الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اعاقة التحول الديمقراطي : من المجتمع المدني الى الطائفية السياسية

ثامر عباس

2022 / 4 / 30
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


اعاقة التحول الديمقراطي : من المجتمع المدني الى الطائفية السياسية ( القسم الأول )


المقدمة :
لاريب في إن النص المكتوب يحمل بصمات مجتمعه ويستبطن قيم بيئته ويستطلع تخوم وافعه . بمعنى انه ، وان يحاول إضمار نزوعه إلى الشمولية وإخفاء رغبته صوب الكلية ، فهو مشدود باستمرار إلى آنية اللحظة التي تحفزه وراهنية الحدث الذي يثيره . ومن هذا المنطلق فان الحديث عن هموم السياسة وشجون المجتمع في إطار ظروف وأوضاع تمتاز بسيولة الوقائع وانثيال المعطيات ، قمين بمنحنا المسوغات الواقعية والمبررات المنطقية ، لكي نتناول – باقتضاب شديد جدا"- واحدة من أعقد المسائل وأخطرها في واقع الحياة العراقية المعاصرة ، التي كان الحديث عنها وفيها يعد ضربا" من المحرمات السياسية التي يعاقب عليها القانون بدواعي ( الحرص ) على وحدة المجتمع وسلامة كيانه . تلك هي ظواهر العصبيات الطائفية والعنصرية والقبلية ، التي طالما أعتبرت من أبرز ملامح المجتمع العراقي على امتداد تأريخه الاجتماعي ، فضلا عن طبيعة العلاقة – سلبا" أو إيجابا" – بين تلك العصبيات من جهة ، وبين نزوع المجتمع السياسي المتواصل لإرساء دعائم التحول الديمقراطي المنشود ، عبر إحياء مؤسسات المجتمع المدني التي ما أن تشرع بالولادة حتى تجهض من جديد ، تحت وابل من المزاعم الكاذبة والذرائع الباطلة .
وعلى ما يبدو فان تداعيات الأزمة البنيوية التي ما انفكت تعصف بأركان المجتمع العراقي جراء أحداث التاسع من نيسان قد فتحت مجددا" ملف هذه القضايا الساخنة أبدا" ، ليس من منطلق التوصل إلى تسوية مشاكلها العالقة بين الأطراف المعنية كما يفترض ، وإنما من باب تفاقم أوضاعها وتسعير أوراها على خلفية مظاهر انعدام السلطة السياسية وغياب مركزية النظام وتعطيل هيبة القانون . وهكذا آثرنا طرح قضية انكفاء مؤسسات المجتمع المدني وضمور دورها في الحياة السياسية الجديدة ، نتيجة لتفاقم أعراض العصبيات النازعة إلى التحول من كونها أشكال حضارية متنوعة ضمن نسيج المجتمع الواحد ، إلى كيانات سياسية متعددة ومتقاطعة تهدد مدماك الوحدة الوطنية للمجتمع وتضرب بقوة أسس كيانه المتماسك . آملين من خلال ذلك إثارة النقاش وتحفيز الاهتمام حول هذه القضايا / الإشكاليات ، عسى أن يثوب الفاعلين في هذا المجال إلى حس المسوؤلية الوطنية في هذا الظرف العصيب . ذلك لأن المشكلة الحقيقة تبدأ – كما لاحظ بصواب المفكر برهان غليون – (( عندما يصبح لهذا التمايز الثقافي وجود سياسي مميز ، أي تصبح الأقلية أو الطائفية حزبا" سياسيا" وقناة للسلطة . وتتعقد المشكلة أكثر عندما ترتبط هذه الجماعة بقصد الدفاع عن نفسها أو لأسباب تأريخية موضوعية خارجة عن إرادة كل فرد فيها بسلطة استبدادية أو بدولة أجنبية مهيمنة عالميا" )) .
ولأجل توضيح الإطار العام للصورة وتقريب مدلول تفاصيلها، فقد تضمن البحث على ما يعتقد إنها تشكل المحاور الرئيسية التي أسهمت بتبلور هذا المشهد المفعم بالقلق والمشحون بالمخاوف وهي كما يلي :
• شخصنة السلطة ونسييس الطائفة .
• تغليب الانتماء الطائفي وتغييب الولاء الوطني .
• شرعنة الخطاب الطائفي وتكريس القطيعة الوطنية .

