الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مَّنْ يتحقق مِن صحة أدلة الإدانة في المحاكمة الغيابية؟

سالم روضان الموسوي

2022 / 4 / 26
دراسات وابحاث قانونية


من خلال ما تداولته الأخبار في جميع وسائل الإعلام عن الغاء أحكام غيابية بحق مدانين بجرائم بعضها جرائم إرهابية وأخرى تتعلق بالفساد وسرقة وإهدار المال العام، وجدنا ان ردود فعل المواطن العادي وحتى بعض السياسيين تنم عن امتعاض، لانهم يعتقدون بان تلك الأحكام صحيحة ولا يجوز نقضها، بينما البعض الآخر من الذين يؤيدون الغائها ونقضها، وان عبروا عن فرحهم بها، إلا انهم عبروا عن امتعاضهم من مجريات المحاكمات الغيابية التي صدرت بحق أنصارهم، وفي كلا الحالتين نرى ان القضاء العراقي كان في مرمى سهام الطرفين، هناك من يعارض الإفراج وهناك من يناصره، وهذا الحال بلا ادنى شك لا يسر أي مواطن، لان التعرض إلى القضاء بنعوت وصفات تقدح باستقلاله وحيدته هو امر خطير، حيث ان استقلال القضاء وحياده هو الضمانة التي يلجأ اليها المواطن عند الاعتداء عليه من أي جهة كانت حتى لو تمثلت بالدولة ومؤسساتها، فضلاً عن كون القضاء المستقل حق من حقوق الإنسان وجميع الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان قد نصت على ان يكون من بين اهم حقوق الإنسان هو وجود قضاء عادل ومستقل وان تتوفر للجاني أو المتهم محاكمة عادلة، وفي ديباجة ميثاق الأمم المتحدة التأكيد على تحقيق العدالة للجميع ومنها "الحق في نظام قضائي نزيه ومستقل" ، وكذلك في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، حيث جاء في مادته (الرابعة عشر) مبدأ حيدة واستقلال القضاء، لذلك فان الحديث عن استقلال القضاء ودعم هذه الاستقلالية لا يعد بحثاً لتمييز القضاء عن سواه، وإنما تعزيزاً وتفعيلاً لحق الإنسان في المحاكمة العادلة، لذلك لابد من استعراض مقتضب عن الجهة التي تتولى التحقق في صحة الأدلة الموجهة إلى المتهم سواء بحضوره أو غيابة عن جلسات المحاكمة وعلى وفق الاتي:
أولاً: ان المتهم الغائب هو الذي يغيب عن جلسات المحاكمة بعد ان حضر احدى جلساتها او كان حاضراً أمام قاضي التحقيق وأحيل إلى محكمة الموضوع (الجنايات او الجنح) ويكون غيابه بغير عذر مشروع، أما المتهم الهارب هو الذي لم يحضر أصلاً أمام القضاء سواء في مرحلة التحقيق أو مرحلة المحاكمة، وهؤلاء تجري إحالتهم إلى محكمة الموضوع (الجنايات او الجنح) لإجراء محاكمتهم غيابياً وعلى وفق ما ورد في المادة (135) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل.
ثانياً: ان قانون أصول المحاكمات الجزائية قد أشار إلى ان محاكمة المتهم الغائب او الهارب تجري على وفق القواعد التي تجري فيها محاكمة المتهم الحاضر وعلى وفق ما ورد في المادة (149/آ) أصول جزائية، وهذا يعني ان تقوم المحكوم ذات الإجراءات فيما لوكان المتهم حاضراً أمامها.
ثالثاً: ان إجراءات المحاكمة الحضورية التي يجب ان تجري في محاكمة المتهم الهارب او الغائب قد وردت في الباب الثالث من أبواب قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تضمنت مبادئ أساسية منها الاتي:
1. علانية جلسة المحاكمة: بمعنى ان الجلسة علنية ويتاح للجميع حضورها سواء من اطراف الدعوى او من الجمهور (أعلامي او مواطن عادي، او مراقب لحقوق الإنسان او غيره)، لان العلانية توفر الشفافية تجاه المحاكمة وسير إجراءاتها، وتبعث الطمأنينة في نفوس الجميع بتحقق العدالة، وتحمي القاضي وهيئة المحكمة من الشكوك التي تثار حولهم، فضلاً عن كونها من مبادئ حقوق الإنسان التي وردت في المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، كما انها من المبادئ الدستورية التي تمثل ضمانة لكل متهم وعلى وفق ما ورد في المادة (19/سابعاً) من الدستور العراقي وما نصت عليه المادة (152) من قانون الأصول الجزائية، وهذا يعني ان المتهم الهارب او الغائب لابد وان تكون جلسات محاكمته علنية ومتاحة للجميع، وعلى وجه الخصوص في القضايا المهمة التي تكون عقوبتها الإعدام في الجرائم الإرهابية وغيرها.
2. عدم جواز محاكمته عن غير التهمة التي أحيل بموجبها إلى المحاكمة وعلى وفق ما ورد في المادة (155/آ) أصول جزائية.
3. كما تتخذ ذات الإجراءات في المحاكمة الوجاهية والحضورية، ومنها تلاوة هوية المتهم وقرار إحالته الصادر عن محكمة التحقيق ومن ثم تتحقق من الأدلة التي جمعها قاضي التحقيق ضد المتهم، لان إحالة المتهم لا تكون إلا اذا توفر دليل للإحالة وعلى وفق أحكام المادة (130/ب) من قانون الأصول الجزائية.
4. ان محكمة الموضوع (الجنايات أو الجنح) تقرر انتداب محامٍ للدفاع عن المتهم الهارب او الغائب وعلى نفقة خزينة الدولة وعلى وفق أحكام المادة (144/آ) من قانون الأصول الجزائية، اذا لم يكن له محامياً هو من منحه وكالة للدفاع عنه حتى لو كان هارباً او غائباً.
5. تتولى محكمة الموضوع (الجنايات والجنح) التحقق من صحة الأدلة المقدمة في القضية ضد المتهم الغائب أو الهارب، والتحقق يكون من خلال سماع أقوال المشتكي ومناقشته من قبل المحكمة أو الادعاء العام، ثم تسمع شهود الإثبات وتامر بتلاوة التقارير والكشوفات وغيرها من الإجراءات وعلى وفق ما ورد في المواد (167 ولغاية 182) من قانون الأصول الجزائية، ولمحكمة الجنايات سلطة قاضي التحقيق بمعنى ان تعيد النظر والتحقيق في كل الإجراءات المتخذة في مرحلة التحقيق وعلى وفق ما ورد في المادة (163) من قانون الأصول الجزائية.
6. بعد ان تكمل تحقيقاتها، وكل هذا يجري بغياب المتهم، ان تستند في حكمها اذا كان بالإدانة أو الأفراج على الأدلة التي تمت مناقشتها في جلسات المحاكمة الغيابية، وليس لها ان تستند الى أي دليل لم تتم مناقشته من قبلها ولا إلى أي قرينة لم تلاحظها المحكمة ومناقشتها، كما لا يجوز لهيئة المحكمة ان تحكم بعلمها الشخصي ، بمعنى اذا كان القضاة على معرفة تامة بان المتهم مرتكب الفعل وانهم او احدهم شاهده بعينه، فلا يجوز ان يصدر الحكم بناء على ذلك وعلى وفق ما ورد في المادة (212) من قانون الأصول الجزائية، وإنما يجوز للقاضي الذي لديه علم شخصي ان يتنحى عن نظر الدعوى ويقدم شهادته باعتباره شاهد في الدعوى.
7. هذا بعض مما يجب على المحكمة اتباعه عند محاكمة المتهم الغائب او الهارب، ومن ثم تبني المحكمة عقيدتها بإدانة المتهم أو الإفراج عنه على وفق الأدلة التي توفرت وهي (هي الإقرار وشهادة الشهود ومحاضر التحقيق والمحاضر والكشوف الرسمية الأخرى وتقارير الخبراء والفنيين والقرائن والأدلة الأخرى المقررة قانوناً) التي وردت في المادة (213/آ) من قانون الأصول الجزائية.
ومن خلال ما تقدم فان المفروض والمفروغ منه بان المحكمة لا تصدر حكماً غيابيا بحق أي متهم وعلى وجه الخصوص في القضايا المهمة التي تكون عقوبتها الإعدام ومنها الجرائم الإرهابية، إلا بعد ان تتحقق من كل الأدلة المطروحة أمامها وتشبعها تحقيقاً وتدقيقاً، فهذه الجرائم لاتقف أهميتها تجاه الجاني والمجنى عليه، وإنما لها بعد اجتماعي وامني وسياسي مؤثر في المشهد العراقي، والدليل على ذلك سيل النقد والاحتجاج الموجه إلى تلك الأحكام سواء عند صدورها أو عند نقضها وإلغائها، لكن ما ظهر في الآونة الأخيرة من صدور قرارات إفراج عن متهمين كانوا مدانين بجرائم إرهابية ومحكومين بعقوبة الإعدام عنها او من المدانين بجرائم الفساد وإهدار المال العام وسرقته، قد أثار هذا الأمر استغراب الكثير من عامة الناس وحتى من المختصين، لكن الإمر بحاجة الى توضيح وعلى وفق الاتي:
1. ان امر إعادة محاكمة من صدر بحقه حكم غيابي عن جناية عقوبتها الإعدام أو بالسجن المؤبد أو المؤقت ، جائز مهما طال الزمن لان القانون أجاز الاعتراض على الحكم الغيابي في هذه الجرائم لحين القبض على المحكوم او تسليم نفسه، وله ان يعترض وتجري محاكمته مجدداً وهذا ما أشارت اليه المادة (247/آ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية. لذلك لا غرابة او استغراب في إعادة محاكمة المحكومين غيابياً مثلما جرى في الأيام الأخيرة لبعض المحكومين ممن يعملون في السياسة.
2. لكن قد يكون لاستغراب الجميع حضور تجاه الية إعادة المحاكمة عند تسليم المحكوم لنفسه او القبض عليه، حيث نجد ان بعضهم جرت محاكمته مجدداً ولم تستغرق سوى جلسة واحدة، وصدر فيها الحكم بإلغاء قرارها السابق الذي كان يقضي بالإعدام ومن ثم الإفراج عنه، بينما نص القانون يوجب ان تعاد المحاكمة مجدداً وتتم مناقشة الأدلة من جديد بحضور المتهم أي ان يتم الاستماع للشهود مجدداً ومناقشتهم عن شهاداتهم التي كانت سبباً لإصدار الحكم، لأنها بالتأكيد قد اثبتت ان المحكوم قد ارتكب الفعل المنسوب اليه، فاذا انكر عند إجراء محاكمته مجدداً، لابد من مواجهته مع الشهود، ومن ثم النظر في نتيجة المناقشة الجديدة فاذا ثبت صحة الشهادة فان الحكم بالإدانة صحيح ويرفض اعتراضه باستثناء إعادة النظر بالعقوبة إما بالتخفيف او التشديد او بقائها على حالها، أما اذا ثبت كذب الشهود وانهم لفقوا التهمة وانها شهادة زور فلابد وان تتخذ الإجراءات القانونية بحقهم باعتبارهم ارتكبوا جريمة شهادة الزور المعاقب عليها بموجب المادة (252) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل، لكن ما حصل لم يكن فيه أي إجراء ضد أي شاهد كان قد ادلى بشهادته، كما لا يمكن ان نتصور ان الأدلة غير كافية للإدانة لانها غير صحيحة لان المفروض ان تكون المحكمة قد تعمقت كثيراً في تحقيقاتها لان قرارها بالإعدام هو من اخطر القرارات التي لا يمكن تداركها لاحقاً ان تم تنفيذه، كما لا يمكن ان نتصور ان المحكمة قد بنت حكمها على شهادة شخص واحد وعلى فرض انها شهادة صحيحة، لان القانون لا يجيز الحكم أصلاً استناداً إلى شهادة واحدة وعلى وفق ما ورد في المادة (213/ب) من قانون الأصول الجزائية.
ومن خلال العرض أعلاه فان علامات الاستفهام التي وضعها المواطن قبل المختص لها حظ وافر، كما ان هذه الإجراءات نفترض فيها إنها تمت على أساس مهني مستقل عن أي ضغوط خارجية لان القضاء يجب ان لا يخضع إلا لسلطان القانون وعلى وفق ما ورد في الدستور وفي القوانين الأخرى، فهذه الأحكام التي تصدر بالإدانة غيابياً وبعقوبات جسيمة مثل الإعدام، ثم الرجوع عنها عند تسليم المحكوم لنفسه طوعاً وبإجراءات جداً سريعة يكون سبباً للمنظمات الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان بتأشير ملاحظة عن إجراءات المحاكمة العادلة في العراق، وما ورد في التقرير الأخير حول حقوق الإنسان في العراق خير دليل على ذلك لان من بين مؤشراته ان القضاء يصدر احكام دون تروي ثم يرجع عنها لاحقاً، كما انه يؤدي الى إضعاف ثقة المواطن بالأحكام القضائية، لان ذوي الضحايا والمجنى عليهم قد ناضلوا وجاهدوا في تقديم أدلة الإثبات واطمأنوا إلى إنها كافية لإدانة الجناة واكتفوا بها، لان المحكمة قبلتها بعد ان فحصتها، ثم يفاجئهم الأمر بقرار ينقض كل جهدٍ قدموه ويضيّع عليهم حق القصاص العادل من الجناة، وبالنتيجة سينعكس ذلك على الأمن القانوني والمجتمعي، وقد تكون حادثة قتل المتهم الأخيرة أمام أنظار الجميع وبالقرب من بناية المحكمة التي قضت ببراءته في قضاء الشطرة والتي تداولتها وسائل الإعلام، دليلا على انعدام الأمن القانوني، مما يدعونا جميعاً مخلصين إلى تعضيد عمل القضاء ودعم إمكانياته التحقيقية بكافة الوسائل العلمية المتقدمة في فنون التحقيق وعلم القانون وكفاءة القائمين عليه، لان ليس لنا جميعاً سواء كنا حكاماً او محكومين غير القضاء العادل والمستقل والنزيه بديلاً، لان البديل هو الفوضى التي لا تذر ولا تبقي، وأتمنى لكافة السادة في السلك القضائي التوفيق في مهامهم الجسيمة التي قدموا من أجلها قرابين نحرت على محراب العدالة، وان يكونوا على قدر ومستوى تطلعات المواطنين لان أي مواطن اصبح لا يثق بالسياسيين او المتفاعلين مع الشأن السياسي حتى لو كانوا في مناصب يفترض فيها الاستقلال والابتعاد عن السياسة، من الذين يتولون الحكم في العراق وإنما بقيت عين المواطن شاخصة نحو قضاءٍ مستقل يضمن حقوقهم ويحميهم من الاعتداء.
قاضٍ متقاعد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هيومن رايتس ووتش تدين تصاعد القمع ضد السوريين في لبنان


.. طلاب في جامعة كاليفورنيا يتظاهرون دعمًا للفلسطينيين.. شاهد م




.. بعد تطويق قوات الدعم السريع لها.. الأمم المتحدة تحذر من أي ه


.. شاهد - مئات الإسرائيليين يتظاهرون ضد حكومة نتنياهو




.. بعد أن فاجأ الجميع بعزمه الاستقالة.. أنصار سانشيز يتظاهرون ل