الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية -متاتي- مذكرات عاهرة في مهمة وطنية... !

الغربي عمران

2022 / 5 / 7
الادب والفن


غلاف يعيد القارئ إلى زمن صور الأسود ولأبيض. الملكية في مصر، والاستعمار الإنجليزي. صورتان مدمجتين، السفلى لرواد مقهى يعتمرون طرابيش وبرانيط أفرنجية، وأعلاه رجلان شخصان بتركيز، وكـأن ما يتابعانه مثير.
"متاتيا "، عنوان غير مطروق، ليتبين من خلال المتن أنه أسم لمقهى قاهري عيق، اندثر وأنشأت مكانة عمارة بمحلات تجارية مختلفة، المقهى كان يتجمع سميعة حكواتي قدم من الشام، وأستقر في القاهرة، يعزف على ربابته مستعرضا سير وملاحم أبو زيد وعنترة والزير...
"إلى الحكائين في كل انحاء المعمورة... إلخ" إهداء لطيف يتصدر الصفحة الخامسة من الرواية، ومن خلال كلماته نستشف اللمسة الإنسانية للكاتبة، وقد نثرت تقديرها شرقا وغربا لحكائين كل العصور.
الرواية صادرة عن دار المفكر العربي للنشر والتوزيع، القاهرة أواخر العام 2021.
تمتطي الكاتبة موجة استدعاء شخصيات أزمنة مضت، مقتفيه أثر العشرات من الكتاب والكاتبات، مثل الروائي محسن الغمري في روايته "أفندينا" الذي تدور أحداثها حول أحد أبناء محمد علي باشا. والروائية ريم بسيوني التي لها أكثر من رواية أبرزها "أولاد الناس" لشخصيات مملوكية، و"ليلة يلدا" رواية لغادة العبسي تحكي حياة حافظ الشيرازي. .. وغير تلك الأعمال لمصريين وعرب وأتراك ومن جنسيات مختلفة ناقشوا في أعمالهم حيوات شخصيات عصور مختلفة كان لها أثر على مجتمعاتها.
الروائية جمعت في بداية "متاتيا" رضوان القادم من الشام وحميدة المصرية. الذي يتزوج بها ويستقر في القاهرة ، يعزف على ربابته ويحكي أبطال السير الشعبية، موزعا ساعات نهاره من مقهى إلى آخر، بعد موته يرث ابنه حمد عشقه للعزف والحكي. أما حميدة فكانت قد ورثت بيت في شارع محمد علي عن والديها بعد موتهما بتسمم غذائي، كما ورثت الفرقة الشعبية المكونة من راقصة وقانونجي وطبال. لتديرها حميدة وتغني بصوتها الجميل في مناسبات يطلبون إليها. مكونين أسرة فنية متجانسة.
الرواية بدأتها الكاتبة بفصل تمهيدي حكائي، وكأنها تحاور نفسها عما يمكن حبكة من حكايات، حوار ذاتي لم يطول. لنعرف بأن ذلك التمهيد لم يكن إلا لجميلة، تلك الشخصية التي لم يذكر اسمها حتى الفصل العاشر من الرواية، حين تولت دفة سرد الأحداث، ليسترجع القارئ ما قرأه في الصفحات الأولى ويعرف أن من كان يحاور نفسه ما هي إلا جميلة. تتحدث عن مذكراتها، باحثة عن تقنية لتبويبها وطباعتها، تلك المذكرات التي تحولت إلى مشكلة تؤرقها، وقد أخذ رجال "الضبع" يلاحقوها في محاولة للوصول إليها قبل نشرها، تحاور جميلة نفسة في الفصل الأول "سأبدأ بالحكي كما وعدتك "يا صديقي الصدوق" واضع كل قصة على لسان صاحبها إلى أن يأتي دوري في الحكاية". وتستمر في جدل مع نفسها: "سيعلمون من أسمي على الكتاب، عن أي شيء أتحدث، حتى لو أسميته رواية، وحتى لو كنت مأخوذة من عالم الخيال، فالرواية ياصديقي كالبحر، بل كالحرب، خداع البحر ملموس بسحب الضحية إلى القاع، أما الحرب خدعة ومراوغة، وسياسة قذرة تلعب على كل الأوتار...". وتستمر في صفحة أخرى: "قد يمحو الأوزار الاعتراف على متن الورق، فيجري القلم على الصفحات، ليسطر تاريخ المدان، تائبا بالنيابة عني. لست بقديسة، ولا عاهرة، ولا أدعي وطنية غرسها كل عزيز على قلبي، وأخذت بناصيتي إلى أسفل سافلين...". تلك مقتطفات من جدلها وتساؤلاتها مع نفسها على صفحات الفصل الأول.
تسعة عشر فصلا، هي فصول الرواية، لكل فصل عنوان وعتبة مجتزأة لأحد الأدباء أو الفلاسفة، وكل عتبة تمثل نص قائم بحد ذاته، في الوقت الذي أرادته الكاتبة أن تكون مفتاحا للفصل الذي يليها.
من تلك العتبات "أذهبوا بي عند موتي،
سلموا معشوقي جسدي،
إن قبل شفتي الجافة،
ثم رد لي الحياة، لا تتعجبوا. من رباعيات الخيام".
وأخرى لشمس التبريزي: "إن دعوت الله أن يرزقك راحة البال، فلا تستعرب هجران الناس لك".
وثالثة لجلال الدين الرومي: "الوداع لا يقع إلا لمن يعشق بعينيه.. أما ذلك الذي يحب بروحه وقلبه، فلا ثمة انفصال ابدا".
ورابعة لمحمود درويش: "دون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان". ولغادة السمان: "أي هروب؟!
ما دامت الأشياء تسكننا...
ما دمنا حين نرحل هربا منها...
نجد انفسنا معها وجها لوجه".
وأخرى لصلاح جاهين: "خرج ابن آدم من العدم قلت: ياه. رجع ابن ادم للعدم قلت: ياه. تراب بيحيا، وحي بيصير تراب، الأصل هو الموت وإلا الحياة؟. عجبي!!".
وهكذا تستقبل القارئ قبل كل فصل عتبة مختارة. وقد بوبت الكاتب روايتها تبويب جميل، مزجت بين نصوص العتبات، ومتون بنيت من حكايات متتالية، لشخصيات تحكى يتوالى ظهورها لينتهي دورها، ثم تأتي شخصيات أخرى، وهكذا، يشب الصغار، مثل حمد، أو راشيل، وحتى جميلة... لنجدهم في فصل لاحق كبار دون تمهيد، دون مقدمات. حتى الموت يأتي الآخر عرضي فلا معرفة للأسباب أو غير ذلك. مثلا يذكر موت رضوان ضمن سياق الأحداث، وهكذا معظم الشخصيات. حيوات متداخلة على مدى تسعة فصول دون بروز شخصية أو موضوع محوري، وكأن كل شيء تساوى. إلى الفصل العاشر والذي جاء بعنوان "البداية"، في الصفحة (113)، حين برزت ""جميلة" أم وجدة. وكأن الحياة عجلة ناعورة تدور لتقذف بهم إلى الحياة كما تقذف بالمياه إلى الساقية لتذهب غائرة بين التراب. وجميلة هي نتاج لزوج حمد المصري براشيل اليهودية بعد زواجه من عزيزة وبدرية وسنية الواتي لم يخلفن له، حميدة أم حمد ظلت رفضة لزيجة ابنها حمد براشيل، لكنها تقبلت جميلة لتكلف خالتها الثلاث بالعناية بها. تقتل راشيل وتشب جميلة ولا تعرف غير جدتها حميدة وخالاتها زوجات والدها الثلاث.
جميلة التي سطرت التمهيد، لتترك لشخصيات تسعة فصول تتناوب على الحكي، حتى الفصل العاشر لتتوالى سرد أحداث بقية الفصول حتى النهاية.
تغترف من ذكرياتها أن أحد المخبرين "الضبع" عقد مع زوجها "يعقوب" صفقة تطليقها، واتخلى عنها، لتعمل تحت اشراف رجال "الضبع" ضمن فريق من الحسناوات لاصطياد من يستهدفونه تحت بإغراء، وعلى فراش اللذة يستحلبن ما يخطط له. تستمر جميلة تمارس العهر لخدمة الوطن ثلاث سنوات، بعدها يصحبها الضبع إلى باريس لتكون خالصة به، وهناك يظهر الياس لبناني كان ضمن عدة أشخاص يستعين بهم الضبع في صفقاته المشبوهة، يتفق معها على انقاذها، بمساعدتها على الفرار من باريس ونقلها لتستقر في بيروت، وهو من أصبح صديقها الصدوق، نصحا لها بتدوين مذكراتها بعد أن حكت له عن دعارة مارستها لخدمة الوطن على مدى سنوات. ضل سندها لسنوات حتى توفى.
المذكرات شغلت الضبع وشبكته خوف فضحهم بنشرها. وقد أصبحت محور السرد من الفصل العاشر، وحتى نهايتها .
"جميلة" الشخصية الرئيسية للرواية، ومذكراتها المحور الأساسي. فبعد أسدل الستار على حياة جيلين، هما جيل الآباء: حميدة ورضوان، والأبناء راشيل وحمد. بدأ الفصل العاشر وكأنه رواية مستقلة، يحكي حيوات ثلاثة أجيال آخرين: آباء وهما جميلة ويعقوب، وبناء، هما، علاء وجمال، وجيل ثالث الأحفاد سامح وسارة.
جميلة التي اخذت تحكي ماضيها، بداية من زواجها بالمخرج يعقوب، وارتزاقهما ثلاثة أطفال توفى أحدهم وعش، علاء وجمال. ثم تعود لتحكي حاضرها وقد أصحبت جدة لسماح وسارة، تحكي حياة المنافي من باريس إلى بيروت هروبا، ثم العودة إلى القاهرة، ومحاولة الاستقرار، إلا أن تلك المذكرات شكلت تهديد على حياتها لتفر وتستقر في لندن.
ليجد القارئ في الفصول العشرة الأخيرة ما أفتقده في صفاحات الفصول التسعة الأولى، حياة تماهي حميدة برضوان وحمد وبراشيل وعزيزة وبدرية وسنية، فلا شخصية محورية، ولا قضية، عدم وجود عمود فقري واضح تدور حوله الأحداث. في الفصول التي تحكيها جميلة أي من العاشر، نجد تلك المذكرات والخوف من سلبهم، تسرد تلك الحياة التي عاشتها بداية من زواجها بيعقوب ونجاحها كنجمة سينمائية، إلى طلقها لتتحول من نجمة أفلام سينمائية، إلى مطية يعتليها من تشير السلطة بهم، تحت شعار خدمة الوطن.
تتغير الشخصيات والأمكنة، وتتغير اللغة التي كانت مطعمة فيما سبق بمفردات قديمة، إلى لغة معاصرة، على لسان الراوية جميلة، حتى إيقاع الأحداث زادت حدته، بتقليص مساحات الوصف الذي تسم في الفصول الأولى بالفضفضة.
ولذلك أتضحت ملامح روايتين في رواية واحدة عنوانها "متاتيا" تشترك في قلة من الشخصيات وتختلف في الكثير من الأمكنة، فالأولى دارت أحداثها في القاهرة، والثانية تفرعت من القاهرة إلى باريس وبيروت ثم عودة للقاهرة لتحل لندن وطن مختار. وهكذا بقية السمات والمفردات، إلا أن الروايتين شكلت عمل واحد فيه من الإدهاش الكثير.
رموز ملفتة ، تمثلت في بيت شارع محمد، مقهى متاتيا ، مذكرات جميلة، تمثال السادات الشمعي. ورموز اخرى أجادت الكاتبة في إيصال أكثر من معنى، والكثير من الدلالات ما أجج الكثير من التساؤلات.
الموت خيم على أحداث الرواية: موت رضون، حميدة، حمد، الياس، عزيزة بدرية، سنية، مقتل راشيل، استشهاد سماح أثناء ثورة فبراير، وتلك الاغتيالات التي يخرجها القتلة كانتحارات، حين تُلقى الضحية من ادوار عليا وكأنه انتحار، وهو ما يشابه بانتحار الفنانة "سعاد حسني".
اخراج متاتيا بتلك الصورة المدهشة لم يأت من فراغ، فالكاتبة لها أصدرت ادبية متنوهة ، منها: في النقد، وخمس مجاميع شعرية، وخمس قصصية وأيضا في ادب الطفل، ورواية بعنوان "الذي عاد إلى هنا". مايشكل تجربة ثرية ومتنوعة خدم ذلك في إخراجها لهذا العمل المتميز.
لم تكن من شخصيات تقليدية عدى قلة، وذلك ما يجعل القارئ يعيش لحظات إدهاش متوالية من تقلب طبائع نوازع شخصيات هذا العمل، يعقوب زوج جميلة الذي يحبها، يتخلى عنها فجأة ضمن صفقة مشبوهة مع الضبع. ابنيهم جمال وعلاء لم تكون حياتيهما في نسق واحد، جمال بدأها محبا للفن منطلقا في الحياة، ليتحول إلى كائن يعمل ضمن جماعة تجار الدين، بفكر سلفي متشدد. علاء تسحبه الحياة من طبيب أسنان إلى تاجر ممنوعات ذا صلة بعصابات ونظام فاسد، حتى أصبح اسمه معروف. جميلة لم تكن حياتها على رتم واحد، فهي الطفلة المدللة، ثم الفنانة المشهورة، ثم داعرة بأمر الضبع. مشتتة الأعراق بين أب مصري "حمد" وأم اسرائيلية "راشيل". حياتها بين الدعارة والتوبة، الدعارة بمصوغ رسمي، تحكي "شاركتني نخبة من نساء المجتمع المقاتل من أجل ترابك يابلدي. تم استخدامنا لرفعة شأن الوطن ، وكشف الأعداء الكاشفين لعوراتنا...". تحكي بعد أن أصبحت جدة ، محبة لتراب وطنها، ومشردة عنه، خوف الإيقاع بها. كتبت كل ما عاشته دون خجل، لتفضح من أدخلوها سراديب العفن والرذيلة المقنعة. تلك المذكرات التي تحولت إلى كابوس مروع لسنين عمرها. حاول الضبع الوصول إليها، رغم إقامتها الدائمة في لندن، لكنها بمساعدة حفيدها "سامح" استطاعت طبعها وترجمتها ونشرها في عدة لغات بعنوان متاتيا هذه التي بين أيدنيا.
لينتهي هذا العمل بأحلام ظلت تطارد جميلة: "زيارات حميدة لمتكرر في منامي جعلتني اضمر في خاطري قرارا، اكتب وصيتي...". ما يدلل على رحيلها وهي راضية بتدوين اعترافها كعاهرة!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة