الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدحت الزاهد.. المناضل المهذب

رامى جلال

2006 / 9 / 14
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


قليلة هى المرات التى جلست فيها مع الكاتب الكبير الأستاذ "مدحت الزاهد", ولكننى في كل مرة أخرج بذات الشعور بأننى في حضرة كائن ملائكى لا ينتمى إلى عالمنا الأرضى البشع! فالرجل يتميز بالحكمة والهدوء واللباقة والثقافة والقدرة على تحليل الأمور وربطها ببعضها البعض, إلى آخر هذه القائمة من الصفات النبيلة.. ورغم كل هذه الصفات فإن "مدحت الزاهد" وبحق مثالاً يُحتذى به في التواضع وحسن الخلق, فالرجل يتحدث مع من يصغره سناً وشأناً حديث الند للند, فحين أتحدث معه أرتفع إلى عنان السماء, ولا أشعر أبداً أن بيننا فارق سن يتخطى الثلاثة عقود, أجلس معه وأتأمله ملياً من حين لآخر- دون أن يشعر هو- وأنا لا أصدق أننى جالساً معه بالفعل! وأشعر بسعادة غامرة إذا ما نطق إسمى "رامى", أظننى أسمعها للمرة الأولى..
وأنعكست شخصية "مدحت الزاهد" الرائعة على كتاباته, فنظرة واحدة على أعماله تكفى لبيان مدى روعتها وإحكامها.. ورغم أن الأستاذ مدحت لم يكتب كتاباً متخصصاً في أدب الرحلات إلا أننى أزعم بأنه أفضل من يكتب هذا اللون من الأدب بين أبناء جيله! فمن يتأمل كتبه سيجد أنها لا تخلو من هذه اللمحة التى تختلط فيها السياسة بالإجتماع بالجغرافيا.. فمثلاً في كتاب (عولمة ضد العولمة), يبدأ بوصف دقيق لأحوال البرازيل وتحديداً مدينة بورتو أليجرى (مقر المنتدى الإجتماعى العالمى الذي كان الأستاذ مدحت مدعواً إليه) هذا الوصف يُعيدك إلى أحد كتب أدب الرحلات الرائعة لـ "إبن جبير" أو "إبن بطوطة".. أما وصفه الملحمى للمظاهرة العالمية التى تمت في هذه المدينة فهو يشعرك أن أبطال آرجوس السبعة يحاصرون طيبة أو أن "زيوس" يقود معركته الأخيرة ضد العمالقة.. وحين تقرأ مثلاً وصفه لمدينة "بومباى" الهندية تجد أنك بالفعل قد سافرت إلى هناك ورأيت الأربعة ملايين هندى الذين يفترشون أرصفة المدينة ليلاً, وهنا تجلى نبل أخلاق كاتبنا, فالرجل رفض إلتقاط صوراً للمشهد لأنه رأى أن ذلك "يخدش حياء أسر كاملة"..
والأستاذ مدحت كثير الأسفار, حكى لى يوماً أنه حين ذهب إلى النمسا وتحديداً فيينا ظنه بعض العرب من باعة الجرائد أنه جاء فيينا بحثاً عن عمل فطلبوا منه أن يستفز أى كلب ويجعله يعضه! وحين سألهم الأستاذ مدحت عن السبب قالوا له أن القانون النمساوى حينها سيُجبر صاحب الكلب على التكفل بنفقات علاجه من العضه مما سيوفر له الوقت الكافى للبحث عن عمل! وقد سجل الأستاذ مدحت هذة الواقعة الطريفة وغيرها في مقال حمل عنوان "واقى ضد الرصاص" وكان من أروع ما قرأت.
و"مدحت الزاهد" تنطبق عليه القصيدة التى أرتجلها إدوارد الخراط عند سماعه نبأ موت "شهدى عطية" في المعتقل عام 1961 حيث قال:
مستقتلين.. ولا عمرنا نرمى السلاح من يدنا
