يوحي الفناء والممر الطويل بأي ترف، كالذي ينعم به السائح في هوستيلات النرويج وفنادقه.
لم تُعرْ إدارة الهوستيل أدنى اهتمام للزبائن! لا يوجد صابون لغسل اليدين في المراحيض على سبيل المثال لا الحصر، ولم يُشَدْ لفضلات الإنسان (سيفون) منذ أيام! ما يذكّر بمراحيض مستشفى الحسين التعليمي في مدينة الناصرية!
وجدتُ قُبَيلَ الظهر في قاعة النوم المشتركة عائلة دنماركية مكونة من أب وأم وفتاة وشاب، خمَّنتُ من قيامهم بترتيب الملاءات والوسائد بعد تغيير شراشفها أنهم وصلوا قبل قليل. تحدثتُ مع الفاتنة موردة الشفتين باللغة النرويجية وفهمتْ بنسبة معقولة ما قلته لها (لأن كلاً من اللغات النرويجية والدنماركية والسويدية متقاربة والشعوب في هذه الدول تفهم بعضها بعضاً إلى حد ما) قبل أن تَتَمَدَّدَ مع صديقها في السرير الأرضي، وتنحسر الملاءة البيضاء عن فخذها الأيمن فيبينُ بضّاً ناعماً. وتوزع على الأسرَّة من ذوات الطابقين سائح من كولومبيا بالغَ في نقش الوشوم على سائر جسمه. وفتاتان سحاقيّتان ممدَّدتان على سرير واحد بالغتا في وضع الوشوم على جسميهما أيضاً، إضافة إلى الأقراط الفضية والأساور القماشية الشريطية والجلدية، وقرط فضي هنديُّ كبير نوعاً ما تعلق في الأنف لكل منهما. وكندي من أصل هندي كان شغوفاً بزيارة مقاطعة واهاكا كما أخبرني. أما البقية فأوربيون عشاقاً وأصدقاء!
***
غادرتُ الهوستيل بعد الظهر لتناول طعام الغداء في مطعم مجاور مقابل ساحة زوكالو، حرصتُ على أن يكون مطعماً شعبياً أتناول فيه طبقاً من طعام التاكو المكسيكي المحلي، الذي لا يشبه كثيراً طعم التاكو الذي يتناوله السيّاح في المطاعم النرويجية والأوربية ويديره عمال ليسوا مكسيكيين!
والتاكو أنواع منها ما يعمل بلحم العجل أو الدجاج، وللنباتيين من الفطر والبطاطا أو الفاصولياء مع الجبنة، المُعاملة بشطائر من البصل والكزبرة، والملفوفة في قطعة خبز دائرية رقيقة تعطيها الصالصا طعماً لذيذاً. وقف العامل بصديرية بيضاء نظيفة أمام صينية ساخنة (الصاج) ، وهوى بسكين حادة طويلة على قطعة لحم ضرباً وتقطيعاً، وبعد ذلك فرش قطعة لحم عريضة ورشَّ فوقها الملح والتوابل، قبل أن يضع البصل الأخضر المغسول إلى جانبها. وتصاعد من شواية كهربائية نصبتْ في إحدى زوايا المطعم الكبير دخان الذرة المشوية بقشورها. وأكملتْ رائحة الصالصا التي تفوح من مكان ما في أنحاء المطعم الكبير المزدحم مزاج الجائع المنتظر، وما لبث أن مرَّ عامل ترك وراءه رائحة بصل فاحتْ من ماعون كان يحمله، وفي طنجرة كبيرة تُذكِّر بقصع الطعام في مطابخ الحرب العراقية الإيرانية في شرق البصرة، قام عامل أخر بتحريك قطع اللحم الكبيرة بواسطة ذراع خشبية، أصغر بكثير من (الكرك) الذي كان يحرك به عريف حسين حساء الجنود الجياع، الذين لم يعرفوا من سيموت لاحقاً، ومن سوف يبقى على قيد الحياة ولو إلى حين في عبثية الحرب التي دامتْ ثماني سنوات مجنونة! وبينما كنتُ أنتظر الطعام اللذيذ شاهدتُ من وراء الزجاج هنوداً حمراً، يجتازون بأكسسواراتهم وأبهتهم، حاملين آلات عزفهم النفخية وجيتاراتهم، ورجحتُ أنهم في الطريق للعزف في ساحة زوكالو، وما لبثتْ أن لحقتْ بهم مجموعة من السيّاح، ونفذتْ من خلال باب المطعم أصوات صافرات شرطة المرور الطويلة المزعجة!
ورق الصبّار والفلفل الأخضر الطويل وصلصلة الأفوكادو مع البروكولي وعصرة الليمون على لقمة التاكوس، كلها منحتْ الوجبة النمطية المكسيكية التي وضعها العامل أمامي على الطاولة طعماً جديداً.
منحني السفر فرصة تغيير نمط حياتي مكاناً وزماناً وطعاماً!
***
ما أن يَحلَّ المساء، حتى تغلق متاجر بيع المواد الغذائية أبوابها جزئياً، خوفاً من الُّلصوص والسطو المسلح. ووسط المشبك الحديدي، الذي يغطي واجهة متجر بيع المواد الغذائية المقابل للهوستيل، تُفتح نافذة مربعة بقياس 30 سنتمتراً، لا تُرى فيها غير الأيدي وتكفي لإبدال زجاجة ماء بالنقود! بما يُذَكِّرُ بنوافذ بيع الخمور في بغداد، خلال الحرب الطائفية في عام 2006 وبعدها، بما انطوتْ عليه من فظائع قتل باعة الخمور وهم مسيحيون آثوريون ومسلمون أيضاً!
