الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كمّامّات يوزَرسيف ومسرح التحرير  

حسن عزيز الياسري

2022 / 4 / 14
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


كل ظاهرة اجتماعية تحتفظ بمضمونها وشكلها وتأثيرها على مجتمع ما خلال مدة زمنية  ، تكون متلائمة وحاجة ذلك المجتمع ، واما ان تكون تلك الظاهرة ( الفن والثورة بصورة عامة ) حاجة انسانية ، او انها تكون وسيلة لإشباع تلك الحاجة ، فالايمان حاجة والتغيير حاجة وكذلك التعبير والتمثيل والتأليف والاخراج والرسم والنحت والتشكيل والزخرفة ، حاجات انسانية ، يبحث عنها البشر في أعماق فطرتهم ويسألون عنها ويرغبون فيها ، ويميلون نحو ابرازها في ذوق فني  وجمال ظاهر ، على ان الجمال غاية لادراك مساحة تلك الظاهرة ، وهو ما يجعل الفن ميل فطري ، يكتسب تأثيره على المُشاهد من خلال وعي المؤثر الذي يُصنع ذاتيا بتكوين اطار شخصيته الابداعية ، حيث يضيف المؤثر طابعه الشخصي اليه ،
ولهذا نجد فنا خالدا ، اضاف اليه الفنان شكلا من روحه ووهجا من تألقه والشيء الكثير من إبداعه ، 
وهو السر الذي يجعل فنا مؤثرا دون فنا آخر .

فمن يكتب لغته بحبر دمائه ، ليس كمن يكتب لغته بحبر الورق ، فالثاني متوفر للجميع ، بل هو أداة الجميع ، ولكن ما يميز الاول ، روحه الظاهرة وهجا ً وشعاعا ً ، فتثير الحماس وتُجسد النور وتحصد البؤس وتزرع الفرح زهوا وسرورا ، وهذا هو الفرق بين وجدان الفن ووجدان العاطفة .

(( وهنا ، يكمن الاختلاف الاساسى بين الفن و الاحساس العاطفى ، فالاحساس العاطفى تنفيس عن المشاعر  ، ولكنه أيضا نوع من الارتياح و ارتخاء الوجدان . و الفن أيضا تنفيس عن المشاعر ، ولكنه تنفيس منشط مثير . فالفن هو علم اقتصاد الوجدان ، انه الوجدان متخذا شكلا جميلا )) *١

ولعل النظرة الى الفن - أي فن - من زاوية التأثير والبقاء خالدا ومؤثرا ، من عدمه ، هو ( كتأثير رائحة العطر من رائحة الماء ) *٢  .

 فمالذي يجعل فنا يختلف عن فن آخر ؟؟ ،، وما سمات ذلك الفن الهادر ، الذي يُبعث نحو الخلود ليبقى حيا ، وما هي سمات فن آخر ، يولد سريعا ، فيُعدَم  ويموت ؟؟
- مالذي يجعل فنا يبقى ، وفنا اخر يفنى في وقته ويتلاشى كالضباب ؟؟

(( يعرف الفن بشكل عام و بصورة مبسطة بأنه ما يجلب المتعة
ان التعريف المادي الحسي المجرد للجمال هو وحدة للعلاقات الشكلية بين الاشياء التي تدركها حواسنا 

فنحن نزعم دائما  ان كل ما هو جميل يكون فنا ، أو ان كل ما هو فن ْ ، جميل ْ ، و أن كل ما ليس بجميل ليس فنا ، وأن القبح هو نقيض الفن . )) *٣

-- تنهض المجتمعات من خلال بلورة مفاهيم حياة جديدة تصل بها من خلال وعي مسؤول يعمل على توزيعه حسب الحاجة الاجتماعية نحو البناء والازدهار -- روحا وفكرا -- وبإنسانيته نحو التقدم .  

-- مشاهد تمثيلية لمسرحيتين ظلتا عالقتين بذاكرتي  اثارتا شجون المشاهد والمتابع  آنذاك وسيطرت بأدارة دفة وعي الجمهور ، بتحكم مطلق ، اقيمت تلك المسرحيتين على الهواء الطلق وامام الجمهور مباشرة ، جمهورا  لا يدرك في غالبيته العظمى ، معنى للفن او للمسرح  ، تحدثتا عن مشكلة جيل احترقت احلامه واصبحت رمادا تَذَره احلام المتسلقين للسلطة ، هما فصلين دمويين بموقع تمثيلي مباشر واحد ، اسمه - مسرح ساحة التحرير -  .

-- العرض الثاني لا يزال له وقف بمخيلتي لا يرتحل ، ووقع شوق لا ينفك ، وصخب تساؤلات ظلت جاثية ، عند تلك المشاهد التي ترسخت في ذاكرتي ، واقترنت بها كبصمة ٍ حاضرة ٍ لا تزول ، تبعث للنفس الامل ، والزهو بالمكان والزمان والحضور ، المُحتفى به والمزدهى لاجله ، رونقا وابداعا وارادة وتحدي ، على تلك القطعة الثورية الصغيرة من المكان الذي اصبح رمزا للثورة من اجل التغيير  !!  والتي اتسع لها زحمة الحضور وقوفا ، لمئات الاشخاص الذين تجمهروا صامتين من حولها ، لمشاهدة المسرحيتين اللتان كانتا من نصيب فرقة فنون مدينة كربلاء المقدسة آنذاك في يوم الاربعاء الموافق  ١٨١٢٢٠١٩  ، على مسرح ساحة التحرير ، وكانت بعنوان (( حميد العربنجي )) والتي تَحدثت بإيجاز :
عن شاب خريج جامعي ، من احد المحافظات العراقية ، يملأه الامل بالحصول على عمل بعد التخرج للنهوض بواقع حال عائلته التي دفعته لمواصلة دراسته الجامعية بكل كد وعناء وتقصير على حساب نفسها ، فلم يجد امامه ، سوى عربة خشبية استخدمها لحمل البضائع الصغيرة ، في مناطق العمل الشهيرة وسط بغداد ، وسرعان ما اشترك هذا الشاب في تظاهرات تشرين الوطنية السلمية عام ٢٠١٩ ، حتى وافته المنية شهيدا مظلوما محتسبا الى الله تعالى ، اثناء اندلاع تلك التظاهرات الشعبية السلمية التي تركت عميق الاثر بنفوس الشعب العراقي ، فلم يبقي لاهله سوى وصيته التي تركها لدى احد اصدقائه ، اضافة الى عربته الخاصة التي امتزجت بِعَرَقهِ ودِمائِه واحلامه المسروقة ، والتي ظلت قابعة في وسط التحرير ، كنصب ٍ يحاكي مأساة جيله .

كانت هذه المسرحية المونودرامية ، ومسرحية تعبيرية اخرى قبلها لا تقل ابداعا وجمالا بعنوان سلمية ، فالمسرحيتين من تأليف الكاتب العراقي الكبير احمد هاتف وإخراج الدكتور علي الشيباني وأداء الفنان المجتهد المتألق إبراهيم العكيلي ، بمعية نخبة رائعة من فناني مدينة كربلاء .

-- التساؤلات التي ترسخت بذهني وانا انظر لهذا الكم الهائل من الجمهور ( بشتى معتقداته وافكاره واطروحاته وتوجهاته التي تجمعت فقط ، تحت خيمة الانتماء لوطن )

-- فغالبية الحضور من الشباب ومعظمهم من طبقة الشباب الكَسبَة والمحرومين والبسطاء والايتام ( فهم العمود الفقري لتلك التظاهرات ) وهم ممن لم يحظى بمستوى علمي راق ، فمالذي يجعلهم  وهم يشاهدون تلك المسرحية ، يغيبون عن الواقع طول مدة عرض المسرحية !! ، متأثرين بأجواءها ، متفهمين لغتها ، مدركين ما يراد أن يفهم ، تاركين قياد احاسيسهم تنبض بكل حياة وأمل ، تنساب بحب وتشجيع للممثل والكادر المسرحي ، متماهين مع مشاهد العرض صارخين بين حين واخر ، يحيا العراق ، يحيا الوطن
( لقد صار هذا الوطن حافزا لهم ، للبحث عنه ، خلف شعار ( نريد وطن ) شعارا لتلك الثورة  بعد ان سلب احلام هذا الوطن ، المُنتمين لغيره  .

- مسرحية فيها حركة كبيرة ، واصوات عالية وتنامي فكري أخاذ ، يغازل عميقا ، حاجات اعمارهم التي هي بأمس الحاجة لكسر الجمود فيها ونزع مفتاح البرود عنها ، لتنطلق بشتى استجاباتها اللاشعورية التي ستديم لغة التواصل مع الحياة والعالم ، وتترك لغة مواجهة الموت والفناء التي وفرها القادة الضرورة في عهد ما بعد القائد الضرورة  .

