الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روزنامة الأسبوع عَقِيدُ العُقَدَاءِ أَمَامَ العَدَالَةِ الدَّوْلِيَّة!

كمال الجزولي

2022 / 4 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


الإثنين
بالخميس 31 مارس 2022م، ونحن نتهيَّأ لإصدار «الدِّيموقراطي» أسفيريَّاً، غيَّب الموت بالقاهرة صديقنا العزيز السِّر قدور، القامة الفنِّيَّة العالية، والهرم الغنائي، والمسرحي، والصَّحفي الكبير، عن عمر ناهز 88 عاماً.
وبالأربعاء 6 أبريل توفِّيت بلندن أختنا الحبيبة د. ناهد عبد الله، إخصائيَّة الصَّدر، ورفيقة درب حبيبنا الموسيقار، والقاص، والصَّحفي، والمترجم، والكاتب المسرحي صلاح حسن احمد.
وبالجُّمعة 8 أبريل رحل الرَّفيق الغالي محمَّد ابراهيم عبده كبج، المهندس الذي تخصَّص باجتهاده الذَّاتي في الاقتصاد المنحاز للبسطاء، حتَّى بذَّ الكثير من أهل الجِّلد والرأس، في هذا المجال، بكتبه، ومحاضراته، وأوراقه العلميَّة!
ترجع بداية معرفتي بالسِّر إلى مطالع ستِّينات القرن الماضي، عندما كان يزور، مع كوكبة من زملائه الأفذاذ، صديقهم وقريبنا المسرحي المبدع إبراهيم حجازي الذي رحل عن دنيانا، هو الآخر، قبل حين، طيَّب الله ثراه. ولَكَم أمتعونا بأحاديثهم الشَّجيَّة، وإبداعاتهم الثريَّة، وخواطرهم السَّخيَّة.
أمَّا علاقتي بناهد فتعود إلى سنوات الدِّراسة بشرق أوربَّا، هي بتشيكوسلوفاكيا وأنا بالاتِّحاد السُّوفييتي. ثم ما لبثت أواصر علائقنا أن توطَّدت بعد تخرُّجنا وعودتنا إلى السُّودان، وزواجها من صديقنا صلاح .. ويا لها من أيَّام ذقنا خلالها حلاوة الإخاء، وطيب المعشر.
وأمَّا كبج، فعلى كثرة ما بيننا من ذكريات، فإن أقواها رسوخاً في الخاطر تلك المتَّصلة بالفترة التي قضيناها سويَّاً مع «حركة العدل والمساواة»، بطلب من طيِّب الذِّكر د. خليل ابراهيم، وتعيين من اليوناميد، هو كمستشار اقتصادي، وشخصي كمستشار قانوني، على أيَّام التَّفاوض المفترض مع النِّظام البائد في الدَّوحة.
كلا السر وناهد وكبج فقد جلل، في المستويين العام والخاص؛ نسأل الله لهم واسع القبول، والرحمة، والغفران، وسيظلُّ ذكرهم عطراً متَّقداً في الأذهان ما حيينا، إنا لله وإنا إليه راجعون.

الثُّلاثاء
انعقدت بالثُّلاثاء والأربعاء، 5 ـ 6 أبريل الجَّلستان الأوليان في الدَّائرة الابتدائيَّة الأولى للمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة في لاهاي بهولندا، برئاسة القاضية جوانا كورنر، لمحاكمة علي كوشيب الصَّادر أمر القبض ضدَّه في 27 أبريل 2007م، والذي سلَّم نفسه بأفريقيا الوسطى، فنُقل إلى المحكمة في 9 يونيو 2020م، ليمثل أمامها مثولا أوَّليَّا في 15 يونيو 2020م، بينما عُقدت جلسة اعتماد التُّهم ضدَّه بالدائرة التَّمهيديَّة الثَّانية بين 24 ـ 26 مايو 2021م.
