الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صراع الديموس والكراتوس في الديموقراطية على ضوء نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية في فرنسا

فارس إيغو

2022 / 4 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


الديموقراطية بحسب اللفط اليوناني هي حكم الشعب، ولكن التجارب التاريخية منذ التجربة البدائية في أثينا وصولا إلى الديموقراطيات الليبرالية في المجتمعات الغربية في العصر الحديث أثبتت بأن الجمع بين الديموس (الشعب) والكراتوس (السلطة) ليس أمراً بديهياً. فعندما يحضر الشعب بقوة في الديموقراطية تنكفئ السلطة، ونصبح قريبين من الفوضى، وهو ما حصل في أثينا وأهّب لوصول الطغاة. وكان أفلاطون وأرسطو قد حذروا من هذا المرض في الديموقراطية واقترحوا حكم الأقلية المستنيرة. أما حين تحضر السلطة بقوة في الديموقراطية فإن حقوق الشعب تنكفئ، وترجمة ذلك في لغتنا الحديثة انكفاء حقوق الإنسان، كما يحصل في الديموقراطيات الغير الليبرالية والتي شهدنا نماذج كثيرة منها منذ سنوات (رئاسة دونالد ترامب، بالسانيرو في البرازيل، ناريندا مودي في الهند، وفيكتور أوربان في هنغاريا، وأخيراً ماتيوز موراوسكي في بولونيا).
والحل الليبرالي الذي ساد بالخصوص مع نهاية الحرب العالمية الثانية في أوروبا، هو في القول لا نريد أن يحضر الديموس بقوة، والحد من السلطة التنفيذية عن طريق السلطات المضادة. والمنهجية التي تقي من حضور الديموس الدائم هي في تثبيت الديموقراطية التمثيلية، أي أن الديموس يحضر في الاقتراع العام، ومن ثمّ يختفي في حضور ممثلي الشعب أربع أو خمس سنوات، أي تحل مكانه النخب التمثيلية. أما بالنسبة للكراتوس، فالحل الليبرالي ببحد من السلطة هو بالإكثار من السلطات المضادة، والمثال الأبرز لهذا النمط هو دستور الولايات المتحدة الأمريكية، فمع التعدد والفصل بين السلطات السلطات، يجري وضع هيئات غير منتخبة ترعى حسن تطبيق مبادئ الدستور، وهي التي كان الماركسيون يرفضونها دوماً ويعتبرونها مناهضة للديموقراطية، وقد انتقلت هذه المعارضة بعد انهيار المعسكر الشيوعي إلى اليسار الراديكالي واليمين الراديكالي.
هذا الحل الليبرالي للتناقض بين السلطة ـ الكراتوس والشعب ـ الديموس ساد في الفترة ما بعد 1945 إلى يومنا هذا، ولكن مع انهيار جدار برلين عام 1989 وبداية عصر جديد من سيادة الرأسمالية في الصين وروسيا، وفي كل مكان في العالم، والانتقال نحو العولمة والتبادل العالمي، بدأت الديموقراطيات الليبرالية تعاني من غياب التناوب الديموقراطي، الذي دفع إلى انهيار الانقسام يمين/يسار الذي أطّر الصراعات السياسية خلال سبعين عاما لصالح الانقسام النخب/الشعب أو المؤيدين للعولمة والمناهضين لها.
لنشاهد كنموذج تطبيقي ما أنتجته الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية في فرنسا. سنقوم بتقديم قراءة سريعة لنتائج هذا الدور الأول الذي جرى في 10/04/2022، وتمخض عن انتقال الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون وزعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبين إلى الدور الثاني، وقد جمع ماكرون نسبة 27.84% من نسبة المقترعين، وجمعت لوبن نسبة 23.15% من نسبة المقترعين، وجاء في المركز الثالث الزعيم اليساري جان ـ لوك ميلونشون بنسبة 21.95% أما نسبة الممتنعين عن التنصويت فقد بلغت نسبتهم 25% من نسبة الجسم الانتخابي الفرنسي.
الملاحظة الأولى: اختفاء القوى السياسية التي حكمت فرنسا مدة نصف قرن
يعبّر غياب الحزبين الحكوميين عن نهاية الانقسام يمين/يسار الذي أطر الحياة السياسية في فرنسا مدة خمسين عاما وأزيد، حيث حصلت مرشحة الحزب الاشتراكي للانتخابات الرئاسية وعمدة باريس الحالية السيدة آن هيدالغو على نسبة 1.7% من نسبة المقترعين، بينما حصلت مرشحة حزب الجمهوريين (أو اليمين الكلاسيكي أو الليبرالي) وحاكمة منطقة الإيل ـ دو فرانس السيدة فاليري بيكريس على نسبة 4.7% من نسبة المقترعين. وكان انهيار الحزب الاشتراكي الفرنسي قد بدأ عام 2017، وتكرس بصورة جلية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. أما فيما يخص حزب الجمهوريين فقد حاول مقاومة المد الوسطي الراديكالي الكاسح الذي قاده الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون عام 2017، ولكنه في الانتخابات الأخيرة تأكد بداية عملية الانهيار التي قدم تدوم حينا من الوقت حيث أن حزب الجمهوريين ما زال يسيطر على مجلس الشيوخ وعدد كبير من المناطق وبلديات المدن الكبيرة.
وبغياب هاذين الحزبين، تنتهي ثنائية اليمين/اليسار (اليمين الكلاسيكي والحزب الاشتراكي) التي حكمت فرنسا والديموقراطيات الغربية أكثر من نص قرن، لصالح ثنائية العولميين/والوطنيين أو الأوروبيين الفيدراليين/والأوروبيين السياديين أو المتمسكين بحيز الوطن/والرافضين للتقوقع بالحيّز الوطني إلخ.
الملاحظة الثانية، بروز أربع كتل راديكالية
أنّ الدور الأول من هذه الانتخابات أفرز أربع كتل كبرى راديكالية اقتسمت الساحة السياسية الفرنسية، ولكل كتلة حوالي 25% من الجسم الانتخابي الفرنسي:
1ـ الوسط الراديكالي، والذي يقوده الرئيس الحالي المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون، ويدّعي أمام الراديكاليات الشعبوية والعدمية بأنه يمثل حلقة العقلانية أو التعقل، أي الليبرالية الاقتصادية في عصر العولمة، الإيمان بأوروبا فيدرالية، الاعتقاد بحكومة الخبراء والتكنوقراط والإحصاءات ومكاتب الخبرة والنصح والإرشاد. البعض قد يستغرب إطلاق سمة الراديكالية على حزب أو تجمع وسطي هو بالطبيعة يجمع الخصائص النفعية لليمين واليسار كما يقول زعيمه الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون. ولكن، هذه الراديكالية تتجلى في رفض الخروج عن البرنامج النيوليبرالي اقتصاديا، وملحقاته الاجتماعية والمجتمعية العولمية، وبالتالي، هو يسجن المجتمع في نوع من التناوب ((الديموقراطي)) الذي يكرر نفسه دون أي إمكانية لرؤية سياسية بديلة يعتبرها الوسطيون راديكالية، لا بل متطرفة.
2ـ اليمين الراديكالي ـ الاجتماعي، الذي تمثله زعيمة حزب التجمع الوطني السيدة مارين لوبن. يعتقد التجمع الوطني بأنّ الديموقراطية قد تمّ تدجينها في عدة مفاصل حيوية، تبدأ بنقل كثير من الصلاحيات السيادية نحو الاتحاد الأوروبي ولا تنتهي بالمؤسسات القضائية الغير منتخبة (المجلس الأوروبي لحقوق الإنسان، المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، المجلس الدستوري الأعلى، مجلس الدولة إلخ)، ويريد تقوية سلطة اتخاذ القرار التي تمّ إضعافها خلال خمسين عاماً لحساب الحريات الفردية وحقوق الإنسان، وبالتالي، لم يعد في قدرة السلطة المنتخبة ديموقراطيا من تطبيق برنامجها الذي صوّت عليه الشعب، فهي أمام مأزق سياسي حين تصل إلى السلطة، إما أن تخضع للمؤسسات القضائية العليا فتخون الشعب الذي أوصلها إلى السلطة بالانتخاب الديموقراطي، أو تطبق برنامجها فتصطدم بهذه المؤسسات القضائية. فالديموقراطية التي تعني سلطة (الكراتوس) الشعب (الديموس) قد تمّ حرفها، وفقدت اتزانها لصالح السلطات المضادة الغير منتخبة ديموقراطيا التي تكاثرت بالخصوص بعد إنشاء الاتحاد الأوروبي، والحل، هو في عودة التوازن بالتخفيف من قوة كبح تلك السلطات المضادة لكي يتيّسر من جديد التناوب الديموقراطي الحقيقي، أي وضع برنامج بديل لأغلبية بديلة وجديدة في السلطة.
3ـ اليسار الراديكالي، ويمثله الزعيم اليساري جون ـ لوك ميلونشون الذي يترأس حزب فرنسا ـ الأبيّة أو (فرنسا التي لا تخضع للظلم الاجتماعي). يقلب هذا الحزب معادلة أو توازن الديموقراطية بين الكراتوس والديموس لصالح الديموس، فالسلطة مع العولمة تضخمت إلى درجة أصبحت لا تتحمل أي نقد أو تعديل لنسق اقتصاد السوق، وقد تم وصف ولاية ماكرون بأشنع الأوصاف السلطوية، وتكريس سلطة الرئيس الملكية على حساب سلطة البرلمان. وما يقترحه اليسار الراديكالي هو الجمهورية السادسة التي تضع الشعب في كل مكان، وتقوم أساسا على تقوية سلطة الشعب ((الترحيلية)) (1)، أي الانطلاق من الصفر في منتصف ولاية الرئيس والبرلمان، حيث يستطيع الشعب ترحيل كل السلطة والبرلمان، والإتيان بغيرهما إذا لم يخدما المصلحة العامة بحسب الرؤية اليسارية الراديكالية. فالمشكلة عند اليسار الراديكالي (كما هي بالنسبة لليمين الراديكالي) في الاقتصاد الرأسمالي في عصر العولمة والاتحاد الأوروبي، لكن اليسار الراديكالي يتطلع إلى تخفيف القبضة الليبرالية على الاقتصاد وتحسين الشروط الاجتماعية للشرائح الشعبية برفع كبير للأجور الضعيفة، وهو سماحي في المسائل المجتمعية (زواج المثليين، تشريع المخدرات، إلخ)، وإيكولوجي غير مبالي بالمعايير الاقتصادية. فهو في هذا الإطار ذو نزعة تقدمية مفرطة (لا بل ليبرالية من النوع الإباحي)، وذو نزعة محافظة فيما يخص الليبرالية الاقتصادية.
4ـ كتلة الممتنعين عن التصويت، أي الراديكاليين العدميين الممتنعين، وشعارهم الرئيسي: كل شيء فاسد في السياسة، وسأعتزل بنفسي عن هذا الفساد. إن الهروب من التصويت هو نوع من التصويت ضد الجميع، ووضع الجميع في سلة واحدة، الأغلبية الحاكمة التي لا تملك السلطة، والأقليات المعارضة التي لا تملك حتى مجموعة نواب تسمح لها بزمن رسمي للكلام في الجمعية الفرنسية العمومية، لهذا ندعوها بالعدمية، لأنها إجمالية وعمومية في معارضتها، ولا تفرق في غضبها بين الأغلبية الحاكمة والأقليات المعارضة (2).
الخاتمة
نعيش اليوم في ظل أزمة كبرى للديموقراطية في مهدها، أي في البلدان الغربية. شكلت نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية في فرنسا نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة ستشهد في سنواتها الأولى المزيد من الاحتجاجات في الشارع، وما يمكن أن يصاحبها من عنف مجاني قد يطال الممتلكات العامة والخاصة. نهاية مرحلة طويلة استمرت حوالي 70 عاماً حيث تمحورت فيها السياسات الديموقراطية حول الانقسام اليميني واليساري، وتكونت من فترتين، الفترة الأولى هي الثلاثينية العظمى (1945 ـ 1975)، وترافقت مع نسبة عالية في النمو، وتطوّر دولة الرفاه الاجتماعي، مع أسعار متدنية جدا للطاقة؛ أما المرحلة الثانية فقد بدأت مع الأزمة البترولية بعد حرب أوكتوبر عام 1973، وتميّزت بضعف النمو الاقتصادي في أوروبا، وبداية مرحلة العولمة الاقتصادية، وتميّزت بتراجع الدولة الاجتماعية (واحتمال انهيارها الكلي في الأفق المتوسط)، وتجميد الأجور مع تحول المنافسة إلى المجال العالمي (3)، ونقل الصناعات نحو المناطق التي تتيح مميزات كبيرة للتنافس عالمياً (رواتب ضعيفة ومميّزات ضرائبية عالية)، مما تسبب في انهيار الطبقة العمالية البروليتارية في البدان الغربية، وضعف تدريجي في الطبقة الوسطى، وبالخصوص الشريحة الكبرى منها ذات الرواتب التي لا تتعدى الـ 2000 ـ 2500 يورو شهرياً.
ومع نهاية الانقسام يمين/يسار، وبداية مرحلة جديدة من الانقسامات السياسية ( العولميون/الوطنيون، الأوروبيوالفيدراليون/الأوروبيون السياديون، الذين لا وطن لهم/والمتمسكون بالوطن، الإيكولوجيون المؤيدون لنمو سلبي/والإيكولوجيون المؤيدون لنمو إيجابي إلخ)، سنشهد في السنوات القادمة المزيد من الاضطرابات السياسية والاجتماعية في فرنسا والبلدان الغربية على قاعدة هذه الانقسامات الجديدة التي تؤطر الحياة السياسية في هذه البلدان. ومع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، واحتمال تحولها إلى أزمة كبرى وطويلة بين روسيا والغرب وما يمكن أن تتسبب فيه من أزمات اقتصادية ستمس بالخصوص البلدان الأوروبية، ستؤدي إلى المزيد من الانقسامات على الساحة السياسية في فرنسا على الخصوص، والبلدان الأوروبية على العموم حول السياسات المتبعة لمواجهة الاعتماد على البترول والغاز الروسي، وكذلك الأزمات الكبرى التي تمس الاقتصاد الليبرالي في عصر العولمة، وأيضاً أزمة الديموقراطية التي تشكل الأزمة الكبرى في العصر الراهن، والتي تتداخل مع الصراع المفتوح بين الغرب وروسيا والصين، والذي هو في أحد وجوهه صراع بين الأنظمة الديموقراطية والأنظمة السلطوية المندمجة اقتصاديا في العولمة، وكذلك الصراع الأوروبي ـ الأوروبي بين الأنظمة الديموقراطية الليبرالية في أوروبا الغربية والأنظمة الديموقراطية الغير ليبرالية في أوروبا الشرقية (المجر، بولونيا بالخصوص، أو مجموعة بلدان فيسغارد على العموم (التي تضم بالإضافة إلى بولونيا وهنغاريا، التشيك وسلوفاكيا).
الهوامش
(1) من شعار (ارحل) الذي رفعه الشباب في أثناء الربيع العربي في وجه المستبدين الذين يجلسون على العرش منذ عقود من دون أي شرعية انتخابية حرة، والشعار ترجمة عربية للكلمة الفرنسية (ديغاج)، كما نادى بها ثوار تونس.
(2) كالقول لدى بعض السوريين الذين يدّعون الحياد، بأن أسباب الاحتراب الأهلي في سورية تقع مسؤوليته بالمشاركة بين المعارضة والنظام، بين من لا يملك سوى معارضته، ومن يقبض بإطلاق على السلطة، بكافة مفاصلها ومؤسساتها.
(3) إنّ تحوّل التنافس من إطار المجال القومي (أو مجال الدولة ـ الأمة)، شكل ضغطاً كبيراً على الأجور المتواضعة في البلدان الغربية، لأن أي رفع في الأجور والاستحقاقات الاجتماعية المرتبطة بها سوف يضعف تنافسية الشركات الغربية أمام المنتوجات الواردة من الصين وأنحاء أخرى من العالم حيث الأيدي العامة الرخيصة والتغطية الاجتماعية الضعيفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تأخذ استراحة بشكل صحيح؟ | صحتك بين يديك


.. صياد بيدين عاريتين يواجه تمساحا طليقا.. شاهد لمن كانت الغلبة




.. أمام منزلها وداخل سيارتها.. مسلح يقتل بلوغر عراقية ويسرق هات


.. وقفة أمام جامعة لويولا بمدينة شيكاغو الأمريكية دعما لغزة ورف




.. طلاب جامعة تافتس في ولاية ماساتشوستس الأمريكية ينظمون مسيرة