- لقد وجد هؤلاء الشباب ما يسد رمق حاجاتهم النفسية والروحية بنافذة تطلُ على فن ٍ ما .

-(( ان العمل الفني هو بمعنى من المعاني تحرير للشخصية ، اذا تكون مشاعرنا _ بصورة طبيعية _ مكبوته او مضغوطة ، لاننا نتأمل عملا فنيا ، فنشعر بشيئ من التنفيس عن مشاعرنا بل اننا لا نشعر بهذا التنفيس فحسب _ والتعاطف نوع من التنفيس عن المشاعر _ و لكننا نشعر أيضا بنوع من الاعلاء ، و العظمة و التسامى )) . *٤

-- شباب ثائر متمرد على واقعه المزري ، لو وجد ما يملأ فراغه النفسي ، ويلبي حاجاته الفكرية ويغذي متطلباته الروحية والحركية ، لَما دخل ساحة الصراع الغير متكافئ مع سلطة أخذت على عاتقها تجنيد الافكار وتحشيد الجماهير نحو طريق واحد مجهول ، بتوجه دموي وسوداوي عقيم  .

-- كيف لنا ان نعمل على تغيير مزاج المُشاهد والجمهور الذي أُدخل كُرها  ساحات الصراع السياسي ودُفع قسرا نحو التأطر الحزبي ، واصبح ضحية لكل افخاخ التحشيد السلبي الحزبي الحكومي اللامسؤول  ؟

-- رحلة الاجابات تحتاج الى تخطيط وعمل شاق يوازي تماما ، مخرجات ونتاج عقولهم اليوم ، نحتاج اولا الى معرفة كم الانحدار الكبير الذي وصلنا اليه ، لكي يتم مراجعة حسابات تنمية الكثير من العقول التي لم تجد سوى ساحات التظاهر الغير متكافئة ، سبيلا للتعبير عما يدور في داخلها .
تلك الساحات التي حرّكَت دَكّات الموتى من حولنا ، فَعَلا ضجيج الاحياء من حولها .

- - هل يا ترى نُتهم بمثالية افلاطونية ، او اننا نفكر بروح المدينة الفاضلة حين نكتب ، بعيدا عن روح الواقع بسؤالنا، لو ان المسؤولين الحزبيين اللامسؤولين ، الذين خرج عليهم هذا  الشباب الثائر ، اخذوا بالعمل على تكريس مفاهيم الفن والجمال بين صفوف هؤلاء الشباب والعمل على اتساع رقعة الذائقة الفنية لديهم والعودة بهم نحو شواطئ الثقافة التوجيهية الهادفة ، مبتعدين بهم عن منابر الوهم والقلق والتوتر الديني الذي يغدق على اتباعه التائهين منهجا تعليميا تقليديا خاليا من المضمون والنتائج الايجابية ، وبالتالي يقف عاجزا امام التحديات التي يعيشها الشباب اليوم  ، حيث يثير زوابعه الفكرية المعهودة ، رجال يدّعون انفسهم ممثلين عن الدين .


                    -- كما ما مات وطن --

- حينما يتجمع افراد العائلة عند الفطور ، وبحكم التقليد والشعور بالحاجة للتسلية ، فانهم يميلون نحو سد رمق تلك الحاجة بالتوجه نحو الترفيه والانبساط والمتعة في مشاهدة كوميديا سريعة تلقي بضلالها على النفوس -- نمط متكرر في كل عام ومنذ اعوام طويلة -- ، كَسَرَ هذا التقليد منذ عامين مسلسل كمّامّات وطن ، الذي نجح في قيادة المزاج العام لشرائح كثيرة من المجتمع ، وخلق جو مشحون بالتساؤلات والاستفهامات ، وأخذ المواقف ( كتجدد التظاهرات باليوم الثاني الذي لحق ظهور اخر حلقة من المسلسل في العام الماضي مباشرة !! ) ،

نحتاج الى هذا الفن الصاخب المتمرد على التقليد ، نحتاج الى فنا ، يقلب البساط القديم للفن الهادئ  ، ينهض بالافكار ويقاطع البيانات المألوفة التأثير على المشاهد ، من خلال ترسيخ قيم الجمال ومضامين رسائل الفن النبيل ، بمساحات ابداعية كبيرة ومؤثرة ، فن مجدد يعمل على تحديث خلايا البصيرة الاجتماعية المنهكة وسط الظروف التي تدار وتحاك خلفها .
ولعل مسلسل ( ما مات وطن ) الذي يعرض هذا العام في هذه الايام  ، على نفس القناة وبنفس الممثلين الموهوبين ، لا يختلف كثيرا عن مسلسل العام الماضي كما مات وطن ، فالأثنين يحاولان تأصيل الافكار وتذكير الجماهير من خلال ترسيخ المفاهيم الثورية السائرة مع الاحداث ، من اجل تحديث الفكر المجتمعي الراكد .