جلستا 5 ـ 6 أبريل بدأتا بتلاوة القاضية على المتَّهم، في حضور هيئتي الاتِّهام والدِّفاع، ومحاميِّي الحقِّ الخاص، إحدى وثلاثين تهمة بجرائم حرب وجرائم ضد الانسانيَّة يشتبه بأنه ارتكبها، بين 2003م و2004م، بمحليَّات مكجر ووادي صالح وبنديسي وقدوم ودليج، في وسط دارفور، حيث قاد الجنجويد، وهم قوَّات شبه حكوميَّة مكوَّنة من قبائل عربيَّة، قتلت مئات القرويِّين، فضلاً عن العُمَد، وقادة المجتمعات، وهدمت مساكن، ونهبت ممتلكات، واغتصبت نساءً وفتيات. ردَّ المتَّهم بأنه ليس مذنباً، غير أن كريم خان، المدَّعي العام الدَّولي، أكَّد، ضمن خطبة الاتِّهام الافتتاحيَّة «أن كوشيب الملقب بعقيد العقداء شارك في تلك الجَّرائم بفأسه الشَّخصي، وبكامل إرادته، مفتخراً بالنُّفوذ الذي يظنُّه في نفسه». ووصف خان المحاكمة بأنها تاريخيَّة لملايين السُّودانيِّين الذين شهد الجَّلسات حشد ضخم منهم قدموا من مختلف أنحاء العالم، بالاضافة الى منظَّمات حقوقيَّة ونشطاء. وكانت المنسِّقيَّة العامَّة لمعسكرات النَّازحين واللاجئين وجَّهتها جميعها بمتابعة المحاكمة، ودعت كلَّ الشَّعب، وشرفاء المحامين، ومناصري الضَّحايا لحضور وقائعها بدقَّة، ومساعدة الشُّهود في الوصول إلى المحكمة، مؤكَّدة، للأسف، أن الانتهاكات تفاقمت منذ سقوط البشير، خصوصاً بعد انقلاب البرهان في 25 أكتوبر 2021م، وأن المحاكم السُّودانيَّة أثبتت عدم قدرتها علي إجراء محاكمات عادلة، وحماية النَّازحين، وإيقاف استهدافهم من فلول النِّظام البائد، والجنجويد، واللجنة الأمنيَّة. ودعمت التَّنسيقيَّة تولي المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة قضيَّة دارفور استناداً إلى القاعدة القائلة بأنه في حالة اقتناع هذه المحكمة بأن القضاء المحلي غير راغب، أو غير قادر، على ملاحقة ومعاقبة مرتكبي جرائم الحرب والجَّرائم ضدَّ الانسانيَّة، أو أن مجرَّد التَّحقيق حولها لم يُشرع فيه حتَّى بعد مرور وقت كاف، أو أن مثل هذا التَّحقيق، حتَّى لو شُرع فيه، لا يهدف سوى للتَّستُّر على الجَّرائم ومرتكبيها، فإن المحكمة، في هذه الحالة، تتولى هذه المهمَّة بدلاً عن القضاء المحلي، كاختصاص تكميلي complementary.
إضافة إلى خطبة الاتِّهام الافتتاحيَّة، أدلى أعضاء الادِّعاء العام، ببيانات افتتاحيَّة تفصيليَّة، ثمَّ أتاحت المحكمة الفرصة لبيانين قصيرين من محاميَي الحقِّ الخاص، ولبيان مقتضب من المتَّهم نفسه، حسب طلبه، بدون قَسَم.
أخيراً، ثمَّة ملاحظتان تستدعيان الخشية الجِّدِّيَّة على هذه الاجراءات:
الأولى: أن بيانات الادِّعاء الافتتاحيَّة، رغم أنها اتَّسمت بلغتها السَّلسة، وسرديَّتها الدراماتيكيَّة العاطفيَّة، إلا أن هذين العنصرين غير كافيَين، مع ذلك، لتأسيس اتِّهام يفضي للإدانة في المرحلة القادمة. مثل هذه الادانة لن تتأسَّس في عقيدة المحكمة إلا على بيِّنة قانونيَّة متماسكة، سواء شفهيَّة بإفادات الشُّهود، أو مادِّيَّة بالمستندات والمعروضات.
الثَّانية: أن المدَّعي الدَّولي كان أشار إلى أن انقلاب 25 أكتوبر 2021م شكَّل انتكاسة لعملهم، ممَّا «اضطرهم لإيقاف أنشطة التَّحقيق فوراً»، خاصَّة أن العديد من المسؤولين السُّودانيِّين مِمَّن كانوا التزموا بمعاونة الادِّعاء، ووقَّعوا معه، خلال زيارته الأولى إلى البلاد، في أغسطس 2021م، مذكرة تفاهم شملت، لأوَّل مرَّة، تسليم البشير وبقيَّة المتَّهمين الصَّادرة بحقِّهم أوامر قبض، هؤلاء المسؤولين «لم يعودوا يشغلون مناصبهم» كبعض مترتِّبات الانقلاب!

الأربعاء
رغم أن التَّاريخ يحمِّل وزر انقلاب أرستقراطيَّة الجيش، بقيادة عبود، على تجربتنا الدِّيموقراطيَّة الأولى، لعبد الله بك خليل، السِّكرتير العام لحزب الأمَّة على أيَّام الاستقلال، ورئيس وزراء السُّودان الأسبق، إلا أن البك، مع ذلك، ربَّما كان الأكثر إفصاحاً، بين سائر من تولوا الحكم في البلاد، عن خشيته على تطوُّر دِّيموقراطيَّتنا، وهي، بعدُ، وليدة تحبو في بواكيرها، من مغبَّة النُّفوذ الأجنبي، والتَّدخُّلات الخارجيَّة، برغم حقِّ كلِّ من شاء أن يسئ الظَّنَّ بتلك الخشية، عازياً إيَّاها، فحسب، إلى ضغينة الرَّجل، وحزبه، وعشيرته السِّياسيَّة، ضدَّ غريمهم التَّاريخي، الحزب الوطني الاتِّحادي «الاتِّحادي الدِّيموقراطي في ما بعد»، بقرينة التعاطف الذي كان يحظى به من لدن مصر، إذ ما كان تعاطف الإنجليز، بدورهم، مع عشيرة البك نفسه السِّياسيَّة، بأقلِّ من ذلك. فكلتا انجلترا ومصر شريكتان في حكم السُّودان منذ غزوة 1898م، واتِّفاقيَّة الحكم الثُّنائي عام 1899م.
مهما كان من أمر، فإن التَّناقض بين موقفين للبك، حرصه على البنية الدِّيموقراطيَّة، من ناحية، وتفضيله الشُّموليَّة خشية على من النُّفوذ الأجنبي إلى حدِّ، من ناحية أخرى، هو تناقض محيِّر. لكنه، على أيَّة حال، ليس وقفاً على نموذج البك وحده. فلقد جرت تحت الجسور، منذ ذلك الحين، مياه كثيرة، حيث تعاقبت على السُّلطة أربعة أنظمة انقلابيَّة (عبود ـ النِّميري ـ البشير ـ البرهان) سلخت، حتَّى الآن، ما يربو على نصف قرن من عمر السُّودان المستقل، مقارنة بسنوات الدِّيموقراطيَّة التي لم تتجاوز كثيراً العقد الواحد، وأغلبه فترات انتقاليَّة. على أن أكثر ما يُلاحظ في شأن هذه الأنظمة الانقلابيَّة هو التَّناقض الذي قد يبدو محيِّراً، أيضاً، للوهلة الأولى، بين الميل للحكم الشُّمولي، من ناحية، وبين التَّململ ضدَّ ما تسمِّيه «النُّفوذ الأجنبي»، من ناحية أخرى. سوى أن الحيرة سرعان ما تنقشع عندما ندرك أن هذا التَّناقض مؤسَّس، أصلاً، على فهم خاطئ لبعض مفاهيم القانون الدَّولي المعاصر، كمفهوم «السَّيادة» الذي لم يعُد يعبِّر، كما في السَّابق، عن حقِّ الحاكم المطلق في إقليمه، أو دولته الوطنيَّة التي يُعتبر «مالكاً» لها، بكلِّ ما فوق أرضها، وما تحتها، حسب ما تمخَّض عن «مؤتمر وستفاليا لسنة 1648م»، بل أصبح يرتبط أكثر فأكثر بالإنسان، وحماية حقوقه،وإقرار السَّلام، والدِّفاع عن الدِّيموقراطيَّة، بحيث أضحى التَّدخُّل الدَّولي الإنساني لخدمة هذه الأهداف، استثناءً على مبادئ القانون الدَّولي المعاصر وفق ما استقرَّ لدى آبائه، وأشهر منظِّريه الذين يعتبرون التَّدخُّل عندما تُنتهك مصلحة الإنسانية ليس فقط التزاماً دوليَّاً جماعيَّاً، وإنَّما من أوجب واجبات كلِّ دولة قويَّة على حدة.
وهكذا، ينبغي التَّعاطي، من هذه الزَّاوية، بالذَّات، مع الخلاف الذي نشب مؤخَّراً بين النُّخبة العسكريَّة الانقلابيَّة في السُّودان بقيادة البرهان، وبين بعثة اليونيتامس برئاسة فولكر بيرتس. فالبرهان يفتقر لأيَّة مشروعيَّة دستوريَّة تبيح له اعتبار أيِّ شخصيَّة غير مرغوب فيها Persona non grata، دَعْ أنه أضحى، هو نفسه، أكبر شخصيَّة غير مرغوب فيها، لا بقرار فرد، بل بقرار الملايين التي ما تنفكُّ مواكبها الهدَّارة تزأر بذلك صباح مساء.
