الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوكرانيا وروسيا: حول الفاشية

دييغو روسو

2022 / 5 / 8
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


أحد “مبررات” بوتين لعدوانه على أوكرانيا هو أن حكومة البلاد فاشية أو نازية. ويتردد هذا الاتهام مرارا وتكرارا من قبل اليسار، ولا سيما الستالينيي.


بقلم: دييغو روسو



ليس لدينا ثقة في حكومة زيلينسكي، فهو في النهاية يمثل البرجوازية الأوكرانية، التي طالما باعت بلدها، سواء للإمبريالية الغربية، أو لروسيا. لكن قول بوتين بأن زيلينسكي فاشي هو كذبة فادحة. كذبة لتبرير حرب لا يمكن تبريرها أمام العالم وحتى أمام الجماهير الروسية. تبرير كاذب ككذبة بوش بأن لدى العراق أسلحة دمار شامل، والتي تم استخدامها كذريعة لشن حرب ضد ذلك البلد.
كذبة بوتين استنكرها مئات المختصين بقضايا الإبادة الجماعية، والنازية، والحرب العالمية الثانية في كافة أنحاء العالم، والذين وقعوا على بيان نشرته “البي بي سي”:
“إننا نرفض بشدة إساءة الحكومة الروسية السخيفة لاستخدام مصطلح الإبادة الجماعية، وذكريات الحرب العالمية الثانية، والمحرقة، ومساواتها بين الدولة الأوكرانية والنظام النازي لتبرير عدوانها غير المبرر. هذا الخطاب خاطئ واقعيا، ومثير للاشمئزاز أخلاقيا، ومهين بعمق لذكرى الملايين من ضحايا النازية، وأولئك الذين حاربوها بشجاعة، بمن فيهم الجنود الروس والأوكرانيون في الجيش الأحمر”.
كما أدان القائمون على نصب “أوشفيتز بيركيناو” التذكاري لضحايا معسكر الاعتقال النازي، سيئ السمعة، الغزو الروسي لأوكرانيا، وأعلنوا تضامنهم الكامل مع الشعب الأوكراني، وكذلك مع الروس الذين اضطهدهم بوتين لإعلانهم معارضتهم للحرب.
لكن هذه الكذبة لتبرير سياسة بوتين الإجرامية، ككل الأكاذيب الكبرى، تقوم على عنصر حقيقي، وهو الوجود الفعلي للجماعات اليمينية المتطرفة، وحتى للأيديولوجيا الفاشية، في أوكرانيا. لكن زيف الحجة، في المقابل، يكمن في اعتبار القومية الأوكرانية ككل يمينية متطرفة وفاشية.

