الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البادية..موسم الهجرة الى الرمال

يوسف المحسن
كاتب، روائي

(Yousif Almouhsin)

2022 / 4 / 22
السياحة والرحلات


اخضرار على مد البصر، مجاميع من الناس يتوزّعون على مسافات متباعدة، مساحات فسيحة تكتسي بالبساط الاخضر وشجيرات تعود لها الحياة بعد شتاء قارس، عيون ماء ترفع ايقاع تدفقها وطيور تخلع عن حناجرها سبات الكسل.... تلك هي البادية الجنوبية وحكايتها مع الربيع، مكان يصير وجهة الساعين لقضاء العطل والعاشقين للطبيعة ..
بادية السماوة، جنينة لا نهاية لها، تبدأ من النجف الاشرف غربا وتصل الى مدينة البصرة في الجنوب الشرقي، وعلى امتداد الشريط الحدودي مع العربية السعودية، تمثل 64% من مساحة محافظة المثنى و12% من مساحة العراق، قيل بأنَّها آخر معاقل الهواء النقي في بلاد النهرين بعد غزو التكنلوجيا الحديثة بمحركاتها وابخرتها وغازاتها الضارة، اراضٍ منبسطة واودية ومنخفضات، دراسة حديثة اُجريت من فريق باحثين تابع لجامعة الكوفة فأحصت 746 منخفضا بين كبير ومتوسط وصغير، وهي بحسب الارقام التي توصل لها الفريق الذي ترأسه الاستاذ الدكتور حسين موسى حسين الشمري تغطّي مساحة تتجاوز 75970كم2 من المساحة الكلية للبادية الجنوبية العراقية.
ولجغرافية البادية تسمياتٌها الخاصّة فالظهرة هي التل الصغير ومثلها الكاره والفيضة هي الارض المنبسطة وكلها في موسم الامطار تتشح بالحلة الخضراء ضمن تشكيل من صنع الطبيعة يعكس جمال الخَلق الالهي ودقّة انامل الطبيعة في الامساك بفرشاة السحر والروعة، وسكانها يتذوّقون هذه المشاهد في كل مرّة وكأنّها المرّة الاولى، انهم يعشقون الخضرة والبساطة ويعدّونها كنزهم وسرّهم الخفي، وّما يميز البادية الجنوبيّة العراقيّة هو التنوّع في الغطاء النباتي وتوافر المئات من النباتات العشبيّة والحيوانات والطيور النادرة، حيث يقول الاكاديمي والناشط البيئي الذي ترأس المجلس البلدي لناحية بصيه لسنوات احمد حمدان الجشعمي "إنَّ المناظر الطبيعية في فصلي الشتاء والربيع تمثّل تجلّياً جماليّاً يسر الانظار ويخطف العيون ويأخذها في جولة استجلاء لمكامن قدرة الطبيعة على صناعة نفسها، لذلك يشد لها السوّاح الرحال من مختلف الاماكن لإزالة ما اصاب عيونهم من تلوّث بصري بفعل جغرافيا الزحف العمراني، صفو الهواء وعذوبة غدران الماء وجمال الطبيعة والشواء بمكان فسيح والمبيت اياماً وليالي رفقة الشعر والات الربابة والدحة والسامري وتناول القهوة العربية والشاي والسباقات الرياضية ... كل ذلك، يمثل المعنى الحقيقي للترويح في بادية مازالت تحتفظ بفطرة النشؤ الاول".
منتجعات طبيعيّة ساحرة
العاشقون للحياة البرّية يحملون معهم معدات وحوائج الاقامة في المساحات المفتوحة مثل الخيام وادوات اعداد الطعام والتسلية والالعاب وبعيدا عن ضجة المدن والهموم اليوميّة حيث العودة الى الاساليب الحياتية الاصيلة وجلسات السمر الحقيقيّة وليست كتلك التي اعتادوا عليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيما رائحة القهوة العربية هي المهيمنة على الاجواء والاماسي بحسب رامي عبدالله الذي افترش العشب البرّي مع اصدقائه في منخفض هدانيا الطبيعي قرب قضاء السلمان، رامي اضاف "مكان جميل وساحر، منطقة هدانيا، نحن على مبعدة 20كلم من نقرة السلمان، اجواء رائعة وموسم يبشر بربيع وافر، اخضرار يجعلنا نتلمس الجمال الفطري وينسينا اماكن الضجيج والزحامات في المدن".
الزائرون لها يمتلكون خيارات عدّة لتحديد وجهتهم بل ان الصعوبة تكمن في الاختيار حيث يضيف الجشعمي "اهم المناطق التي يزورها السياح هي ناحية بصية التي تمثل لؤلؤة صحراء الجنوب لما تمتاز من توافر بيئتين متكاملتين هما صحراء الحجارة وصحراء الدبدبة ووجود اماكن سياحية طبيعية عديدة فيها مثل وادي الضباع، المخلط، الحنية، الجلتة، ابو الحياص، شقراء، وادي الغضا.... وهنالك مناطق اخرى تتوزّع على طول البادية وعرضها ومنها هدانيا والرفاعية والساعة والشاوية والزهرة وسدير والفوارة وهي اقرب الى منتجعات طبيعية ساحرة".
المطر يرسم خارطة العام
تربية الجِمال والاغنام من قبل البدو في البادية الجنوبية تمرّ بأفضل مواسمها اذا ما هطلت كميّات مطريّة كافية، حيث تكتسي الارض بسجادة خضراء من الحشائش والنباتات، وتمتلئ المنخفضات والفيضات بالمياه لتعود الحياة الى الجذور المتيبّسة، والكميات هذه تعزز خزين المياه الجوفية وتدعم الغطاء النباتي وتوفر مراعٍ شاسعة للحيوانات، وهي عامل مشجع للتوسع في المساحات الزراعية، وغالباً ما تكمل الامطار ما يطلق عليه المزارعون الرية الاولى والرية الثانية لمحاصيل الحبوب وتسقي مزارع الحبوب والخضروات والفاكهة.
وموسم الرعي او مدّة بقاء الرعاة والمربين ومكوثهم في البادية قد يتجاوز شهور الصيف كلّما توافرت مياه في البرك والعيون وقد يعود المربون بمواشيهم وحيواناتهم قريبا من المدن للتزود بالأعلاف والمياه والبدأ بعمليات قص الصوف قريباً من اسواق المدن.
يوميات البدو ليست بالمعقدة بالمقارنة مع العيش في المدن، فيما لعبت طرق النقل دورا بردم الهوّة بين المدينة والبادية من خلال نقل الاحتياجات وتوفيرها وإن بنسب مختلفة، وسكان البادية على تماس مع يوميات سكان المدن التي بدأت بالزحف عليهم بتقنياتها وملوثاتها، فيما حماية التنوّع الاحيائي هو ما يطالب به الدكتور علي حسين حنوش رئيس التجمع العراقي لحماية البيئة والتنوع البايولوجي والذي اُسِّسَ مؤخرا حيث يقول "من الواجب حماية الموارد الطبيعية في البادية وتنوعها الاحيائي من خلال تفعيل قوانين حماية البيئة ومتابعة التجاوزات عليها لتبقى البادية رئة يتنفس منها البلد بشكل عام".
اعشاب ونباتات نادرة
الدعوة التي وجهتها السلطات البيئية في محافظة المثنى الى الجهات الامنية والرقابية لمساندة فرقها التي تتابع عمليات الاستخدام الجائر للنباتات الصحراوية وقلعها بهدف الافادة منها في المقاهي والمطاعم حرّكت الراكد في ملف حماية الغطاء البيئي والنباتي الصحراوي والتنوّع الاحيائي في البادية الجنوبيّة، مدير البيئة يوسف سوادي قال ان عمليات قلع وتجريف تجري على قدم وساق وبشكل عشوائي وسط غياب لجهود المتابعة والرقابة، فيما حذر احمد حمدان من ان مثل هذه الممارسات والسلوكيات المخالفة تترك اثرا وتداعيات هائلة على الواقع البيئي، مؤكداً إنّ شجيرات السدر البرّي والغضا تعرّضت لاستهداف ممنهج وغير منظَّم تحت مسمّى عمليات الاحتطاب، ويضيف "في بادية المثنى توجد انواع من الاعشاب الطبية النادرة والمهمّة مثل شجيرات الرين والقبا والجعث والعلنده وهي نبتات ادْخِلتْ في ميدان البحوث الطبيّة بجامعات رصينة في عالمنا اليوم، مشيراً الى ان "اغلب الدراسات ونتائج الكشوف الميدانيّة اكّدت وجود اكثر من ثلاثمئة وخمسين نوعاً من النباتات الصحراويّة النادرة في البادية الجنوبيّة والتي اختفى الكثير منها في انحاء العالم، ناهيك عن الاستخدامات الاستشفائية لسكان المحلّليّن والتي تستمر منذ عقود وبرهنت على الجدوى والفاعليّة الطبيّة لهذه الاعشاب والنباتات".
حصاد مياه ومحميّات طبيعيّة
وعلى الرغم من المساعي الحكومية لإنشاء محميّات طبيعيّة للحد من عمليّات الرعي الجائر للطبيعة الصحراوية ومحاولات لإنشاء احزمة خضراء تحمي الغطاء النباتي من عوامل التعرية، إلّا ان تحدياتٍ مثل الصيد الجائر والالغام والمخلّفات الحربيّة المتروكة وقلع النباتات النادرة مازالت قائمة وعلى نطاق واسع.
اما مشروع حصاد المياه الذي اُعلِن عنه قبل سنوات بهدف تجميع الكميّات المطريّة في البادية والافادة منها بشكل مثالي لإقامة المشاريع الزراعية الكبرى وتوطين البدو الرُحَّل فمازال في بدايته، فيما يأمل اقتصاديون بأن يتم استغلال الالاف من الهكتارات الصالحة للزراعة عبر احالتها الى الاستثمار الواسع والذي يؤمن السلّة الغذائيّة والمردود الاقتصادي والحفاظ على المساحات الصحراويّة من التجريف، وهو اشار له ضمنا التدريسي في جامعة المثنى الدكتور سفير جاسم.
وكانت وزارة السياحة بوقت سابق وقبل دمجها مع وزارة الثقافة والاثار اتخذت سلسلة اجراءات لتحديد محميّات طبيعية في البادية الجنوبية بهدف الحفاظ على النباتات الصحراوية والحيوانات والطيور النادرة وحمايتها من الانقراض وحماية الغطاء البيئي والتنوع الاحيائي، حيث ارسلت فريقاً بحثيّاً للمعاينة والكشف عن الاماكن الصالحة لإعلانها محميات طبيعية لكن المشروع دخل في طي النسيان، إذ تقول خبيرة البيئة شذى كاظم ان اعلان المحميّات هو اجراء متعارف عليه واثبت نجاحاً في غالبيّة دول العالم لصون الحيوانات والنباتات النادرة وحفظ التوازن الاحيائي.
آخر معاقل الهواء النقي
التجمع العراقي لحماية البيئة والتنوع البايولوجي وهو المحاولة المجتمعية الاخيرة يهدف لإيجاد طرق مبتكرة للحفاظ على ما تبقى من جماليات البيئة عبر الاستعانة بالمنظمات العالمية الاخرى ومتابعة ملف المحميات الوطنية الست التي اعلنت عنها وزارة البيئة (قبل إدماجها مع وزارة الصحّة) في وقت سابق، وايقاف الهدم المتعمَّد للبادية ونشر محددات وقوانين محلّية تصب في صالح الاجناس والاصناف النباتيّة المهددة بالانقراض واعادة استزراع المنقرض منها، مع افكار للمضي قدما بطبع مناهج بيئية وبالاتفاق مع وزارة التربية لتوزيعها بين التلاميذ والطلبة والهدف هو خلق جيل يحترم البيئة ويعي اهميتها.
ومع وجود ثمانين الف مركبة تنفث محركاتها عوادم الهواء في شوارع مدن محافظة المثنى وهو ما يعني مركبة لكل عشرة اشخاص (نسبة تفوق المعدل العالمي) وامام الالاف من الدرّاجات النارية ومولدات الكهرباء الاهليّة ومعامل الطابوق والمصانع والورش والافران التي لا تلتزم بالمحددات البيئية ومقررات اتفاق باريس للمناخ وفي مقابل انحسار للمساحات الزراعية والغطاء الشجري بفعل شُح المياه ومعدلات الملوحة ورمي المخلّفات في المسطحات المائيّة فإن البادية الجنوبيّة هي الفسحة الوحيدة المتبقّية امام السكّان والاهالي ويمكن القول انها رئة المثنى وآخر معاقل الهواء النقي، بادية اشبه بالحديقة الخلفيّة الجنوبيّة من السماوة، ومع كل موسم ربيع جديد يمكن الاستعانة بعنوان الرواية العربية الشهيرة للقول انه موسم الهجرة من الشمال ... الى الرمال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق لإقامة الدولة 


.. -الصدع- داخل حلف الناتو.. أي هزات ارتدادية على الحرب الأوكرا




.. لأول مرة منذ اندلاع الحرب.. الاحتلال الإسرائيلي يفتح معبر إي


.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مناطق عدة في الضفة الغربية




.. مراسل الجزيرة: صدور أموار بفض مخيم الاعتصام في حرم جامعة كال