الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القادم أشدّ هولاً

صبحي حديدي

2006 / 9 / 12
ملف مفتوح بمناسبة الذكرى الخامسة لاحداث 11 سبتمبر 2001


في عدد الأسبوع الماضي من مجلة "تايم" الأمريكية، وعلى سبيل تقديم ملفّ خاصّ في الذكرى الخامسة لـ 11/9، استذكرت الصحافية الأمريكية نانسي غيبز حكايتين عن الحدث ـ الهزّة، لكي تتساءل: ما الذي تبقّى لأمريكا، وما الذي تبقى للأمريكيين، من مغزى خلف الحكايتين؟ وهل أضاعت أمريكا، بذاتها وبفعل سياساتها الكونية، ما كسبته من تعاطف كوني جرّاء المأساة؟
الحكاية الأولى تقول إنّ رجل أعمال أمريكياً كان في الهند ساعة انهيار برجَي مركز التجارة الدولي، فسارع إلى قطع زيارته والعودة إلى بلاده، مارّاً بسلسلة مطارات في الشرق الأوسط وأوروبا، ومبيت ليلة في أثينا. وكان الرجل يتناول عشاءه في أحد مطاعم العاصمة اليونانية، حين تنبّه صاحب المطعم إلى وجود زبون أمريكي، فأعلن ذلك على الملأ بترحاب بالغ، واقترح نخباً في صحة أمريكا، شارك فيه الحاضرون وهتفوا بحماس: كتفاً إلى كتف!
الحكاية الثانية أنّ صحيفة "لوموند" الفرنسية صدرت في اليوم التالي لـ 11/9 وقد تصدّرتها افتتاحية بتوقيع رئيس التحرير جان ـ ماري كولومباني، تحمل العنوان التالي، غير المألوف البتة في فرنسا: "كلّنا أمريكيون"! وأذكر شخصياً، ويذكر معي الكثيرون كما أرجّح، أن الافتتاحية لم تكن قد عكست مزاج كولومباني المحابي عموماً للولايات المتحدة فحسب، بل كانت قد تجاوزت مشاعر التضامن الإنساني إلى تلك الحال الشعورية العجيبة التي سادت في الغرب إجمالاً خلال الأسابيع القليلة بعد انهيار البرجين، حين اختلط حسّ الدفاع بحسّ الهجوم المضادّ، في وجه آخَر إرهابي مسلم شرق ـ أوسطي غالباً، قادم من وراء أسوار أمريكا وأوروبا.
بعد استذكار الحكايتين تتساءل غيبز، بحقّ: الآن، بعد خمس سنوات، بعد غزو أفغانستان واحتلال العراق وتصاعد الحديث عن حرب مع إيران، هل سيرفع روّاد المطعم الأثيني أكوابهم في صحّة أمريكا من جديد؟ وهل سيتجاسر كولومباني، أو حتى أخلص أصدقاء أمريكا في باريس أو لندن أو برلين أو روما أو مدريد، على القول مجدداً: كلّنا أمريكيون؟ "هذا فقدان بلا قبر نبكي عليه، وبلا فرصة للحداد"، "، تكتب غيبز على سبيل الإجابة الوجيزة.
وكنّا، مثل العشرات ممّن يتابعون الشأن الأمريكي والعين مفتوحة على سجلات الماضي قبل الحاضر، قد توقّعنا أن تكون الحرّيات والحقوق المدنية هي الضحيّة الأولى (الأمريكية أوّلاً، ثمّ الأوروبية والعالمية لاحقاً) جرّاء ذلك المزيج من الدفاع العشوائي المتكيء على هجوم انتقائي. والتطورات المتلاحقة لم تكذّب أحداً، ولم تنقضِ أيام معدودات حتى أصدر الرئيس الأمريكي جورج بوش قانون مكافحة الإرهاب الجديد، أو "القانون الوطني"، الذي مسخ قانون الرئيس السابق بيل كلينتون للعام 1996، وجعل منه لعبة أطفال. ولم تكن تلك سوى بداية البدايات، أو النذير الأبكر لما سيأتي تباعاً من «توجيهات» رئاسية داخلية مكتومة، كفيلة بإعادة أمريكا إلى أسوأ عقود الحرب الباردة في العلاقة مع العالم ما وراء المحيط، وإلى أسوأ عهود المكارثية في المستوى الأمريكي الداخلي.
ومن جانب آخر، كان طبيعياً أن يجفّ المداد عن قرار الرئيس الأسبق جيرالد فورد، والذي يحظر على وكالة المخابرات المركزية ممارسة الإغتيال السياسي، وكأنّ العمّ سام لم يكن يلهث لكي يعود القهقرى في التاريخ فحسب، بل لكي يرتدّ في العقل واللغة، ويزداد انحطاطاً في الأوهام والاستيهام. ونتذكّر، لضرورات المقارنة مع الراهن، أنّ قرار فورد كان في الأصل استجابة لضغط مجلسَيْ الشيوخ والنوّاب، بعد تقرير شهير فصّل القول في مباذل الوكالة، وعربدتها هنا وهناك في مشارق الأرض ومغاربها، وانقلابها إلى دولة مستقلّة عن الولايات المتحدة، وضربها عرض الحائط بكلّ القوانين والحقوق والأعراف. وكانت العودة إلى ما قبل قرار فورد تعني ببساطة أنّ أمريكا أعطت وأمريكا استردّت، أو هي تقدّمت قبل ربع قرن وتتأخّر اليوم ربع قرن!
ولأنّ الحرب الباردة لم تضع أوزارها بعدُ في عرف المئات من ممثّلي اليمين الأمريكي المحافظ، الجديد منه مثل القديم، ممّن يعششون هنا وهناك في مختلف مراكز القرار، فإنّ نعيق الغربان على جثث الماضي ما يزال صاخباً حادّاً يصمّ الآذان. ولا يمرّ يوم دون نعيق حول استبدال «الخطر الأحمر» بـ «الخطر الأخضر»، سواء جاء من "القاعدة" أم من "حزب الله" أم من إيران، وإحلال أسامة بن لادن محلّ جوزيف ستالين، واعتبار قندهار وريثة شرور الساحة الحمراء!
غنيّ عن القول، لكي لا نظلم أمريكا وحدها، إنّ هزّة 11/9 أصابت أوروبا أيضاً، ومنحت معظم الديمقراطيات الغربية فرصة سانحة ـ وبالطبع: جسارة بالغة غير مسبوقة ـ في سنّ وتطبيق قوانين مماثلة للقانون الأمريكي. وكانت تلك التشريعات تعلن في الشكل محاربة الإرهاب، ولكنها في المضمون الخفيّ كانت تضمر مختلف أنساق مصادرة الحرّيات العامة وقهر الحقّ في التعبير عن الرأي، على نحو تستحي من تطبيق بعضه أعتى أنظمة الاستبداد في بلداننا. وثمة هنا مكارثية جديدة، أو متجددة بالأحرى، بعضها يحرص على إخفاء العورة فيرتدي أقنعة واهية، وبعضها الآخر لم يعد مكترثاً بأيّ تكاذب حول الحقّ والخير والجمال، أو بأيّة ركيزة أخرى في معمار الفلسفات الغربية الليبرالية حول الحقوق والاجتماع المدني.
الأكثر دلالة هو أنّ الراهن الأمريكي ينذر بأنّ القادم في المستقبل أعظم ممّا تأخّر في الماضي، وأشدّ هولاً!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الزمالك المصري ونهضة بركان المغربي في إياب نهائي كأس الاتحاد


.. كيف ستواجه الحكومة الإسرائيلية الانقسامات الداخلية؟ وما موقف




.. وسائل الإعلام الإسرائيلية تسلط الضوء على معارك جباليا وقدرات


.. الدوري الألماني.. تشابي ألونزو يقود ليفركوزن لفوز تاريخي محل




.. فرنسا.. مظاهرة في ذكرى النكبة الفلسطينية تندد بالحرب الإسرائ