يبقى المطعم المقابل للفندق وفي جوار المتجر مضاءً نابضاً بصِداح الموسيقى حياً بالرقص، تُعزف موسيقى محلية وترقص فتاة وفتى، كأجمل ما يكون عليه الرقص مروراً بين الطاولات، مصحوباً بتصفيق السيّاح الأوربيين خاصة. وما أن ينتهي العرض حتى تدور الفتاة على الطاولات تدعو من يراقصها من الزبائن، والفتى من تراقصه في ليل مكسيكو ستي المخيف، من مفاجآت اللصوص والعصابات، والموشى بأسياخ الحديد وعديد الأقفال!
في صباح اليوم التالي وفي الركن الشمالي المقابل للفندق، وقفتْ مجموعة من رجال الشركات الأنيقين، لاستقبال السيّاح واصطحابهم في جولة حول المدينة لمشاهدة معالمها، في حافلة انكليزية حمراء اللون ذات طابقين مثل التي كانت تسير في شوارع بغداد قبل الحروب والاحتلال. غير بعيد عنهم وقف نساء ورجال من الهنود الحمر بكامل حلل الرقص وعبادة الطبيعة، أقنعتهم الملونة ذات الأرياش، وقطع الجلود المنقوشة بزاهي الألوان، ويغطي الفراء الأبيض والبُني صدورهم، مُحَجَّلينَ بقواقع تصدر صليلاً منغوماً، كلما رقصوا أو تحركوا نحو السيّاح، لالتقاط صور مقابل ثمن. وحمل غير واحد منهم مباخر وتمائم، داروا بها على حلقة السيّاح المتجمعين حولهم. وكانتْ رائحة البَخور جدُّ خانقةً لمريض مصاب بالربو مثلي، فابتعدتُ عن مصدرها واقفاً عكس اتجاه الريح.
على الرصيف وسط الحلقة صُفَّتْ على حصير ملون، جمجمة تمساح وبيوض نعام كبيرة مثل التي كنت أشاهدها في أسواق مراكش وتباع لأغراض صحية، عظام حيوانات مفردة وقلائد مبرومة من عظام وحشائش وأحراش، وحليّ مصنوعة من الأحجار وأقراط للبيع، وجلس هنديان غير بعيد عن الحلقة، مفتوليَّ العضلات مع امرأة، لعمل مساج مقابل ثمن أيضا!
***
ومددتُ البصر ألمُّ أرجاء الساحة الواسعة فشاهدتُ القصر الوطني الذي بناه المغامر الأسباني هيرناندو كورتيس في عام 1547 ، على موقع قلعة مونتزوما الثاني إمبراطور الهنود الحمر، وكورتيس قاهر حضارة زابوتيك وفاتح أبواب الذهب والفضة أمام أسبانيا. كان للقصر الذي شغل الجزء الشرقي من الساحة، مهابة دولة ذات تاريخ عريق، وشعب عنيد في الصراع ضد الاستعمار الأسباني حتى نيل الاستقلال. ثمة رسومات حائطية للفنان دييغو ريفيرا تزين السلم الأوسط والطوابق النصفية، وفي أعلى المبنى يوجد جرس الاستقلال، يُقرع في يوم 15 سبتمبر من كل عام، وما تزال تتردد في الساحة أصداء صرخة الآلام للقس هيدالغو التي أطلقها في عام 1810 ، مطالباً المكسيكيين بتحرير بلادهم من الاستعمار الأسباني، واعتُبِرتْ أول نداء وطني، لخوض حرب الاستقلال المكسيكي ضد المستعمر الأسباني وكان في عام 1821، استلهاماً من عصر التنوير والثورات الليبرالية في الجزء الأخير من القرن الثامن عشر.
________________________
1. زوكالو وما يحيط بها من مباني قديمة بناها الأزتيك وبقايا حضارتهم تقع في طرف الساحة الجنوبي. زوكالو وتسمى ساحة الدستور أُعلن فيها أول دستور للولايات المتحدة المكسيكية في عام 1813، لكن كُتب دستور آخر في عام 1917 ، وعُدِّلَ في عام 2007. وكانتِ الساحةُ في ما مضى من القرون، مخصصة لمصارعة الثيران وتنتشر فيها الأسواق، وفيما بعد للتجمعات والتظاهرات والفعاليات الثقافية والاجتماعية، وسوف تشهد تظاهرة ضخمة لمناسبة عيد المرأة كما سنرى في سطور لاحقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة و17 دولة تطالب حماس بإطلاق سراح الرهائن الإ


.. انتشال نحو 400 جثة من ثلاث مقابر جماعية في خان يونس بغزة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصف 30 هدفا لحماس في رفح • فرانس 24


.. كلاسيكو العين والوحدة نهائي غير ومباراة غير




.. وفد مصري يزور إسرائيل في مسعى لإنجاح مفاوضات التهدئة وصفقة ا