عموميَّة القاعدة الرَّاسخة في ميثاق الأمم المتَّحدة حول «عدم التَّدخُّل» في الشُّؤون الدَّاخليَّة للدُّول لا يعني منعاً مطلقاً، حيث أن هذا «التَّدخُّل»، سواء بصورة جماعيَّة أم فرديَّة، ما يلبث أن يكتسب مشروعيَّة خاصَّة في حالات الانتهاكات الانسانيَّة.

الخميس
في مثل هذه الأيَّام، وعلى مرمى حجر من الذِّكرى السَّنويَّة لرحيل حبيبنا محجوب شريف، كتبت، مرَّة، قبل سنوات طوال، أقول: حول لويس أراغون قالت الباحثة الرُّوسيَّة الفرنسيَّة إلسا تريوليه: «عندما أتحدَّث عنه فإنما أتحدَّث عن الشُّعراء وليس عن ضحايا الخيالات، عن الشِّعر وليس عن الشَّئ الذي يلمع دون أن يكون ذهباً"! ولم أجد أبلغ من هذا القول في التعبير عن الاستقبال الحاشد لمحجوب يوم عاد إلى الوطن، معافى بحمد الله، عشيَّة 21 مارس 2007م، يوم الشِّعر العالمي .. فيا لها من مصادفة، ويا له من اختيار نحيِّي ذكراه به! ذلك أن لمحجوب عادات مختلفات تشكِّل بعض عجائب الخلق الشِّعري لديه حدَّ الفرادة، على النَّحو الآتي:
العجيبة الأولى: أنه لا يجلس، قط، إلى منضدة لكتابة قصيدته، إلا بعد أن تكون قد علِقت معالِقها، واستدارت خلقاً سوياً. أما مراحل تكوُّنِها الأولى فغالباً ما تتخلق لديه ماشياً على قدميه، حتَّى لقد لقَّبه الصَّديق الحميم عبد الله علي ابراهيم بـ «الشَّاعر الأمِّي»، تحبُّباً! فمحجوب، بالفعل، كثيرُ المشي بقدر غزارة إنتاجه .. في حوش البيت، في باحة السِّجن، في أزقَّة أم درمان المتعرِّجة، وساحاتها المحتشدة بالعنفوان، وبالأخص في سوقها الكبير الضاج بالحيويَّة، أو حتى داخل زنزانة ضيِّقة مغلقة. ولعلَّ هذا ما يفسِّر اكتظاظ قصائده بمختلف الحالات، والحكايات، والصراعات الانسانيَّة.
العجيبة الثَّانية: أنه، على خلاف أكثر الشُّعراء، لا يتحرَّى الأجواء الهادئة، ولا ينتظر أن يهبط عليه وحي أو الهام، بل يأخذ الإبداع غِلابا، فيذهب بنفسه، راجلاً، إلى حيث وحيه في لبِّ ضجيج الحياة، وإلهامه في حركة الناس اليوميَّة .. في عبارةٍ يلتقطها من فم حمَّال بسيط، أو زوبعةٍ تثور تحت أقدام مشاجرةٍ مدرسيَّة، أو كلمةٍ تقذف بها أمٌّ تتضجَّر من غلاء المعيشة، أو تقطيبةٍ ترتسم، أول النَّهار، على جبينِ أبٍ مفصولٍ للصَّالح العام، أو حكمةٍ ترسلها عجوزٌ تتعجَّب من تغيُّر الدُّنيا وأحوالها، أو ترنيمةٍ يمطُّها بائعٌ جوَّال ينادي على بضاعة كاسدة، أو معنىً خبيئٍ يطلُّ، بغتةً، من عيني صبيَّةٍ كابية الجَّمال قد لا تثير الاهتمام في محطةِ بصٍّ، أو ترميزٍ طبقيٍّ يجاهر بفحشه وسط ثرثرات فَعَلَةٍ يترصَّدون الرِّزقَ بناصية بنك يتجهَّمهم من أوَّل الصَّباح!
أمَّا العجيبة الثَّالثة: فهي أنه، إذ يفعل ذلك، لا ينقل هذه التَّعبيرات، بحرفيَّتها، إلى بنية قصيدته، وإنما يُعمِل فيها من طاقته الهائلة على مكابدة جدل اللغة، والمزج السَّلِسِ بين العاميَّة والفصحى، واللعب البارع على جرسِ الحروفِ، ورنينِ الألفاظِ، عامداً إلى تقطيع الجُّملة الشِّعريَّة إلى مجموعة جُمَل قصار ينهمك في الاشتغال على قوافيها الدَّاخليَّة المتتابعة والمتغيِّرة، مع الإمساك الجيِّد، في كلِّ الأحوال، بخيط القافية الأصليَّة الأساسي، والكثير الكثير، إلى ذلك، مِمَّا في مُخلاته من أدوات سحر القول الشِّعري، وحِيَلِه المُبهرة.
وأمَّا العجيبة الرَّابعة: فتتَّصل بعيار الشِّعر عند محجوب، حيث يستمدُّ إيقاعاته وأوزانه، مباشرة، من عمق إصغائه الوَلِه الكلِف الشغوف لصميم هذه الحركة الموَّارة في عرصات المكان، وهي، بطبيعتها، حركة ذات أوزانٍ صريحةٍ، وإيقاعاتٍ فاقعة. ولحرصه على ألا يُفلِت منها شيئاً، مهما دقَّ، أو صغُر، فإنه يلتمُّ عليها، بكل جوارحه، مراجعةً وتنقيحاً وجَلوَاً، طوال الوقت الذي تأخذه صناعة القصيدة. لذلك، ليس نادراً ما يلحظ جلساؤه من أهله، أو أصدقائه المقرَّبين، أو رفاق سجنه، أنه يكثر، في مثل تلك اللحظات، من الاستغراق اللاإراديِّ في طقس تمتمات مُبهمة، كمن يتلو أوراداً يحرِّك بها شفتيه دون صوت، ويضبط إيقاعها ووزنها الخفيَّين بتلعيب يديه وقدميه ورأسه، بل وعينيه أحياناً، ثمَّ ما يلبث أن يعود، حين ينتبه، بغتة، إلى مراقبتهم له، كاتمين ضحكاً معابثاً، لينفجر، هو ذاته، في طقس قهقهات طفوليَّة مجلجلة!
أخيراً: كِلا تجويد صراحة الوزن وفقوع الايقاع، المستلهمين من صراحة وفقوع أوزان وإيقاعات الشَّارع العام، أو ربَّما حركة الحياة داخل السِّجن، فضلاً، بالطبع، عن فرادة الاقتدار على التَّعبير، في بساطةٍ معقَّدةٍ، وسهولةٍ ممتنعةٍ، عن أشرف المضامين الضَّاربة في عمق الهمِّ الانسانيِّ اليومي، هو ما يُكسِب قصيدة محجوب خاصِّيَّتها المنبريَّة، وقابليَّتَها للأداء الجَّماعيِّ، وقدرتها، ليس، فقط، على إلهاب المشاعر، بل والأجساد أيضاً! وما أيسر أن تلحظ ذلك إن أنت أوليت انتباهك لاستجابات الجُّمهور لأدائه على المنصَّة، بحركة قدميه ويديه التي لا تكاد تهدأ، دَعْ انفعالات دواخله التى تستعصي على اللجم، فتنعكس، بتلقائيَّة وطلاقة، على نبرات صوته، وتوتُّرات وجهه، وشفتيه، وحنجرته، ما يجعل من قصائده نصوصاً صالحة لأن تُتلى أو تُنشد، لا أن تُكتب وتُقرأ. وأذكر، استطراداً، عندما احتفل اتِّحاد الكتاب، ذات أمسية من عام 1988م، في داره القديمة بالمقرن، بتوقيع «اتِّفاق الميرغني ـ قرنق» آنذاك، كيف أحاطت بمحجوب مجموعات شتَّى من بنات وأبناء «الهامش»، بلكناتهم، وأزيائهم، وحُليِّهم المائزة، يصدحون معه بأهزوجته «ميري كلمينا»، وهم يشيعون، برقصاتهم الشَّعبيَّة النَّشطة حول نافورة الدار، جوَّاً من المرح الصَّخَّاب الحار، في ذات اللحظة التي وصل فيها الميرغني على رأس وفده لتشريف الاحتفاليَّة، فوقف يتلقى تلك التَّحيَّة غيرَ المسبوقة في مشهد مهيب، تمايحت معه هامات الشَّجر، واهتزت له أركان المبنى، وسرت عدواه إلى الجماهير المحتشدة، فانطلقت تشارك، على سجيَّتها، في الأداء الشِّعريِّ، والرقص على الإيقاع الدَّاوي، بينما الدُّموع تسحُّ من عيون لطالما سهَّدها التَّوقُ لـ «سلام الوطن»، شمالِه وجنوبِه، وشرقِه وغربِه .. دون أن ينتبه أحدٌ إلى أن الأهزوجةَ نفسَها لم تكن ملحَّنة!
وبعد، تلك بعض شذرات عن جماليَّات القصيدة عند محجوب، وعناصر العذوبة في شعريَّتها، وهو حديث يطول، وذو شجون، لولا أن المساحة تضيق. ولقد عزَّ علينا ألا نخصُّه بهذه التحيَّة التي قصدنا أن تجئ مبتكرة في ذكراه السَّنويَّة المقترنة بيوم الشِّعر العالمي، فإبداع محجوب أقيم من أن نرهنه لدارجِ القولِ، أو مكرورِه، أو ماسخِه!

الجُّمعة
سبق أن تساءلنا، قبل نحو من أربعة عشر عاماً، عن سر صمت حركة الاسلام السِّياسي في السُّودان عن الفتوى التي كان أطلقها يوسف القرضاوي، في أو حوالي الثاني عشر من أبريل 2008م، بأن تناول كميَّة «قليلة» من الكحول ليس حراماً! وذلك على خلفيَّة انتشار نوع من المشروبات في بقالات دولة قطر مِمَّا تدخل الكحول في تصنيعه!
واليوم، إذ نعيد طرح هذا التَّساؤل الحائر، فلأن القرضاوي هو أحد أئمة الاسلام السِّياسي في المنطقة وفي العالم، وأحد أبرز من ظلوا يدعمون نظام البشير في السُّودان، معتبراً إيَّاه نموذجاً للنظام الإسلامي الرَّاشد! مع ذلك فإن فتواه المشار إليها أصابت في مقتل قاعدة فقهيَّة معتمدة في التَّشريع والممارسة القضائيَّة في ذلك النِّظام، وهي أن "ما أسكر كثيره فقليله حرام"، قالبة إيَّاها إلى معكوسها تماماً! ولو أن فتوى القرضاوي التي حللت «ما لا يسكر قليله» كانت صدرت عن الأزهر، مثلاً، لكان أصحاب نظام البشير أقاموا الدنيا ولم يقعدوها. لكنهم، إزاء فتوى القرضاوي، لزموا، منذ ذلك الوقت، وما زالوا يلزمون، صمت القبور .. فلعلَّ المانع خير!

السَّبت
كنت، قبيل توقُّف «الدِّيموقراطي» في نسختها الورقيَّة، كأحد تداعيات انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي، قد ضمَّنتُ الرُّوزنامة كلمة تناقش مشكلة «الانقلابات»، وتنظر في لا جدوى المعالجات التي اقتُرحت لها حتَّى الآن. ولمَّا كنَّا نرى أن الانقلاب الأخير قد حال دون أن تجد تلك الكلمة حظها من الحوار، فهأنذا أستعيدها في ما يلي، آملاً في افتراعها مناقشة تتجاوز المعهود من الحجج، وتناولها القضيَّة من زاوية مختلفة شيئاً:
[ربَّما يقول قائل إن العفو عمَّا سلف من انقلاب عبود، والتَّلاعب في تنفيذ الحكم على انقلابيي مايو، والتَّباطؤ الحادث، الآن، في إجراءات محاكمة البشير ورهطه، هي جملة الأسباب الكامنة وراء عدم ردع الأطماع الانقلابيَّة، ماضياً وحاضراً. وقد لا يكون هذا القول خاطئاً تماماً! لكن ثمَّة ما هو أوقع، قطعاً، من مجرَّد الحساب والعقاب، ونعني «المعالجات السِّياسيَّة» عميقة الأثر، ليس في زجر العسكريِّين، فحسب، عن تدبير الانقلابات، أو المشاركة فيها، بل وفي فطامهم، نهائيَّاً، من ذلك. هذه «المعالجات» تقوم على التَّمييز الإيجابي لـ «القوى الحديثة» ذات التَّأثير الملموس على القرار، وعلى الرَّأي العام في مناطق الانتاج الحديث، وعلى المحتوى الاجتماعي للمشاركة في العمليَّة الانتخابيَّة، بما يشمل وضع القوَّات المسلحة في مكانها اللائق منها.
