الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هؤلاءِ كلُّ مَن أحببتُ!

فاطمة ناعوت

2022 / 4 / 24
الادب والفن


خلسة المختلس

من الصعب على المرء نسيان "أولَ" مرة من كل شيء في حياته، بعدما يكتمل وعيه بالحياة وبمن حوله. أول يوم يذهب فيه إلى المدرسة، أول مَن صادقه، أول معلم في حياته، أول كلمة قرأها، أول لعبة جاءته، أول حب في حياته، أول بلد سافر إليها، وطبعا أول كتاب قرأه. بالنسبة لي، وبعد تجاوُز مجلات الأطفال: ميكي وسمير وتان تان، وألغاز "المغامرون الخمسة" للعبقري محمود سالم، وقصص "المكتبة الخضراء" الفاتنة التي كانت تصدر عن دار المعارف بمصر، بعدما تجاوز تلك القراءات التمهيدية الجميلة الأولى، لا أنسى أن أول عمل أدبي رصين قرأته كان رواية "أحدب نوتردام" للفرنسي الرائع "فيكتور إيجو”. وجدت الكتاب ملقىً على أرضية مصعد العمارة التي نقطن بها وأنا عائدة من مدرستي، وكنت آنذاك ربما في السابعة أو الثامنة من عمري. وحرتُ لا أعرف معنى كلمة: "أُحْدُب"؟ هكذا كنت ألفظها. وما معنى "نوتردام"؟ يبدو أنه شيءٌ طلسمي مما اعتدت أن أراه في مكتبة! لكن سرًّا ما سيدفعني للقراءة لتكون أول عمل أدبي أقرأه. صحح لي أبي نُطق كلمة "أَحدَب" وشرح لي ما هي نوتردام، وشرعتُ في القراءة. كوازيمودو وأزميرالدا. الأول رمزٌ للقبح الشكلي والتشوّه الخَلقيّ، فيما الثانيةُ رمزٌ للجمال الجسدي الفاتن. على أن كليهما يجتمعان في جمال الإنسان ورقيّ الروح وطيبة الطوية. أحدبُ، يحمل فوق ظهره نتوءًا شاذًّا يجعل منه أضحوكة باريس القرن الثاني عشر، له عين واحدة والأخرى مطموسة ضامرةٌ. لا يجيد الكلام إلا بلعثمة مرتبكة. مما سيحدو بأهالي باريس لانتخابه "أميرا للحمقى" في احتفالهم السنوي. لم يكن كوازيمودو سوى لقيط وجده راهبُ كنيسة نوتردام على بابها في فجر أحد الصباحات الباريسية الباردة. تركته أمه بِلَيلٍ ربما لدمامته وبشاعة تكوينه. يلتقطه الراهبُ ويربيه ليجعل منه أداةً طيّعة تنفذ أوامره دون تفكير أو إرادة. ويغدو كوازيمودو قارعَ أجراس الكنيسة الضخمة مما يُفقده السمع، لتكتمل عاهاته. أزميرالدا، يعني زمردة، البنت الغجرية التي ترقص في احتفال الحمقى في صُحبة عنزتها التي تجيد السحر. سمراء ممشوقة شعرها جَعِدٌ فاتن. تسلب ألباب الحضور، ومنهم قس الكنيسة، المتزمت، الذي يخطفها ويسجنها في غرفة بأحد أبراج الكنيسة تمهيدًا لحرقها بتهمة السحر والشعوذة وفقًا لقوانين أوروبا القروسطية. يدخل عليها الأحدب محاولا مواساتها لكنها تجفل من بشاعته. أحبها لأنها الوحيدة التي لم تسخر من عاهاته وسقته جرعة ماء حين كبّله القس بالأغلال في ساحة الميدان عقابًا على خروجه من الكنيسة ونشوة الفرح بلقب "أمير الحمقى"، جاهلا بكمّ السخريات التي يضمرها شباب باريس فيما يتوجونه بالتاج الورقي. كوازيمودو أحب أزميرالدا. وهي أشفقت عليه. كان في وجودها حيّةً دليلٌ له على وجود الجمال الإنساني المكتمل. الروح والجسد. لذلك حارب البشرَ جميعًا من أجل الإبقاء عليها. صدَّ بجسده المعوّق بوابةَ الكاتدرائية الضخمة فيما الباريسيون يحطمونها بجذوع الأشجار ملوحين بشعلات النيران طلبًا لرأس الساحرة الملعونة. ولما قتلها القسُّ في الأخير، لم ينتبه كوازيمودو لنفسه إلا وقد قذف بربيبه القسّ من البرج الشاهق ثم جثا على ركبتيه يبكيهما معا قائلا: "هؤلاء كلُّ من أحببت!” ثم يدفن نفسَه معهما حيًّا ليحفر الناس القبر بعد سنين فيجدون هيكليْن عظميين متعانقيْن، أحدهما لفتاة، والآخر لمسخ بشري معوّج الظهر. حين حاولوا فصل الهيكلين يتفتتان عظامًا صغيرة. قرأتُ الرواية عدة مرات، بالعربية والإنجليزية وأحتفظ بنسخة منها بالفرنسية لغتها الأصلية. نحن لا ننسى أول رواية قرأناها ولو بعد مائة عام. لا سيما إذا كان الكاتب فيكتور إيجوو. عرفت تفاصيل الكاتدرائية غرفةً غرفة وبرجًا برجًا وجرسًا جرسًا. وحين دخلتُ كلية الهندسة قسم العمارة بعد ذلك بعقد كامل درسـ الكنيسة في مساقطها الأفقية والرأسية كإحدى أجمل القطع الفنية التي أفرزتها المدرسة القوطية Gothic Architecture في القرن الثاني عشر. شيء يشبه الحلم وأنا أتتبع بقلمي الرصاص كل خطوط الكنيسة. النوافذ الدائرية بزجاجها الملون المعشق، الأبراج الشاهقة، المنمنمات والحفائر والمنحوتات، الأجنحة الطائرة، تماثيل الملائكة التي تَعدُ الخطّاءين بالمغفرة. حتى الأرشيدوق فرولو وكوازيمودو رأيتهما في المساقط داخل بعض أروقة الكنيسة وعند المذبح. كأنني أسير داخلها في صحبة الأحدب الذي لم أره إلا وسيمصا ساحرًا. وحين زرتُ باريس لأول مرة سألني الرفاق أين تريدين أن تذهبي؟ وقلتُ لهم: “كنيسة نوتردام"، بيتي الأول. أقف على ضفة نهر السين وأتأمل البناية الشاهقة، وألمح كوازيمودو يلوح لي من أحد أبراجها هاتفا: تعالي يا عزيزتي، فأنا أحبك أيضا!

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اسفا،
د.قاسم الجلبي ( 2022 / 4 / 25 - 15:11 )
كنيسة نوتردام تعرضت الى حريق هائل،،ووجدوا جثة هامدة في احدى غرفها،والان يتم ترمميها لتعود من جديد ايقنة معمارية ،،خالدة لجميع البشر لزيارتها،،قاسم الجلبي

اخر الافلام

.. إليكم ما كشفته الممثلة برناديت حديب عن النسخة السابعة لمهرجا


.. المخرج عادل عوض يكشف فى حوار خاص أسرار والده الفنان محمد عوض




.. شبكة خاصة من آدم العربى لإبنة الفنانة أمل رزق


.. الفنان أحمد الرافعى: أولاد رزق 3 قدمني بشكل مختلف .. وتوقعت




.. فيلم تسجيلي بعنوان -الفرص الاستثمارية الواعدة في مصر-