أولا": شخصنة السلطة وتسييس الطائفة ؛

ما من سلطة سياسية تستطيع ، بعد اليوم ، أن تصادر الحق الطبيعي لمكونات المجتمع المدني ، حين تروم التعبير عن خصائصها القومية ، والإفصاح عن تنوعها الثقافي ، والمطالبة بتعيين حقوقها الاجتماعية ، والسعي لتأمين دورها السياسي ، إلا عن طريق توظيف عناصر القسر ، واللجوء إلى أساليب القهر باستخدام العنف المادي والإرهاب الفكري والترويع النفسي ضد أشخاصها ومؤسساتها ، بغية إقصائها سياسيا" وتهميشها اقتصاديا" وتغريبها اجتماعيا" واحتوائها ثقافيا" ، مما يفضي بالسلطة المعنية الإعلان عن إفلاسها السياسي وافتقارها لطابع ( الشرعية ) التي تبيح لها تسويق خطابها وتبرير مواقفها وتسويغ تصرفاتها من جهة ، والإفصاح من جهة أخرى عن تعارضها مع صيغة (المشروعية) التي تجيز لها ممارسة العملية السياسية وقيادة مؤسسات الدولة وأجهزتها على وفق قواعد القانون الأساسي ( الدستور ) والارتكاز من ثم على بقية القوانين السائدة والأعراف المرعية . إذ إن (( النظام الذي فيه يلتهم العنف السياسة – كما يكتب الباحث روبير ريدكر – بحيث تنعدم تماما" كل سلطة سياسية : فيمارس كل من عنف الطبيعة وعنف التأريخ في محل وبدل القوانين ، والحق ، والسلطة السياسية )) .
وغاليا" ما تنجح تلك الأنظمة الاستبدادية لا في قدرتها على لجم تطلعات عناصر المجتمع المدني وتقييد حريتها السياسية وقمع خطابها الفكري وتقويض بنيتها الاجتماعية فحسب ، ولكن أيضا" باستعداء بعضها ضد البعض الآخر بهدف إبقائها رهينة الإحساس بالضعف في حلبة تنافس المصالح ، والعجز في إطار توازن القوى . إلا إن تلك السلطات المتطرفة أو الأنظمة المتصلبة ، لا تلبث أن تواجه أمامها ، إن عاجلا" أو آجلا" ، دوامة المشاكل التي تحاول عبثا" طمسها وإخفائها تارة ، وإهمالها وتجاهلها تارة أخرى ، قد تحولت فجأة إلى عاصفة سياسية مدمرة وتآكل أمني متعاظم ، تكون عواقبها نخر كيان المجتمع المأزوم ، ونسف أسس استقراره الهش ، وتعرية انسجامه الكاذب . الأمر الذي أثبتته على نحو بالغ الدلالة وفائق المغزى أحداث ما بعد التاسع من نيسان ، عقب سقوط النظام السابق . ذلك لأن (( عالم السياسة – كما أجاد الوصف الأستاذ جورج بوردو – هو نظام متحرك وما نسميه استقرارا" اجتماعيا" ليس سوى توازن في القوى .. وان وجود الدولة بالتحديد هو الذي يعطي هذه الجدلية الإطار الذي يسمح في الوصول إلى التجاوز وليس التدمير )) .
وإذا كان من الطبيعي والمألوف ، من وجهة نظر ديموغرافية / أنثروبولوجية ، إن غالبية المجتمعات الحديثة والمعاصرة – المتقدمة منها والمتخلفة على حد سواء – تشتمل على طيف واسع من التكوينات الاجتماعية والعقائد الدينية التي تعكس تعدد أعراقها وتنوع طوائفها ، بحيث يستدل منها على طبيعة المجتمع المعني ، وتشكل بالنسبة له علامة فارقة يتميز بها قياسا" إلى غيره من المجتمعات الأخرى . إلا انه من غير الطبيعي والشاذ في نفس الآن ، أن تتخلى تلك المكونات عن موقعها السوسيولوجي وتغادر طابعها الرمزي ، حيث تمارس وظيفتها في رأب صدوع المجتمع ورتق تشققاته والحفاظ على مرونته ، لاسيما عند حدوث الأزمات الحادة والمنعطفات الخطيرة ، إلى التطلع نحو استثمار ورقة العصبيات الطائفية والعنصرية والقبلية وزجها في أتون تجاذبات نظام المحاصصة السياسي ، في ظل غياب كامل لدولة القانون وانعدام مؤسسات المجتمع المدني ، لاحتمالات أن يفضي هذا الفعل النكوصي إلى تعويض ما خسرته تلك العصبيات من امتيازات سياسية ، واسترداد ما فقدته من مكاسب اقتصادية ، واستعادة ما أضاعته من فرص تأريخية ، دون الأخذ بنظر الاعتبار أن لا علاقة منطقية تربط بين خصائص المجتمع المدني بكل تنوعاته ، وبين النظام السياسي المنبثق عنه والسائد فيه ، إن من حيث الواجب والوظيفة ، كما إنها لا تراعي إن عملية استعادة الحقوق المهضومة ، والحصول على المطاليب المصادرة لا يستلزم في مطلق الأحوال تسييس النوازع الطائفية واستنفار الرموز العنصرية ، وشحذ التهويمات القبلية ، لوضعها في مسار مواز لمسار مؤسسات المجتمع المدني ، لكي تقاضي النظام التسلطي بالقصاص من المجتمع . صحيح إن سائر الاختلافات الاقوامية / القبلية والتباينات الدينية / الطائفية التي تزخر