ويا طالما وددت لو اتَّجه اهتمامنا إلى مضمون هذه القضيَّة، أكثر من شكلها العام، أو إطارها الخارجي. فقد دُعيت إلى ورشة بوزارة العدل، حول «قانون مفوَّضيَّة الانتخابات»، من 30 سبتمبر إلى 2 أكتوبر 2021م، لكنني، للأسف، لم التمس في نفسي حماساً للمشاركة، وأعتذر، فالمحاور، على أهميَّتها، ليست ضمن مزاجي البحثي، أو، كما يقول الفرنجة «ليست كوب شايِّي المفضَّل not my cup of tea» الذي هو مضمون «القانون الانتخابي» نفسه، بأكثر من «قانون المفوَّضيَّة» من حيث مقرّها، وأجلها، وسلطاتها، ومخصَّصات أعضائها، وتعيين أمينها العام، وصيغة قسم أعضائها .. الخ؛ ولذا تصوَّرت أن «إعداد النِّظام الانتخابي وقانون الانتخابات»، لن يكون ضمن عمل هذه الورشة، إذ مكان ذلك، بطبيعة الحال، «مفوَّضيَّة الدُّستور» ذات الصِّلة الوثيقة بـ «المؤتمر الدَّستوري» المعني بالتَّقرير في شأن «الانتخابات» و«قانونها»، بأكثر مِمَّا يُعنى بذلك «قانون مفوَّضيَّة» يُعهـد إليها بتنظيم وإدارة العمليَّة الانتخابيَّة.
هكذا، وبحسب المنطق الذي يجعل من بناء الدِّيموقراطيَّة، أو استعادتها من براثن الأنظمة القمعيَّة، القانون الأساسي للثَّورة السُّودانيَّة، فإن هذا هو، حتماً، مآل الفترة الانتقاليَّة الحاليَّة، ليس، فقط، عبر انتخابات «حرَّة» و«نزيهة»، على ما لهاتين «الحريَّة» و«النَّزاهة» من أهميَّة، وإنَّما عبر «قانون انتخابات» يتَّسم، أساساً، بتمثيل القوى الاجتماعيَّة الحيَّة كافَّة في الجِّهاز التَّشريعي والرَّقابي، وذلك بعدم الاكتفاء، فقط، بالدَّوائر الجُّغرافيَّة التَّقليديَّة، وإنما بتخصيص دوائر للقوى المذكورة، باعتبارها «القوى الحديثة» الأكثر فاعليَّة في نشر الوعي، والفئات الطبقيَّة والنَّوعيَّة الأكثر حسماً في الإطاحة بالدِّيكتاتوريَّات، ونصرة الثَّورات، والمستحقَّة، من ثمَّ، لهذا التَّمثيل.
تاريخيَّاً جاء ميلاد هذه «القوى الحديثة» كإرهاص ببزوغ الفجر الباكر لتيَّار الاستنارة في الحراك الاجتماعي، سواء من خلال حركة الخرِّيجين، مثلاً، أو تكوين الاتحادات والجَّمعيَّات الفئويَّة، أو الانخراط في عمليَّات الإنتاج الاقتصادي الحديث، أو الإسهام في تسيير دولاب الإدارة، وما إلى ذلك. لذا، عند وضع أوَّل قانون انتخابات، بين يدي الحكم الذَّاتي، عام 1953م، بإشراف الخبير الهندي «الباكستاني لاحقاً» سوكومارسون، كان طبيعيَّاً أن تجري محاولة جادَّة للتَّعبير عن ذلك الدَّفع «الحداثي»، فتمَّ تخصيص خمس دوائر لخريجي المدارس الثَّانويةَّ، إلى جانب خمسة أحزاب سياسيَّة تنافست في تلك الانتخابات (الوطني الاتِّحادي ـ الأمَّة ـ كتلة الجَّنوب ـ الحزب الجُّمهوري الاشتراكي ـ الجَّبهة المعادية للاستعمار). على أن تلك الدوائر ما لبثت أن ألغيت في انتخابات 1958م! ثمَّ أعيد العمل بها، في انتخابات 1965م، عقب الإطاحة بنظام الفريق عبود في ثورة أكتوبر 1964م، وذلك بعد زيادة عددها إلى 15، وتخصيصها لخريجي الجَّامعات؛ لكنهـا سـرعان ما ألغيت، أيضاً، في انتخابات 1967م!
الخطَّة الأكثر جديَّة لتمثيل «القوى الحديثة» كادت ترِد، للمفارقة، ضمن النِّظام الانتخابي المايوي (1969م ـ 1985م)، بعنوان «تحالف قوى الشَّعب العاملة: العمَّال ـ المزارعين ـ المثقَّفين ـ الرَّأسماليَّة الوطنيَّة ـ الضُّبَّاط والجُّنود»، لولا أن تلك الخطَّة جاءت مخنوقة بالشُّموليَّة القابضة، وسيطرة «الاتِّحاد الاشتراكي»، حزب السُّلطة الوحيد، منتحَلة من التَّجربة النَّاصريَّة، بالتَّعارض التَّام مع مطلوبات الدِّيموقراطيَّة التَّعدُّديَّة!