المساواة بين اليمين المتطرف والقومية الأوكرانية غير ممكنة

عندما يتعلق الأمر باليمين المتطرف، فإن أوكرانيا، مع الأسف، ليست استثناء بين الدول الأوروبية “البيضاء” الأخرى. اليمين المتطرف، بما فيه النازية – الفاشية، بات يتنامى في العالم كنتيجة ثانوية للانهيار الرأسمالي، إفقار الطبقات الوسطى، وشحذ الصراع الطبقي واستقطابه. إنه يمثل وجها آخرا للبربرية، في ظل أزمة المهاجرين واللاجئين، وتفاقم البطالة، والاستغلال، والجوع، وتدمير البيئة، وجائحة كوفيد -19… الخ. إنه انعكاس لتعفن النظام الرأسمالي الإمبريالي برمته.
القومية – التي تفهم على أنها دفاع عن حقها في الاستقلال الوطني – هي شعور جماهيري في أوكرانيا. لكن الإيديولوجيات اليمينية المتطرفة ليست كذلك. وليس من قبيل الصدفة أن تكون القومية منتشرة في أوكرانيا، فلطالما كانت أوكرانيا دولة مضطهدة، أولا على يد الإمبراطورية الروسية السابقة، ثم من قبل الستالينية. الإمبراطورية الروسية كانت تسمى بحق “سجن الشعوب”، في إشارة إلى أكثر من 160 قومية مضطهدة. وفي نهاية عهد تلك الإمبراطورية، شارك الماركسيون بفاعلية في نضال الشعب الأوكراني ضد الاضطهاد الروسي.
لينين دافع عن حق تقرير المصير لكافة الشعوب المضطهدة على يد الإمبراطورية الروسية، بما فيها الشعب الأوكراني. بالنسبة للينين، فإن قومية الأمم المضطهدة تعد ثورية. لقد حارب من أجل إضفاء طابع طبقي اشتراكي على النضال الوطني، لكنه انخرط أيضا في هذا النضال. كان الحراك من أجل تقرير المصير في أوكرانيا، وكذلك بالنسبة الشعوب الأخرى التي تم احتجازها قسرا تحت الحكم الروسي، حافزا قويا لثورة أكتوبر 1917، والتي كانت أكثر بكثير من مجرد ثورة “روسية”. أوكرانيا، التي ظهرت بعد ذلك للمرة الأولى كدولة مستقلة، بفضل سياسة لينين، انضمت إلى الاتحاد السوفياتي الناشئ آنذاك، بحقوق متساوية مع روسيا وبيلاروس ودول أخرى.
لقد كانت ثورة أكتوبر هي التي منحت أوكرانيا حق تقرير المصير. وهذا هو تحديدا الحق الذي يعتدي عليه بوتين الآن، زاعما ​​أن حق أوكرانيا في تقرير المصير هو عبثية اخترعها لينين والبلاشفة. وقد دعا بوتين إلى “نزع أثر الشيوعية” عن أوكرانيا بالسلاح، على حد قوله، ما يعني القضاء على أي أثر لاستقلال أوكرانيا.
سياسة لينين تجاه القوميات المضطهدة تعد حتى يومنا هذا معيارا لكيفية تمكن الطبقة العاملة من التغلب على الانقسامات الوطنية، وتوحيد العمال ضد المستغلين والمضطهدين. لكنها لم تدم طويلا، حيث أن فرض الستالينية على الاتحاد السوفياتي، والحزب البلشفي، والأممية الشيوعية رافقه تغيير جذري في السياسة المتبعة تجاه القوميات التي كانت جزء من هذا الاتحاد. في الواقع، الستالينية، في هذا المجال تحديدا، برزت كتيار سياسي خاص، معارض لللينينية. وقد حدث ذلك حتى خلال حياة لينين، في الجدل الدائر حول دول القوقاز، حيث دافع ستالين عن سياسة “الاستقلال الذاتي” لجورجيا ودول القوقاز الأخرى، عوضا من حق تقرير المصير، وقد فرض الأمر بفظاظة نموذجية اشتهر بها. وكان هناك رد فعل قوي من الحزب الشيوعي الجورجي. لينين شارك