الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما يشبه القص ( 3 )

اسماعيل شاكر الرفاعي

2022 / 4 / 12
الادب والفن


تتكسر الأقلام احتجاجاً كلما كتب شيئاً على الورق ، ويتطاير حبر المسودات . وكلما حاول ان يدون بعض ما عنّ بخاطره من افكار على صفحته الرسمية في الفيسبوك ، او في سواها من مواقع التواصل الاجتماعي : تعصف الرياح ، وتنفض الأشجار اوراقها ، وتغادر الأنهار مجاريها ، وتهتز اركان البلاد الاربع : عائدة الى الوراء ، الى ما قبل العصور الحجرية ، الى أزمنة الصيد وجمع الغذاء بكراً من الطبيعة …

منذ ولادته جر النكد على نفسه وعلى من حوله : جف ثدي امه ، وجف ضرع الارض ، وضرع جميع الحيوانات . وكاد يفطس من الجوع ، لولا ان جارتهم العجوز سمعت صراخه ، فتذكرت كلبتهم التي ولدت البارحة ، فنادت على الام من وراء الجدار الطيني الفاصل بين داريهما ؛ - يا حليمة ، يوجد حليب في ضروع كلبتنا ، وبأمكانك ان تسدي جوع الطفل منها . داخت الام عند سماع هذا النداء ، وبحركة لا إرادية تلمست نهديها ، وحنت جسدها ، ومدت يديها الى الارض ومشت على اربع مثل الحيوانات . شعرت وهي تمشي على اربع بضرورة استبدال أصابعها بمخالب : لتدرأ عنها انياب ومخالب الكلبة ، " وماذا عن الجراء " ، سألت نفسها : " ستستنفر الكلبة كل قواها ، ما ان تراني ، للدفاع عن جرائها " فردت على العجوز قائلة : " ستعضني الكلبة يا ام حسن " . جاوبتها العجوز بگحة طويلة تشبه نباح كلبة تلعب مع جرائها قائلة اجلبي "ممة " الرضيع معك . ومنذ تلك اللحظة سقطت القبيلة ، وسقطت المنطقة في ليل طويل من الجوع ، ولم يعد حصاد الارض بالوفير في فصول السنين اللاحقة .

لم تزود الطبيعة وجه هذا الرضيع بتقاسيم مشرقة ولا بشوشة ، ولم تمنحه ما تمنح الاطفال عادة من حركات وأصوات يتحبب بها الى نفوس مشاهديه . ظل اخوته يقفون على مسافة منه ، ولم تمتد اكفهم يوماً وتحمله الى صدورهم ، كان وجهه جافاً وعيناه مطفأتين ، وكان لون شفتيه يميل الى الزرقة التي تجعل الأصابع تنكمش قبل ان تمتد لمداعبته . وقد اخبر احد حراسه لاحقاً : بأنه لم يشعر بدفء العلاقة مع اي كان بشري ، وكان يحس بأن أصابعه تنحني على بعضها حين يدخل الزوار حجرته ، ويدنون من مقدمة مكتبه ، فيطلب منهم الجلوس وشرح مشكلاتهم : قبل ان تمتد اكفهم لمصافحته ...

ولم تستطع أمه كبت الروائح التي تتطاير من جسده وينفثها جوفه . ولم ينفع في علاجها : لا تحميمه المستمر ، ولا تعريضه لاشعة الشمس وتركه في الهواء الطلق لساعات ، وكان أقارب العائلة وأصدقاؤها لا يطيلون المكوث ، ينظرون اليه شزراً كما لو لم يكن موجوداً ، مع انه مرمي أمامهم في زاوية الغرفة ، ملفوفاً بقماطه السميك ، ولكنه لا يتحرك ولا تصدر عنه اية نأمة ، فلا يطيلون زياراتهم ويتراجعون الى الخلف كما لو كانوا يتراجعون عن جيفة هربت من رائحتها الطيور الجارحة . الا انهم يظلون لساعات طوال : كما لو انهم لم يغادروا حجرة الرضيع الطينية - يشمون روائح المزابل والإسطبلات ، اما امه فمنذ ولادته لم تخرج من البيت : لا الى مأتم ، ولا الى فرح : كانت تعي انها تحولت الى نافورة من روائح عطنة ، فاضطرت الى اعتزال فراش والده ، الذي هرب الى سكن الكوخ الصغير الكائن شمال البيت ...

ملحق
1 -
طوى الموت أسراره وحملها معه الى القبر . كان يعشق الموت الصامت ، ولا يحبذ النطق والحوار بعد الوفاة . ولذا لم يعلق ذاكرته امام الناس كشاشة عريضة ويدعوهم لقراءتها ، فهو لم يترك وراءه مذكرات ولا سيرة ذاتية ولا يوميات . لم يرد لاحد الاطلاع على الدوافع الكامنة وراء قراراته . لقد بث بين الناس بانه اتخذ قراراته بوعي وبارادة حرتين ، وان المتآمرين وحدهم يتحدثون عن وجود قوى أجبرته على ان يتخذ هذه القرارات ، ولا يتخذ ما يناقضها .
2 -
وحتى بعد موته يستمر السياسي في اكل حقوق الناس ، واول هذه الحقوق المغدورة هو السماح للموت بدفن اسرار نشاطه السياسي والحكومي معه ، مع ان ما اتخذه من قرارات وهو يزاول نشاطه الحكومي تظل ملتصقة بحياة الناس ، ولا تغادر معه الى الموت فهي ملكية عامة وليس خاصة .
3 -
لا الملك ولا رؤساء العهد الجمهوري : مارسوا كتابة اليوميات والمذكرات . لو فعلوا ذلك ، لنزعت الشعوب عن وعيها الكثير من الاوهام التي نشرها الساسة عن نضالات( هم ) وبطولات (هم ) والهام( هم) ، ولتلمسوا الاسباب والعوامل : الداخلية والخارجية الحقيقية ، ولكذبوا دعاية السياسيين الذين روج اعلامهم : ان مصلحة الوطن كانت وراء قرار تحويل رؤساء العشائر الى إقطاعيين ( الملك ومجلس نوابه ) أو قرار الإعدام للمعارضة عام 1948 ( نوري السعيد ) او قرار الانقلاب العسكري ( عبد الكريم وعبد السلام ) أو قرار تدخل الفقيه في مسار الصراعات الاجتماعية والسياسية ( آيات الله : محسن الحكيم وعلي السيستاني ) وقرار الحرب ( صدام حسين ) ، أو قرار عدم مواجهة الغزاة ( نوري المالكي ) .
4 -
كانوا جميعاً نرجسيين ، يعشقون ذواتهم حد العبادة ، منفوخين بالادعاء الكاذب بوجود قوى فوق طبيعية تمدهم بالإلهام والحكمة ، لكي يبرروا تقاعسهم عن عدم الكتابة عن أيامهم في الحكم . فهم يكررون القول بان شعوبهم ليسوا بحاجة الى مراجعة مذكراتهم وسيرهم الذاتية ، طالما هم ملهمين ومعصومين ، وهم في الحقيقة : خائفين من رؤية الناس لهم عراة من غير حجاب .
5 -
نرجسيتهم العالية توسوس له بان الآخرين اذا ما اطلعوا على ما كتبوه من يوميات فسيحولونها الى فضائح تاريخية . ومثلما حرموا شعبهم من هذه المعرفة الضرورية ، حرموا الباحثين من دراستها واستخراج الحكمة السياسية منها . صحيح انه توجد عندهم صفحات إلكترونية في الفيسبوك وتويتر وسواهما ، ولكنها صفحات رأي وصفحات دفاع عن مصالحهم الشخصية ومصالح احزابهم ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز


.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال




.. محمود رشاد: سكربت «ا?م الدنيا 2» كان مكتوب باللغة القبطية وا