ولدى انتفاضة أبريل 1985م، كان نموذج «الخرِّيجين» أضيق من أن يستوعب «القوى الحديثة» كافة، مثلما كان نموذج «تحالف قوى الشَّعب العاملة» مقيَّداً بغلِّ حريَّة التَّنظيم، والنَّشاط المستقل. مع ذلك ألجأت قوَّة المطلب الأحزاب التَّقليديَّة إلى «تمرير» خيار «الخرِّيجين» القديم، مع ضمان تجييره لصالح الثَّورة المضادَّة! ففي بداية الانتقال لم يكن ثمَّة خلاف يذكر، في الظاهر، بين الوطنيِّين الدِّيموقراطيِّين، والنقابيِّين، من جهة، وبين القوى السِّياسيَّة التَّقليديَّة، من جهة أخرى، حول «مبدأ» مشاركة «القوى الحديثة» في السُّلطة. بل إن الظرف الموضوعي السَّائد آنذاك لم يكن ليسمح بنشوب ذلك الخلاف، وهو المركز المتقدِّم الذي شغله «النِّقابيُّون»، وقتها، كما المركز الذي يشغله «المهنيُّون» حاليَّاً. وعند إعـداد «قانـون الإنتخـابـات» عهدت الحكومة الانتقاليَّة إلى لجنة وزاريَّة باستطلاع آراء القوى السِّياسيَّة والمدنيَّة المختلفة، ففعلت طوال أربعة أشهر، ورفعت تقريرها إلى مجلس الوزراء الذي أجازه، حيث ترجَّح تمثيل «القوى الحديثة»، ولم يتبقَّ سوى عقد اجتماع مشترك مع المجلس العسكري لإصدار القانون. لكن مجلس الوزراء فوجئ بأن المجلس العسكري، برئاسة سوار الدهب، شكَّل لجنة سياسيَّة لإجراء المزيد من الاستطلاعات، دون الافصاح عن دوافع ذلك! وعند عقد الاجتماع المشترك، أثار كبار العسكريِّين، لدهشة الجميع، أن أحزاباً سياسيَّة، بل وقوى نقابيَّة، تعارض تمثيل «القوى الحديثة»!
والآن، بقدر ما يصحُّ، توقُّع ألا تتخلى «القوى الحديثة» عن حقِّها في التَّمثيل البرلماني، يصحُّ أيضاً توقُّع ألا تتخلى القوى التَّقليديَّة، كالعادة، عن مناوءة ذلك الحق! عليه، فإن ألزم ما يلزم «القوى الحديثة»، وحلفاءها، ألا تركن لتلك الخطة القديمة التي أثبتت عدم جدواها، وأن تتحوَّل نحو خطة أقوى مضاءً، هي المطالبة بغرفتين two chambers، لبرلمان ما بعد الفترة الانتقاليَّة، إحداهما لـ «الدَّوائر الجُّغرافيَّة»، والأخرى لـ «دوائر القوى الحديثة»، بما فيها «القوَّات النِّظاميَّة»، شاملة «القوَّات المسلحة»، فلا تُحسم القرارات الكبيرة إلا بالتَّصويت في المجلسين! على أن ذلك يقتضي حملة ضارية لأجل التَّوافق بشأن «قانون الانتخابات»، ولتضمين الأمر، قبل ذلك، في ما ينبغي أن يتولاه «المؤتمر الدُّستوري» المزمع عقده خلال ما تبقَّى من الفترة الانتقاليَّة. انفضاض هذا المؤتمر، أو انتهاء الفترة الانتقاليَّة نفسها، دون إنجاز هذا التَّوافق، من شأنه أن يعيد «القوى الحديثة» إلى ذات الخيار الصِّفري الذي ينزع من بين يديها زمام المبادرة، ويضعه في أيدي القوى التَّقليديَّة، شاملة شريحة كبار الجَّنرالات التي ليس لديها، في أفضل الأحوال، سوى «دوائر الخرِّيجين» المصمَّمة على مقاس مصالحها الطبقيَّة لتعود إليها!]

الأحد
دخل مالك بن دينار على حاكم البصرة بلال بن أبي بردة الأشعري، فقال له بلال:
ـ "أدع الله لي".
فردَّ عليه ابن دينار متسائلاً:
ـ "ما، تراه، ينفعك دعائي لك، والمئات على بابك يدعون .. عليك"؟!

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح