الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الممشى وصناعة الأفكار

محمود كرم

2006 / 9 / 16
الادب والفن


جربتُ أكثر من مرة في ممشايَ المعتاد أن أنظمَ أفكاري قبل الشروع بكتابة نصٍ ما ، على إعتبار أن أغلب الذين يكتبون يجدون في ممشاهم خلوة فكرية وصفاءً ذهنياً تساعدهم على خلق الأفكار وبلورتها ..

المشكلة تبدأ معي حينما أكون في طريقي بالسيارة إلى الممشى أبدأ في محاولة يائسة باستحضار الأفكار اللعينة وغير اللعينة ، وبمجرد أن تلامس قدمايَ أرضية الممشى تتلاشى في لحظة خاطفة كل الأفكار التي حاولت جاهداً الإمساك بها ومطاردتها ، وكأن بيني وبينها حالة خصام مستفحلة ..

حاولتُ مرةً أن أتقمص عبقرية ( أفلاطون ) وأبدأ في إثارة الأفكار ومناقشتها مع نفسي في ممشاي ، ولكني تذكرت أن ( أفلاطون ) كان يفعل هذا الأمر بصحبة العبقري الآخر ( أرسطو ) حينما كانا يمشيان معاً في فناء الأكاديمية ، فقلتُ من أين آتي ( بأرسطو ) ، فضلاً عن أن ممشاهما كانت تكتنفه الأجواء الأكاديمية الملهمة للأفكار وتوارد الخواطر ، ولا أدري لماذا دائماً أقع في متاهة التفريق بين أفلاطون وأرسطو ، فلا أعرف مَن منهما كان الأستاذ ومَن منهما كان التلميذ ، كما لا أدري لماذا ( أتخربط ) في معظم الأحيان بين ( هابيل وقابيل ) ولا أعرف التفريق بين مَن كانَ الجيد ومَن كان السيء ، إلا حينما أسأل زوجتي العزيزة لفك هذا الاشتباك الدائم بين الاسمين ..

أعتقد أن الذين لهم قدرة على تنظيم وترتيب الأفكار في خلواتهم وممشاهم يتمتعون في المقابل بنوم هاديء ومريح وعميق في ذات الوقت ، وعلى النقيض من هؤلاء هناكَ مَن لا يجد مكاناً أفضل لِخلق الأفكار والاسترسال بها إلا في الأماكن التي تعج بالضجيج وتكتظ بالصخب ودوي المحركات ، وأتذكر أني سمعتُ عن شاعرٍ مشهور لا يحضرني اسمه لا يأتيه شيطان الشعر إلا على أنغام القطارات ، لذلك كان يلوذ بمحطة القطار ويجلس هناك برفقة قصيدة تولد من رحم سكة القطار ، وفكرتُ أن أفعل الشيءَ ذاته ولكني تذكرت أن الكويت تخلو من القطارات ، ففكرتُ بمحطة الباصات في ساحة الصفاة ولكني أجفلتُ عن تنفيذ هذه الفكرة خوفاً من أن أتهم بالجنون ..

وسمعتُ أن هناكَ فئة من الأشخاص يحبذون الجلوس مع شمعة مضيئة ويفضلون أن يكون ضوؤها خافت بعض الشيء لزوم الجو ( الرومانسي ) الذي يلهمهم زخماً في العواطف والمشاعر ، وللأمانة لم أجربُ هذا الأمر خوفاً من أن تجدني زوجتي على هذه الهيئة وتشيع في العائلة قصة أني تحولتُ إلى شخص معقد يستغني عن نعمة الكهرباء ويلجأ إلى ضوء شمعة ..

وهناك مَن يقول أن الجلوس قبالة البحر ملهمٌ للأفكار والتفكير وجربتُ مرةً هذا الأمر فاختنقتُ من الرطوبة القاتلة ..

وهناكَ مَن يجد أن حالةً من الهذيان المكثف بالحس التأملي تستحوذ عليه حينما يقتنص فرصة هطول الأمطار ويقع تحتها منتشياً ومستحضراً كل تفاصيل ( أنشودة المطر ) السيابية الرائعة ، فينقطع تماماً إلى عالم الأفكار والخواطر ، وأعتقد أن هؤلاء موسميون في الأفكار والكتابة ..

وهناكَ البعض الآخر من الأشخاص الذين لا تتنزّل عليهم الأفكار برشاقةٍ ويسر إلا حينما يكونون نصف ( ثملين ) بصحبة أشهى أنواع النبيذ ، وهؤلاء قد تأتي كتاباتهم مشبّعة بالأفكار والتصورات ( النبيذية ) المعتقة الثمينة وفي أحيان أخرى قد تأتي حسب ـ حالة الجيب ـ متأرجحة بين الثمين والرخيص ..

أعود إلى ممشايَ لأعترف أنه ما زال بخيلاً معي ولم يستطع أن يلهمني شيئاً من خاصية خلق الأفكار وترتيبها وقولبتها والتفلسف فيها ، أما ما يحيّرني ويعذبني ويسبب لي إزعاجاً دائماً ، أن الأفكار لا تداهمني ولا تعبث بمخيلتي إلا حينما أخلد إلى النوم ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناقد الفني أسامة ألفا: من يعيش علاقة سعيدة بشكل حقيقي لن ي


.. صباح العربية | الفنان الدكتور عبدالله رشاد.. ضيف صباح العربي




.. ضحية جديدة لحرب التجويع في غزة.. استشهاد الطفل -عزام الشاعر-


.. الناقد الفني أسامة ألفا: العلاقات بين النجوم والمشاهير قد تف




.. الناقد الفني أسامة ألفا يفسر وجود الشائعات حول علاقة بيلنغها