الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عشرون عامًا على تجربة الإدارة الذاتية للمصانع في الأرجنتين

توم سوليفان

2022 / 5 / 5
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


ترجمة مرشدي

“تحت سيطرة العمال” هو مصطلح للأسف لم نعتد على سماعه. لكن قبل 20 عامًا، بدأت هذه الكلمات تُنقَش بفخرٍ على السيراميك الذي ينتجه مصنع زانون، ومقره محافظة نيوكين الأرجنتينية. أما كيف تمكن عمال هذا المصنع من فرض سيطرتهم عليه، فهذه قصة مليئة بالدروس المهمة للثوريين.

لم يكن وصول العمال للتحكم بمصنع زانون عفويًا، بل كان نتيجة سنوات من النشاط القاعدي للعمال، والانتصارات الجزئية، وتنامي الثقة والتنظيم بينهم، في ظل أزمة شبه ثورية -انتفاضة أرجنتينازو في ديسمبر 2001.

خلال التسعينيات، كان النظام المتبع في المصنع صارم للغاية، إلى درجة أن أي اتحاد نقابي في غير القنوات الرسمية كان عليه أن يكون سريًا. لكن في 1996، بعد سلسلة من التسريح المخطط للعمال تزامنت مع الانتخابات النقابية، شكل تحرك العمال تحديًا أمام المسئولين ذوي التوجه اليميني ودشن مقاومةً ضد الإدارة. وبعد إضراب دام ثلاثة أيام، تم التراجع عن تسريح العمال، بل وفي المقابل فُصِلَ مدير المصنع من العمل.

كان هذا الانتصار بمثابة ميلاد نوع جديد من الحركة النقابية، التي أدت بعد عامين إلى تصويت تاريخي عندما نجح الجناح النشيط في النقابة (المعروفة بـ”القائمة البنية”، نظرًا لملابس العمال ذات اللون البني الموحد) في الاستحواذ على اللجنة الداخلية في المصنع.

يروي أحد النشطاء في الفيلم الوثائقي “قلب المصنع” الصادر عام 2008، قائلًا: “كل ما نستطيع قوله هو إننا أردنا إحداث تغيير”. ويضيف: “كنا دومًا نعلق أملنا على قائد، ثم ينتهي به أن يخذلنا، لذلك لم يكن ليحدث هذا الأمر. لم يكن أي عضو من أعضاء القائمة البنية ليتفاوض. وهو الأمر الذي كان موضع ترحيب بين العمال”.

منذ ذلك اليوم بدأت تتغير الموازين في النقابة والمصنع. أخذت الديمقراطية الداخلية في التنامي، وتجمعت أعدادٌ كبيرة للتصويت على السياسات. وكان بفضل هذا الإحساس المستجد بالثقة، عندما فقد أحد العمال الشباب حياته، أضرب بقية العمال عن العمل لمدة ثمانية أيام، ثم صوَّتوا على الاستمرار ليومٍ تاسع حتى بعد الحكم على الإضراب بأنه غير قانوني. وفي كتابه المكرس للدور الذي قام به التروتسكيون في الصراع في المصنع، أشار راؤول جودوي، أحد أهم القيادات في زانون، أنه حينما صوَّت العمال بمد الإضراب، بدأوا تلقائيًا في ترديد الهتاف: “العمال متحدون، شئتم أم أبيتم!”.

بالاستمرار في الإضراب هذا اليوم الإضافي قد حصل العمال في زانون على ظروف سلامة محسنة، وطبيب وسيارة إسعاف دائمة الوجود في الموقع، بالإضافة إلى حماية من الفصل والإيقاف عن العمل. وتقاضوا أجرًا مقابل كل أيام الإضراب التسعة. وبذلك، مع انتزاع النقابة التحكم في إجراءات السلامة داخل المصنع، وُضِعَت البذور الأولى للسيطرة العمالية.

طوال عام 2001، ومع تفاقم أزمة اقتصادية كانت حادةً بالفعل، دعت كونفدراليات النقابات بالأرجنتين إلى عدة إضرابات وطنية عامة. وفي ديسمبر، خرجت جموع الطبقات الوسطى إلى الشوارع بجانب الطبقة العاملة عقب القرار الحكومي بالحد من السحوبات المصرفية، مؤشرًا على ميلاد ما أصبح صرخةً حاشدة لجميع حركات التمرد في أمريكا اللاتينية منذئذ، “Que se vayan todos – يجب أن يرحلوا جميعًا”.

قارن كريس هارمان، الماركسي البريطاني الذي زار الأرجنتين أثناء الأزمة، الوضع بأيام الثورة في ألمانيا عام 1923 عندما اقترب العمال أكثر من أي وقت مضى من تولي السلطة في بلدٍ صناعي متقدم. كتب هارمان في مجلة Socialist review البريطانية: “اثنان من العناصر المهمة التي وصفها لينين عن الوضع الثوري كانت حاضرة؛ عدم استعداد الجماهير لتقبل الوضع القديم، وانطباق الأمر ذاته على الطبقة الحاكمة”.