بها المجتمعات الإنسانية كافة ، تتوق إلى تأكيد ذاتها وترغب بتمييز أناها ، بسائق الاعتزاز بخصائص هويتها الحضارية إزاء سواها من الهويات الأخرى ، لاسيما حين ينحل الرابط الوطني وينفرط عقد الثوابت المعيارية ، إبان فترات الحروب السياسية والصراعات الاجتماعية ، مما يضطرها إلى التخندق خلف روابطها الأولية ، والتشبث بأشكال رموزها الدينية ، والدعوة لتوثيق عراها البينية ، من منطلق إن (( الهويات المهددة في وجودها – كما يشير الأكاديمي والباحث غسان سلامة – أو الساعية لإثبات هذا الوجود ، تبحث عن وسائل التمأسس )) . أي إنها تنحو باتجاه تأكيد وجودها وإبراز فاعليتها من خلال تأطير كيانها وتجسيد قدراتها في مؤسسات تمتلك قوة الفعل وتمارس هيمنة التأثير حيال بقية المؤسسات الناشطة في إطار المجتمع بشقيه المدني والسياسي .
والجدير بالملاحظة إن القيام بمثل هذا النشاط المؤسسي ، لا يعد خروجا" على قواعد المشاركة السياسية وصيغ التآلف الاجتماعي ، طالما انه لا يهدف إلى تعطيل آليات المجتمع المدني ، ولا يسعى لإضعاف حقوق المواطنة . ذلك لأن محاولة زج الشوؤن الخاصة بالطوائف الدينية وسواها في أمور الشأن السياسي العام للمجتمع ، سيفضي بالنتيجة إلى شق وحدة الصف الوطني ، ويقود إلى بعثرة قوى التيارات السياسية العاملة على ضمان سلامة التراب الوطني وصيانة مصالح الشعب . ولهذا ولأجل أن تتمكن الطوائف والعصبيات من فرض حضورها الثقافي وتأكيد حقوقها الاقتصادية وبلوغ أهدافها الاجتماعية ، فانه لا مناص لها من التخلي عن فكرة الخوض في غمار السياسة بواسطة الخطاب الطائفي ، كما ينبغي لها التنحي عن ركوب موجة المشاعر الطائفية لغرض الوصول إلى السلطة . حيث إن ذلك سيرجح الاعتماد على معايير المفاضلة والتمايز فيما بين الطوائف الأخرى على أساس حجمها في بنية النظام الاجتماعي ، وقوتها في الإمساك بخياراته السياسية ، مما سيوؤل لاحقا" ليس الأضرار بوحدة مبدأ المواطنة الذي يشكل مرجعية سياسية موحدة لكل أطياف المجتمع العراقي ، بصرف النظر عن طبيعة الانتماء المذهبي أو الولاء العنصري ، حيث تتاح للجميع فرصة المشاركة في صنع القرار المتعلقة بالمصلحة الوطنية العامة، والتمتع بالحقوق السياسية والاجتماعية
والاقتصادية والثقافية على قدم المساواة ، وإنما إلى بروز نوازع الاستئثار وهوامات التسلط ودوافع العدوان
وعليه فقد وجد الباحث العراقي حسن العلوي في أحد كتبه (( إن الطائفية كالقومية ليست خطرا" إذا لم تتحول إلى استحواذ وتسلط على الآخرين واستلاب هويتهم والتعالي عليهم . إن التمييز الطائفي وليس الانتماء هو الذي يجعل المرء طائفيا" )) .
والحقيقة انه متى ما يبدأ النظام السياسي بالانحراف نحو التسلط على شوؤن المجتمع ومؤسساته ، ويشرع بامتهان القمع المنظم ضد المواطنين ، ويمعن بانتهاك الحريات العامة والخاصة ، ويسرف بمصادرة الحقوق المشروعة لمكونات الطيف الاجتماعي ، حينذاك تظهر عليه علائم التحول باتجاه شخصنة السلطة وأقنمة رموزها ، الأمر الذي يستتبع محاربة الرأي الآخر وإقصائه من المعادلة السياسية ، فضلا" عن مناوئة الاختلاف الفكري والعقائدي بكل أشكاله ، وتضييق الخناق على مكونات المجتمع المدني وكبت إرهاصاتها ، بحيث لم يعد بوسع المعارض سوى اللجوء إلى خيارين أحلاهما مرّ ؛ إما الانضواء تحت خيمة النظام والاندماج بآليات علاقاته الاستتباعية والاستزلامية ، أو معارضته والنأي عن ممارساته ، والتالي قبول لعبة التخفي السياسي والتقية الإيديولوجية في أحسن الأحوال ، وإما التعرض لبطش أجهزته البوليسية وطغيان مؤسساته الأمنية في أسوأها . هنا وفي مثل هذه الأجواء الفاسدة والعلاقات الموبؤة تظهر النوايا السياسية وقد تلبست لبوس الحساسيات الطائفية والضغائن العصبيوية محيلة كيان المجتمع المدني إلى ساحة صراعات ضارية لاستثارة الأحقاد القومية الكامنة وتصفية الحسابات الطائفية المؤجلة على حساب ثوابت الوطن ووحدة المواطنة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إدارة بايدن وملف حجب تطبيق -تيك توك-.. تناقضات وتضارب في الق


.. إدارة جامعة كولومبيا الأمريكية تهمل الطلاب المعتصمين فيها قب




.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م