- اتصل بي احد الاصدقاء معاتبا ، مالذي يمنعك من الحضور نحونا بعد الفطور في هذه الليالي المباركة -- أيام شهر رمضان -- ، لنقضي شيئا من الوقت الطويل الذي يمر علينا وكسرا للروتين اليومي الممل ، فقلت له ولم لا ، فقال : اذن وافينا بالمكان المعتاد ، عند الساعة التاسعة مساء ، فقلت له : التاسعة ؟؟ لم لا يكون الموعد عند الثامنة  ؟؟
فقال : واترك مشاهدة مسلسل ، نبي الله  يوسف  ( يوزرسيف ) ، مستحيل !!

- هذا المُشاهد الحَفي والعاشق للفن حد الثمالة والرائد المتكرر ( لشارع الشوق الذي لا ينتهي -المتنبي- ) ، والمُثقل كذلك بالشوق الدائم  لمشاهدة المسلسل الايراني المدبلج والتي تحمل سمات البقاء كما اعتقد -- ولعل في تكرار المشاهدة تحت وطأة تأثير الشوق الشديد ، ولاكثر من مرة ، ما يُشيع ويكرس مفهوم البقاء هذا -- اخبرني سابقا -  بأنه تابع هذا المسلسل لاكثر من عشر مرات ، كلما صادف مشاهدته في احد القنوات الفضائية ذات الطابع الديني خاصة ، وبأنه لن يشعر بالملل في رؤيته لعشرين مرة أخرى !!

- على ان النماذج الفنية الثلاثة المختارة هنا ، مسرحية حميد العربنجي ، و مسلسلي النبي يوسف و 
( كمامات وطن او ما مات وطن ) ، تعبير عن كل فن حي وموثر في تنمية وعي الفرد والمجموع ، وله الامكانية على البقاء وشغل مكان في الذاكرة المجتمعية وكذلك المقدرة على التحكم في الوقت والمتعة والتأثير الثقافي عليها .


على اننا لسنا هنا بصدد التأشير نوعا ً وكما ً ، للأعمال الفنية التي تتميز بالرقي والبقاء ، التي أثرت حينها او التي لا زالت تؤثر في زيادة مستوى الثقافة والوعي والابداع في مسيرة المجتمع .

- فتحية لكل فن صادق ياخذ على عاتقه النهوض بمجتمعه ، وكسر اعرافه الاجتماعية الجامدة البالية والمؤثرة اشد التأثير السلبي بانحداره الثقافي والاخلاقي والحضاري ، الامر الذي يجعله تحت وطأة التاثير  السياسي وخرافات المتقولين .

فن منبثق من حاجات اجتماعية مُلِحة يقوم على تأسيس ثقافة مدنية وثورية معاصرة ويعمل على ترسيخ مفاهيم الذوق والجمال والعمل على تغيير مزاج المشاهد ، تأصيلا لعكس شعار المتربصين والمستغلين ( المشاهد عايز كِدة )  .
فتحية لكل (( فنٍّ يحملُ نوراً إلى الآخرْ )) *٥  .


-- حسن عزيز الياسري - بغداد -  ١٤٤٢٠٢٢
              ١١ - رمضان - ١٤٤٣

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

*١  معنى الفن ، هربرت ريد ص ٣٧
*٢  كلمات في الفن ، رجاء النقاش ص ٧١
*٣  معنى الفن ، هربرت ريد ص ٣٨
*٤  المصدر اعلاه ، ص ٣٨
*٥  كلمة منسوبة للفيلسوف والكاتب المسرحي 
      الفرنسي فولتير .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة عضو المكتب السياسي للحركة أحمد الديين خلال الوقفة التضا


.. عنف الشرطة الأميركية ضد المتظاهرين المتضامنين مع #غزة




.. ما الذي تحقق لحركة حماس والفصائل الفلسطينية من القبول على مق


.. VODCAST الميادين | علي حجازي - الأمين العام لحزب البعث العرب




.. حزب العمال البريطاني يخسر 20% من الأصوات بسبب تأييده للحرب ا