عندما اندلعت انتفاضة أرجنتينازو، كان عمال زانون في خضم معركةٍ شرسة ضد أرباب العمل وحكومة الولاية. أقدمت الإدارة في أكتوبر على إغلاق المصنع، فردَّ العمال باحتلال المبنى. وفي غضون أيام شكَّل العمال حرسًا من بينهم للدفاع عن المصنع، ولجنةً نسائية لعبت دورًا رئيسيًا في تنسيق عناصر متعددة للنضال. وأتى طلاب وعمال من مصانع أخرى للزيارة تعبيرًا عن تضامنهم وللتعلُّم من عمال زانون.

كتب جودوي: “وهكذا تحول العمال الذين كانوا بالأمس رفاقًا قاعديين إلى نشطاءٍ وقادة، في ظاهرة غيرتهم بشكل جذري”. اكتسب الاحتلال دعمًا شعبيًا واسعًا في ولاية نيوكين. وفي جامعة محلية، حيث كان الطلاب يجمعون تمويلًا للإضراب، أشار جودوي إلى أن شعارًا شائعًا كان يتردَّد: “طالب واحد، بيزو واحد. نحن ألوف. آلاف البيزوهات لنصرة إضراب زانون!”.

دارت مناقشات طيلة أشهر احتلال المصنع حول التكتيكات وكيف سيبدو الانتصار. في بادئ الأمر لم يكن هناك إجماعٌ على استمرار الاحتلال. بالتأكيد كان القمع القاسي الذي عانى منه الكثيرون على يد سلطات الولاية مثبطًا لهم. لكن في تلك الأوقات العصيبة نجحت نواةٌ قوية من القادة المبدئيين، في نظام التجمع الديمقراطي الذي أقيم قبل سنوات، في إقناع العمال المترددين بمواصلة النضال وعدم رفع الراية البيضاء.

كانت النقاشات داخل المصنع متأثرةً بقوة بالحركة الأوسع في الأرجنتين. جاءت لحظةٌ حاسمة عندما شهدت انتفاضة أرجنتينازو أعنف يومين في بوينس آيرس في 19 و20 ديسمبر 2001، عندما قتلت السلطات 36 شخصًا على أقل تقدير. في أعقاب هذا القتل، بدأ عمال زانون يدركون أن الانتصار يكمن في استمرار النضال والمضي قدمًا إلى أبعد من ذلك. كانت هذه هي اللحظة الأولى التي تطرح فيها بشكل جدي مسألة مواصلة الإنتاج تحت سيطرة العمال.

خلال مرحلةٍ ما أثناء الاحتلال أتت قاضيةٌ محلية لتشرح للعمال مدى عدم شرعية احتلالهم للمصنع. يروي ألبرتو باريرا، وهو عامل قطاع الأفران في زانون، في الفيلم الوثائقي ما قاله للقاضية:

“انظري، سيدتي، لا أعلم ما هو منصبك، لكن سأقول لكِ، مع كل السنوات التي قضيتها هنا في زانون أُنهِك نفسي في العمل وأقدم التضحيات ولا أغيب يومًا، يمكنك إخراجي، لكني لن أخرج إلا ميتًا. إذا كنتِ تريدين مذبحة على يديكِ، فلا مشكلة. نحن مصممون على المواجهة. لدينا أيدينا وحجارتنا وأكثر من ذلك”.

بحلول مارس 2002، اتُّخذ قرار بإعادة بدء الإنتاج. في البداية لاقى العمال صعوبةً في ذلك. كان يتعين عليهم في المقام الأول الحصول على المواد الخام اللازمة بعد أن رفض الموردون السابقون تزويدها. ولكن بالتوجه إلى المجتمع الأكبر وجد العمال حلولًا. في السابق كان شعب المابوتشي الأصلي في نيوكين يرفض توفير الطين للمصنع، وهو عنصر أساسي في السيراميك. لكن الأمر اختلف بعد سيطرة العمال، وساعد تزويدهم إياه أن يبدأ المصنع من جديد.

يروي أحد نشطاء شعب المابوتشي في الفيلم الوثائقي “زانون: الخيط الأحمر”: “علاقتنا بالمصنع (قبل الاحتلال) كانت محل نزاع، لكن تغييرًا كبيرًا قد جرى على هذه العلاقة عندما استولى العمال على المصنع”. وأضاف: “من هناك بدأت علاقةٌ جديدة قائمة على الحوار والاحترام وعلى احتياجاتنا، مما عزَّز نضالنا”.

إحدى العقبات الأخرى التي ظهرت كانت الحصول على الصناديق. يقول رولو، العضو بلجنة المشتريات، في مقابلة مع أكاديميين من جامعة لا بلاتا الوطنية: “لم يرغب أحد في بيع الصناديق لنا. نشرنا إعلانًا في صحيفة نيوكين وجاء إلينا رجل يصنع علب البيتزا. بدأ في صنع الصناديق بآلةٍ من العام 1900، وأصبح هو موردنا الرئيسي”.

عندما بدأ الإنتاج تحت سيطرتهم، لم يعد العمال لأيام الطاعة الصارمة تحت تهديد الفصل من العمل. بدلًا من ذلك، حدثت ثورةٌ في طبيعة العلاقات بالمصنع. أصبح كل جانب من جوانب الإنتاج، بدءًا من التخطيط والمواد والسلامة إلى الأجور والتوظيف والإنتاج والتوزيع، الآن موجهًا لاحتياجات العمال أنفسهم والمجتمع الذي يضمهم.

انتخب كل قسم من أقسام المصنع منسقًا استمر في العمل لكن بمسئوليةٍ إضافية عن القضايا التنظيمية. انتخب جميع العمال أيضًا منسقًا عامًا للمصنع، وأصبح الجميع يتقاضون نفس الراتب.

إنه درسٌ في الاختلاف الكبير الذي سيطرأ على المجتمع إذا سيطر العمال على وسائل الإنتاج. بدلًا من إنتاج ما يطلبه المدير بدون تفكير، أصبح العمال يقررون ماذا ينتجون. على سبيل المثال، رغبةً منهم في إظهار التضامن والامتنان لشعب المابوتشي، صنع عمال زانون سلسلةً من المنتجات بتصاميم مابوتشي الفنية عليها. وساهموا في مشاريع مجتمعية مثل المستشفيات والمدارس وكذلك التدريب والتعليم للعاطلين عن العمل.

على مدى العقد التالي، واجه العمال العديد من محاولات الإخلاء من قبل الشرطة المحلية. لكن المفارقة كانت أن ضغط السلطات لم يسفر إلا عن مواصلة العمال تنظيمهم المُحكَم. يسرد أحد أعضاء حرس عمال المصنع في مقابلة في الفيلم الوثائقي “قلب المصنع” ما دار من تجهيزاتٍ للدفاع ضد إحدى محاولات الإخلاء في 2003:

“ناقشنا الأمر بصراحة حتى قلنا: أيها الرفاق، نحن مستعدون لفعل أي شيء. دعونا نناقش ما إذا كنا سنستخدم الأسلحة أم لا، وإلى أي درجة نحن عازمون على المضي. وفي تلك الليلة قال العديد منهم: أنا باقٍ، يمكنك الاعتماد عليّ في أي شيء”.

في اليوم التالي، تدفَّق الآلاف من الناس حول المصنع ومدوا يد العون من أجل إفشال الإخلاء. وبعد سنواتٍ من الكفاح، وفي عام 2012، حصل عمال زانون على اعترافٍ رسمي قانوني بسيطرتهم على المصنع، الذي أُعيدَت تسميته FaSinPat، اختصارًا للجملة الإسبانية التي تعني “مصنع بدون أرباب”.

من الناحية الفنية، لا يزال المصنع تحت سيطرة العمال. لكن واقع العزلة القاسي أجبرهم على دمج عناصر إنتاج رأسمالية. إن ديناميكيات الاقتصاد الرأسمالي التي تجبر الشركات على المنافسة تجعل من المستحيل حتى على مؤسسةٍ يديرها العمال الهروب من ضغوط السوق.

ومع ذلك، فإن نضال العمال البطولي مليء بالدروس للاشتراكيين. يُظهِر الأمر كيف يمكن أن يتغير وعي العمال من خلال النضال وكيف تسنح الفرصة لهم لممارسة السلطة بصفتهم فصيل من الطبقة التي ينتمون إليها بدلًا من كأفراد منعزلين. وتتجلَّى هنا أهمية بناء حركات عمالية مستقلة عن القادة النقابيين تعطي الأولوية لاتخاذ القرارات الجماعية. ونرى أيضًا أن العمال ليسوا بحاجة إلى أرباب عمل لتشغيل الإنتاج لأنفسهم.

في النهاية ربما يكون أفضل تلخيص لإرث زانون هو قول جودوي:

“في بعض الأحيان، بدلًا من أن أقرأ لابنتي الحكايا، أروي لها قصصًا عن الثورة الروسية أو من البيان الشيوعي، وتقول “يبدو هذا جيدًا لكنه لن يحدث أبدًا”. عندما بلغت الخامسة عشر، أعطتني صورةً لمسيرةٍ شاركت فيها، لأنها ناشطة، وقالت: “عندما أخبرتي بهذه الأشياء، فكرتُ أن نوايا هذا الرجل جيدة، لكنها أمورٌ لن تتحقق أبدًا. الآن بعد أن رأيت ما فعلته في زانون، بتُّ أعتقد أن كل هذا ممكن”.

* المقال بقلم: توم سوليفان – موقع “ريد فلاج” الأسترالي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمات أحمد الزفزافي و محمد الساسي وسميرة بوحية في المهرجان ا


.. محمد القوليجة عضو المكتب المحلي لحزب النهج الديمقراطي العمال




.. تصريحات عمالية خلال مسيرة الاتحاد الإقليمي للاتحاد المغربي ل


.. موجة سخرية واسعة من عرض حوثي للطلاب المتظاهرين في أميركا وأو




.. فرنسا: تزايد أعداد الطلاب المتظاهرين المؤيدين للقضية الفلسطي