مستموتين..نضحك لأيام الجراح إللى أرتوت
من دمنا
وإحنا كده.. من صنع أهوال النضال
عد السنين من عمرنا..
وإحنا كده.. نبدر حياتنا ع الطريق
ترويها أيام الضنا..
تطرح هَنا.. لا جلادين.. ولا سفاحين..
حيغيروا طعم الكفاح من بقنا..
هكذا هو "مدحت الزاهد" مناضل في زمن ضن علينا حتى بأنصاف المناضلين, وسلاح الأستاذ مدحت هو قلمه الذي لا يفارقه ولا يشغله عنه شيئاً فـ "الزاهد" إسم على مسمى; فلم أعرفه ولوعاً بمال أو منصب أو أى شئ آخر, فقط هو مخلص لعمله إلى أقصى درجه ولهذا فهو ناجح إلى الدرجة نفسها.. وقد سبق لمدحت الزاهد أن رأس تحرير إحدى الصحف فتركها إختيارياً بعد أن حولها من المحلية إلى القومية وضاعف توزيعها حوالى عشرة مرات (بحوزتى كشف بأرقام التوزيع) هكذا هم الكبار, ترك الرجل مكانه في رأسة التحرير بعد أن حقق المعجزة.
كنت قد عقدت العزم على إرسال هذا المقال على حالته إلا أن خبراً سمعته جعلنى أقرر تغيير الخاتمة إذ ذكرنى هذا الخبر بواقعة هامة فقررت إضافتها هنا.. الخبر هو إختيار الأستاذ "مدحت الزاهد" نائباً لرئيس تحرير جريدة "البديل" اليومية التى ستصدر في مصر أواخر العام الحالى برئاسة تحرير المفكر الكبير الأستاذ محمد السيد سعيد, وحتى هنا الأمر عادى; فكفاءة "مدحت الزاهد" تؤهله لأن يكون رئيساً لتحرير أكبر الصحف ولكننى حين سمعت هذا الخبر تذكرت على الفور "التجريدة" الأمنية التى حدثت عام 1989 وكانت بمثابة "ضربة وقائية" من الأمن ضد اليسار المصرى عقب إقتحام الأمن لمصنع الحديد والصلب وإستشهاد أحد العمال (عبد الحى محمود), حيث أحتُجز المعتقلين في سجن "أبو زعبل" الرهيب وهناك تمت أكبر عملية للتنكيل بالمعتقلين السياسين, وفي "عرس الدم"- كما أسماه أحد المعتقلين (الأستاذ/ عبد الخالق فاروق)- أخذ جنود الأمن المركزى يضربون المعتقلين بوحشية بالغة إلى أن سقط أحدهم مغشياً عليه بين الحياة والموت, ولم يكن هذا الرجل سوى الدكتور محمد السيد سعيد, و بعد إنتهاء العرس جاء أحد رفاق الدكتور محمد وحاول إسعافه ثم حمله على كتفيه إلى زنزانته, ولم يكن هذا الأخير سوى "مدحت الزاهد".. واليوم, وبعد حوالى 17 عام, يستعين الدكتور السعيد بمدحت الزاهد مرة أخرى, ولكن هذه المرة لا لكى يحمل جسده المثخن بالجراح بل ليحملا معا رسالتهما التى من أجلها ذاقا المرار من قبل.. فهنيئاً للصحافة الحرة بـ "البديل" وهنئياً للبديل بـ "مدحت الزاهد".. المناضل المهذب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون: الانتهاء من بناء الميناء العائم الذي سيتم نقله قر


.. مصدر مصري: استكمال المفاوضات بين كافة الأطراف في القاهرة الي




.. شهيدة وعدد من المصابين بقصف شرقي خان يونس


.. الإعلام الإسرائيلي يركز نقاشه على رد حماس على مقترح الوسيطين




.. صحيفة فايننشال تايمز: الأملُ يتحول إلى ذعر في رفح معَ بدايةِ