في هذا الجدل، وقد انتقد موقف ستالين بشدة، بل واقترح عزله من منصبه وقطع العلاقات الشخصية معه. كانت تلك آخر معركة للينين قبيل وفاته بقليل. وبفضل تلك المعركة الأخيرة، وهزيمة ستالين بها، تم إدراج حق تقرير المصير في الدستور السوفياتي. هذا الحق طالبت به، لاحقا، العديد من الأمم، التي غادرت، بالتالي، الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينيات، وهذا هو تحديدا ما يهاجمه بوتين اليوم.
ستالين، الذي كان قد هُزم مؤقتا، عاد ليمتطي صهوة جواده بعد وفاة لينين. ولأنه لم يكن قادرا على مهاجمة مادة لينين في الدستور علانية، فقد حولها إلى مجرد حبر على ورق. الستالينية طبقت على الأرض سياستها المناهضة لللينينية، محولة الاتحاد السوفياتي إلى “سجن جديد للشعوب”، وقامت بإخضاع كل من هم من غير الروس قسرا لهيمنة موسكو، وباقتراف المجازر بحق عشرات الآلاف من المناضلين الشيوعيين الذين ظلوا أوفياء لأفكار لينين، ولاسيما التروتسكيين. وفوق كل هذا، اقترف ستالين فعلته عبر تزوير التاريخ، وتقديم سياسته الشائنة على أنها “لينينية”. في ظل الدكتاتورية الستالينية الوحشية، تم قمع كل تيار يساري يدافع عن حق أوكرانيا في الاستقلال الوطني بعنف. وكانت النتيجة الملموسة لهذا هي ترك النضال العادل من أجل حق الشعب الأوكراني في تقرير المصير، والذي تخلى عنه الحزب الشيوعي الستاليني (1)، بين يدي التيارات القومية غير الماركسية.
خلال الحرب العالمية الثانية، رأى قطاع الأقلية من هذه القومية في أوكرانيا المواجهة بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا النازية كفرصة لاستقلال أوكرانيا، وهو الأمر الذي استغله هتلر. يقال الكثير اليوم عن شخصية ستيبان بانديرا، الذي يفترض أنه قاد القطاع المتحالف مع النازية. وهناك الكثير من الجدل بين المؤرخين حول هذا الموضوع، حتى داخل أوكرانيا. بانديرا قضى طيلة فترة الاحتلال النازي مسجونا من قبل الألمان، الذين لم يثقوا به. ومن غير المرجح أن يكون قد لعب الدور التاريخي المنسوب إليه اليوم في قيادة الجيش الأوكراني المتمرد بأكمله، في ظل تلك الظروف. وبالمناسبة، ليس هناك ما يدل على أن الجيش الأوكراني المتمرد قد قاتل الجيش الأحمر. لكنه قاتل قوات “مفوضية الشعب للشؤون الداخلية”، سلف الـ “كي جي بي”، والتي أرسلت لقمع السكان المدنيين، الذين كان يطلق عليهم زورا “البانديريون”، التي تشن حرب عصابات واسعة النطاق ضد السيطرة السوفياتية على المنطقة. صورة بانديرا تم تضخيمها على الأرجح، من قبل ستالين، لتبرير القمع، كما يتم تضخيمها اليوم من قبل بوتين لتبرير العدوان على أوكرانيا. ستالين وبوتين يقدمان خدمة عظيمة لليمين المتطرف في أوكرانيا من خلال خلق “بطل” له. بصرف النظر عن الخلافات حول تاريخ بانديرا، فإن الادعاء بأن غالبية الأوكرانيين تعاونوا مع هتلر هو تزوير كامل، فالمتعاونين كانوا من الأقلية الضئيلة، أما الغالبية العظمى من الشعب الأوكراني فقد قاتلت الغزو النازي حتى الموت.
النضال ضد الستالينية ومن أجل حق تقرير المصير استمر طيلة تاريخ الاتحاد السوفياتي بعد الحرب. حتى في عهد بريجنيف كانت هناك سياسة شديدة لفرض الطابع الروسي على أوكرانيا، وقمع استخدام اللغة الأوكرانية. الانتفاضات في معسكرات الاعتقال وصمت بأنها نظمت من قبل “البانديريون”، تماما كما اتهم التروتسكيون، قبل الحرب، بأنهم فاشيين، ليتم قمعهم بوحشية. أية معارضة للستالينية في أوكرانيا كانت توصف بـ “البانديرية” و”القومية البرجوازية”، التي من شأنها أن تتعاون مع النازية.. كذبة عبثية لها نتيجتها المنطقية في الحرب الحالية. الأقلية التي تعاونت في الواقع مع النازية كانت مرفوضة على نطاق واسع، وليس لديها اليوم سوى وزن هامشي. وبالمناسبة، الأقليات المتعاونة كانت موجودة في كافة البلدان التي احتلتها النازية، حتى في روسيا نفسها (الجنرال فلاسوف، على سبيل المثال).
نهاية الاتحاد السوفياتي في العام 1991، كنتيجة للثورة الهائلة التي أطاحت بالأجهزة الستالينية السوفياتية، كانت تعني تحريرا جديدا لأوكرانيا، وضمانا لاستقلالها، رسميا، عن روسيا. لقد لعب نضال القوميات المضطهدة ضد القمع الروسي، مجددا، دورا رئيسيا في هذه الصيرورة الثورية. لكن الرأسماليين الروس الجدد، القادمين من الحزب الشيوعي القديم، والـ “كي جي بي”، والذين استعادوا الرأسمالية في البلاد، لم يقبلوا أبدا بهذا الاستقلال الجديد لأوكرانيا.
وصول بوتين إلى السلطة عام 1999 دفع البرجوازية الروسية إلى إعادة فرض سيطرتها على أوكرانيا، وكامل المنطقة التي كانت جزء من الاتحاد السوفياتي. روسيا تبتز أوكرانيا كل شتاء بالتهديد بقطع إمدادات الغاز إذا لم تقبل الزيادات المفروضة في الأسعار، غير المستدامة لاقتصادها. سياسة بوتين هذه أدت إلى ثلاث عمليات: 1) مديونية أوكرانيا الخارجية لروسيا، التي طالبت لسدادها بالسيطرة على خطوط أنابيب الغاز التي تعبر الدولة التي تربط روسيا بأوروبا الغربية. 2) مديونية أوكرانيا للدائنين الغربيين لتغطية ديونها المستحقة لروسيا، ما يزيد من اعتمادها الاقتصادي على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. 3) شعور متزايد باضطهاد الأمة من قبل روسيا، والاستياء من هذا الوضع. كانت نتيجة هذه السياسة دفع أوكرانيا أكثر فأكثر نحو الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف الناتو.
عندما اندلعت الثورة الأوكرانية عام 2014، والتي تدعى بثورة الميدان، أخيرا، وجد الشعب الأوكراني المناضل نفسه يتيما من بديل اشتراكي يدافع عن حقه في تقرير المصير، لأن “اليسار” الأوكراني بأكمله، الذي تربى على يد الستالينية، انحاز إلى روسيا، ودعم الديكتاتور يانوكوفيتش، الذي تمت الإطاحة به لاحقا في الشوارع والحواجز.
كان أي عامل أو شاب يقاتل على المتاريس ضد حكومة يانوكوفيتش قوميا، إن جاز التعبير. لكن قلة منهم فقط كانت من اليمين المتطرف.
لذا، ليس من المصادفة وجود تيارات يمينية متطرفة في أوكرانيا، فغياب التيارات الاشتراكية القوية للدفاع عن حق أوكرانيا في تقرير المصير، مع دعاية بوتين والستالينية حول “الملوّحين بالأعلام”، تخلق الظروف المواتية، في سياق أزمة اقتصادية عالمية، لظهور مثل هذه التيارات.

لكن هل أوكرانيا فاشية بعد كل شيء؟

رغم كل هذه الأسباب الحقيقية الملموسة لتعزيز القومية في أوكرانيا، تبقى الحقيقة أن التيارات اليمينية المتطرفة لاتزال هامشية في المجال السياسي للبلاد. في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2019، حقق المرشح الذي وحد الجماعات اليمينية المتطرفة نسبة لا تذكر: 1.6٪. وفي الانتخابات التشريعية التي جرت في العام نفسه، بالكاد حصلت القائمة الموحدة لليمين القومي في البلاد على 2٪، وهي نسبة لا تكفي للفوز بمقعد واحد في برلمان البلاد: “الرادا”. في الواقع، كان وزن هذه المنظمات يتناقص على مر السنين. في انتخابات الرادا عام 2012، قبل عامين من أحداث الميدان، حصل اليمين المتطرف على 10.44٪ من الأصوات. وفي انتخابات العام 2016 تراجعت القائمة الموحدة لليمين القومي إلى 6.4٪، وإلى 2.15% فقط عام 2019. الفاشية لا علاقة لها بالشعور القومي العميق للشعب الأوكراني وتوقه إلى الاستقلال.
في البلدان الأوروبية الأخرى يحصد اليمين المتطرف عددا أكبر بكثير من الأصوات، مثل فوكس في إسبانيا (15٪ عام 2019)، وتشيغا في البرتغال (7٪ في 2022)، والفجر الذهبي (2) في اليونان (4.9٪ عام 2019)، والبديل لألمانيا (10٪ في 2021)، وحزب الحرية في النمسا (16٪ في 2019).. الخ. في فرنسا، تمكنت جبهة مارين لوبان القومية من الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية للعام 2017. ولا ننسى ترمب في الولايات المتحدة أو بولسونارو في البرازيل.. وإننا لا نعد هذه البلدان فاشية بسبب تلك النتائج.
أولئك الذين يقولون إن أوكرانيا فاشية يجادلون بأن القطاعات اليمينية المتطرفة متواجدة في أجهزة الدولة الأوكرانية، وحتى في القوات المسلحة.
لأنه عندما رد بوتين على ثورة الميدان عام 2014 بضم شبه جزيرة القرم واحتلال جزء من دونباس بالمرتزقة، كان قد تمكن من ذلك دون مقاومة تذكر من الجيش الأوكراني، الذي تم تدميره، نظرا لأنه كان مواليا لحكومة يانوكوفيتش المخلوعة، حيث كان يتألف إلى حد كبير من الضباط الموالين لروسيا. في ظل هذا الغياب للقوات النظامية تشكلت مجموعات من المتطوعين لصد الغزو الروسي شرقي البلاد. هؤلاء المتطوعون، الذين يفتقرون إلى البديل اليساري، نظموا أنفسهم في مجموعات كان توجهها الأيديولوجي الوحيد هو الاستقلال والقومية الأوكرانية. كانت هذه المجموعات عبارة عن مظلة كبيرة، تؤوي كل من أراد القتال من أجل وطنه، من خلفيات متنوعة للغاية. في هذا الفضاء، كانت التيارات اليمينية المتطرفة نشطة أيضا، لكنها لم تكن مهيمنة على الإطلاق. التيارات اليسارية اختفت مرة أخرى. كما كانت هناك سياسة للبرجوازية الأوكرانية لدمج هذه المجموعات القومية في القوات المسلحة النظامية، من أجل السيطرة عليها.
كتيبة آزوف التي يستشهد بها كثيرا هي جزء من هذه الصيرورة. لقد تشكلت عام 2014 من المتطوعين لمحاربة العدوان الروسي في دونباس، ثم شاركت في تحرير مدينة ماريوبول، ما سمح لها بالحصول على شيء من الشرعية. بعد ذلك تم دمجها في الحرس الوطني الأوكراني، الذي توجد فيه عدة تجمعات، أهمها الفيلق الوطني، وهو في الواقع مجموعة يمينية متطرفة.
هذا يعني أن ظهور هذه المجموعة اليمينية المتطرفة هو نتيجة للعدوان الروسي على أوكرانيا، أي نتيجة مباشرة لسياسة بوتين. حتى كتيبة آزوف، التي اتهمها بوتين بشن “إبادة جماعية” ضد السكان الناطقين بالروسية في شرق أوكرانيا، تتكون هي نفسها من أشخاص “ناطقين بالروسية” من سكان الجزء الشرقي من البلاد.
هناك جدل في المجتمع الأوكراني حول ما إذا كان يجب حظر هذه الكتيبة. تتمتع كتيبة آزوف بدعم سياسي ضئيل بين السكان، رغم كونها جزءاً من القوات شبه العسكرية التي تقاتل العدوان الروسي. وكانت هذه الكتيبة قد خاضت مؤخرا غمار الانتخابات الأوكرانية وفشلت فشلا ذريعا، بتصويت غير تمثيلي على الإطلاق. وفقا للـ “بي بي سي”، فإن الفيلق الوطني لكتيبة آزوف لديه اليوم 400 مقاتل فقط. ولكن إذا منحته الحرب مزيدا من السلطة في البلاد، فسيكون هذا مسؤولية بوتين بالكامل، فهو الشخص الذي يمنحهم الفرصة للظهور كأبطال أمام الشعب الأوكراني.
وكنتيجة طبيعية لهذا، كان شبان يمينيون أوكرانيون متطرفون قد احتفلوا بعيد ميلاد هتلر في مدينة خيرسون عام 2020، وقد تم اعتقالهم ومحاكمتهم وإرسالهم إلى السجن، حيث مازالوا قابعين فيه حتى يومنا هذا. وهذا لا ينسجم مع أسطورة “الدولة الفاشية في أوكرانيا”.

الحظر المزعوم لـ “أحزاب اليسار” في أوكرانيا

حجة أخرى استخدمتها الستالينية هي أن الحكومة الأوكرانية حظرت الحزب الشيوعي الأوكراني، وأنها قامت الآن، مع اندلاع الحرب، بحظر العديد من الأحزاب “اليسارية”.
في أوكرانيا، على عكس روسيا، هناك حرية للتنظيم الحزبي، تحققت عبر ثورة العام 2014. هناك أكثر من 300 حزب سياسي مسجل في أوكرانيا. وقد تم حظر أربعة منها منذ العدوان الروسي في العام 2014، لكن ليس لأنها يسارية.
الحزب الشيوعي الأوكراني، وثلاثة أحزاب يمينية أخرى تم حظرها، ليس بسبب خطها الأيديولوجي، بل لدعمها ديكتاتورية يانوكوفيتش وقمعها للشعب، والذي كلف أكثر من 100 حالة وفاة، ولقيامها بدعوة روسيا علانية لغزو بلادها بالقوات العسكرية!
لتزيد الأمر سوءاً، قامت هذه الأحزاب الأربعة بدعم روسيا في ضمها لشبه جزيرة القرم، واحتلالها جزء من دونباس بالمرتزقة، بل وتعاونت مع العدوان الروسي ضد بلدها! ما هي الدولة، على وجه الأرض، التي تسمح، في خضم عدوان عسكري أجنبي، لأي حزب بدعمه، والتعاون بحرية مع العدو الذي يحتل أرضها عسكريا؟
لكن رغم العدوان الروسي في العام 2014، لاتزال الأحزاب الموالية لروسيا تشارك بحرية في الانتخابات بأوكرانيا منذ ذلك الحين. على سبيل المقارنة، سيكون من غير المتخيل أن يشارك حزب مؤيد لأوكرانيا في الانتخابات بروسيا، حيث مجرد القول بوجوب إعادة شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا يعاقب عليه بالسجن لمدة 20 عاما بتهمة التطرف..
الآن، خلال الحرب، تم حظر منظمات أوكرانية أخرى تدعى باليسارية. دعونا نرى ما يقوله اشتراكي أوكراني عن الأمر:
“لسوء الحظ، فإن “العملية الخاصة” تعزز النزعات الاستبدادية والقومية في أوكرانيا. لكن في الوقت الذي يجب فيه انتقاد هذه المسألة، علينا أن نتذكر جوهر هذه الأحزاب. لقد تم حظرها ليس لأنها من اليسار، بل لأنها كانت مؤيدة لبوتين، فأحزاب اليسار غير الموالية لروسيا لم يتم حظرها (…) كما أن قائمة الأحزاب المحظورة لا تقتصر على الأحزاب “اليسارية” الموالية لروسيا، بل تضم أيضا ​​بعض أحزاب الأوليغارشية الأكثر نفوذا، خلفاء حزب المناطق [حزب يانوكوفيتش]. (…) ومن بين الأحزاب المحظورة حزب منصة المعارضة، وهو أكبر حزب موال لروسيا في أوكرانيا. (…) وقد كان الكرملين يأمل في الاعتماد عليه لتشكيل نظام احتلال” (3).
هذه الأحزاب حظرت ليس لأنها كانت يسارية أو اشتراكية، بل لأنها تعاونت مع غزو بلدها، وكانت مستعدة للعب دور الحكومة التابعة لبوتين في حالة انتصار الاحتلال.
من الواضح أنه تمكن المجادلة دائما بأن هناك خطرا من أن تستغل البرجوازية الأوكرانية الوضع لتقييد الحقوق الديمقراطية، وقمع النضالات العمالية ومنظماتها، وتعزيز التيارات اليمينية المتطرفة. لقد تم تعيين نائب وزير مرتبط بقوى اليمين المتطرف من 2017 إلى 2019. لكن هذا الخطر نسبي للغاية اليوم، بسبب علاقة القوى الإيجابية، مع التعبئة الجماهيرية وتسليح العمال لمحاربة الغزو. ندعوا الشعب الأوكراني للتنظيم بشكل مستقل، ومحاربة الاحتلال الروسي بالسلاح، وكذلك للدفاع عن الحقوق الديمقراطية التي اكتسبتها ثورة الميدان عام 2014، دون الاعتماد على حكومة زيلينسكي أو المنظمات اليمينية المتطرفة.
لكن استخدام وجود تيارات يمينية متطرفة هامشية كمبرر لغزو أوكرانيا، وكذلك مساواة القومية الأوكرانية بالفاشية، كما قلنا في البداية، ليس سوى كذبة كبيرة فجّة من قبل بوتين.

الفاشية النازية في روسيا

من ناحية أخرى، إذا كان وزن التيارات اليمينية المتطرفة هامشيا في المجتمع الأوكراني وفي أجهزة الدولة الأوكرانية، فلا يمكن قول الشيء نفسه، للأسف، عن روسيا. روسيا تعد من قبل المختصين، الدولة التي تضم أكثر المليشيات اليمينية المتطرفة والفاشية في العالم. إذا كانت هناك كتيبة آزوف في أوكرانيا، ففي روسيا توجد كتائب جروم، والروسيتش (التي تستخدم الصليب السلافي المعقوف “كولوفراتا” رمزا لها)، والوحدة الوطنية الروسية، والصقور، و “دي بي إن آي”، وكلها تعمل بآلاف القوات شبه العسكرية في دونباس منذ عام 2014. هناك صور لهذه الجماعات العاملة في أوكرانيا مع علم فالكنوت، رمز “تفوق العرق الأبيض”.
إضافة إلى كل هذه الجماعات اليمينية المتطرفة هناك أيضا جيوش خاصة وميليشيات مرتزقة مرتبطة بالأوليغارشية الروسية الكبيرة، والتي تدافع عن الديكتاتوريات في العديد من البلدان، وخاصة في أوكرانيا. نوصي بالقراءة عن سوق الموت هذا على الرابط التالي:

https://litci.org/en/the-wagner-group-russian-mercenaries-in-africa/



في 4 تشرين الثاني من كل عام، تجوب المسيرة الروسية مدن البلاد، بنشطاء اليمين المتطرف، والملكيين، والفاشيين، والمناهضين للمهاجرين والمسلمين، ودعاة كراهية النساء، والعنصريين، وجماعات رهاب المثلية. وفي الوقت الذي يتم فيه قمع مظاهرات المعارضة في روسيا بعنف، تجري مثل تلك المسيرات الروسية تحت حماية الشرطة والأمن الفدرالي، ويحضرها أعضاء من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي، بالمناسبة، تدعم الحرب ضد أوكرانيا بفاعلية.
موسكو كانت تعد المدينة التي تضم أكبر عدد من حليقي الرؤوس في العالم، الذين يهاجمون المهاجرين في الشوارع، وقد قاموا بقتل العديد منهم بوحشية. لكن منذ عام 2014، لم يكن هناك عمليا أي من حليقي الرؤوس في الشوارع، حيث باتوا جميعا يقاتلون في شرق أوكرانيا.
هذه الجماعات اليمينية المتطرفة يتم تمويلها بشكل مباشر من قبل المليارديرات وأعضاء الطبقة العليا في حكومة بوتين، من أمثال راغوزين، الذي يرأس اليوم “روس كوزموس”. ووفقا لـ “المحادثة”، فقد حافظ الكرملين على علاقات وثيقة مع “روسكي أوبراز”، وهي مجموعة نازية جديدة شاركت حتى في برامج إخبارية على القنوات التلفزيونية المملوكة للدولة.

لماذا يقوم أولئك الذين يرفعون أصواتهم حول “الفاشية الأوكرانية” بالتزام الصمت حول هذه الجماعات الفاشية الروسية؟

وكأن هذا ليس كافيا، حتى الشرطة الروسية عنصرية للغاية، وتفحص الأشخاص في محطات المترو والقطارات وفقا لمظهرهم الجسدي، وتحتجز كل من هم من غير البيض، لتسألهم عن المستندات، ولاسيما المهاجرين من القوقاز وآسيا الوسطى. هذه العنصرية تتجلى في الحياة اليومية الروسية بشكل دائم.
في روسيا، عندما يتم عرض عقار للإيجار، من المألوف أن يرد في الإعلان “للسلافيين فقط”، حتى لا يتمكن القوقازيون أو الآسيويون (ناهيك بالسود) من استئجاره. يحدث هذا في بلد 20% من سكانه على الأقل من غير السلافيين. تخيل بلدا يكون فيه من الطبيعي تأجير شقق “للبيض فقط”، أو أن يكتب فيه: “أنا لا أؤجر اليهود”. حسنا، في روسيا الأمر كذلك تماما، ويمكن لأي أجنبي عاش هناك تأكيد ذلك بصدق. كانت هذه ظاهرة هامشية في التسعينيات، وباتت منتشرة في عهد بوتين.
لكن الصورة للأسف أسوأ مما وصفناه حتى الآن. كانت حرب الشيشان اللحظة الحاسمة لتأكيد بوتين كرئيس. كان بوتين هو من اقترف المذبحة إبان الانتفاضة الشيشانية من أجل تقرير المصير عام 1999، ودمر عاصمة البلاد غروزني (عاصمة الشيشان بلغة أهلها هي “سولجا جالا”، أما كلمة “غروزني” التي تحمل العاصمة اسمها فتعني باللغة الروسية: “مخيفة” – المترجم)، وعقد صفقة مع عشيرة قديروف الرجعية للغاية لإخضاع المنطقة بأكملها بعصاباتها الفاشية.
في الشيشان، توجد معسكرات اعتقال للمثليين جنسيا، وتعذيب، وعمليات إعدام خارج نطاق القضاء، وقمع عنيف للنساء، وقمع وحشي للملحدين، والاشتراكيين، والنقابيين.. الخ. وقد تم جمع مليون توقيع لمطالبة روسيا بالتحقيق في تلك القضايا، لكن بوتين تجاهل هذا الالتماس. ولايزال قديروف وراء عدد لا يحصى من عمليات قتل المعارضين والصحفيين. في ظل حكمه، لا يوجد حق في حرية التعبير أو التنظيم. وبفضل قديروف، يحصل بوتين على 99٪ من أصوات المنطقة في كل انتخابات تجري، وهو مستوى نموذجي للديكتاتوريات الستالينية، كما هو الحال في كوريا الشمالية، والعديد من الأمثلة الأخرى.
ليس صدفة أنه لاستبدال الجنود الروس المحبطين في أوكرانيا، أرسل بوتين جزاري قاديروف، الذي أعلن صراحة أن رجاله لن يكونوا “ليّنين” مع الأوكرانيين مثل الجنود الروس. لكن أمد التبجح كان قصيرا، فقد هزمت المقاومة الأوكرانية المتحالفة مع الشيشان في المنفى قتلة قديروف المحترفين، الذين عادوا محبطين إلى الشيشان، بخسائر فادحة.
لكن ليس فقط في الشيشان، بل في كافة أنحاء روسيا يكون القمع شرسا ضد أية حركة احتجاجية مستقلة. هناك أربعة أحزاب فقط لديها تمثيل قانوني، وجميعها موالية للنظام. لا توجد نقابات عمالية حرة. وكل وسائل الإعلام الرئيسية يتحكم بها بوتين. المظاهرات يتم قمعها بشدة. ولا توجد أحزاب يسارية شرعية باستثناء الحزب الشيوعي الذي هو جزء من النظام. إنه حزب شوفيني قومي عسكري ديني. وهو مرتبط بحكم الأوليغارشية، والأمن الفيدرالي، والشرطة السياسية. حتى أن اقتراح الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك جاء من الحزب الشيوعي، وهي الخطوة التي بدأت الحرب. وكافة المنظمات اليسارية الأخرى غير قانونية.
اليوم، باتت الصورة الإجمالية أكثر سوءاً بسبب الحرب، بحظر شامل لأي احتجاج، وحكم بالسجن لمدة 15 عاما أو أكثر بسبب المنشورات المناهضة للحرب، وإغلاق لوسائل الإعلام البديل، وحجب لمواقع الإنترنت، والفيسبوك، والإنستغرام، وما إلى ذلك. وسائل الإعلام الروسية (وفي الواقع أي مواطن) يحظر عليها استخدام مصطلح “الحرب” لتعريف ما يحدث في أوكرانيا، وتضطر إلى الإشارة إلى القضية على أنها “عملية خاصة لتحرير أوكرانيا”، ما يعطي نظرة عامة عن النظام حول “الحل الشيشاني” الذي سيمتد إلى كافة أنحاء البلاد إذا انتصر بوتين في هذه الحرب.

اليمين العالمي المتطرف مع بوتين

يدعم بوتين بولسونارو في البرازيل، وفيكتور أوربان في المجر، وماري لوبان وجبتها الوطنية في فرنسا، والبديل لألمانيا، والرابطة الشمالية في إيطاليا، وحزب الحرية النمساوي، وفوكس في إسبانيا، وشيغا في البرتغال، والفجر الذهبي في اليونان، وستيف بانون، والحزب الوطني الديمقراطي الألماني، والقوة الجديدة في إيطاليا، والحزب الوطني البريطاني، وحزب السويديين، وحزب الدنيماركيين، والرابطة البريطانية للحياة، ورابطة لومباردي الإيطالية.. الخ. حتى أن العديد من هذه الأحزاب تم تعريفها، في تقرير صادر عن وزارة الخارجية الروسية، على أنها فاشية جديدة. لقد أيدت جميعها ضم شبه جزيرة القرم، وعارضت العقوبات المفروضة على روسيا، وأرسلت “مراقبين” لـ “الانتخابات” و”الاستفتاءات” التي أجريت في لوغانسك، ودونيتسك، وشبه جزيرة القرم المحتلة، مدعية “شرعيتها، وطابعها الديمقراطي، وحياديتها، وأنها جرت وفقا للمعايير الدولية”. كما أنها تدافع، كبوتين، عن “القيم التقليدية”، ضد المهاجرين، والأقليات العرقية، والجنسية، والدينية.. إلخ. العديد من هذه الأحزاب اجتمع في سانت بطرسبرغ عام 2015 في “المنتدى الروسي الدولي للمحافظين”، جنبا إلى جنب مع اليمين الروسي المتطرف.
الآن، إذا كان بوتين، السياسي الاستبدادي، الكاره للأجانب، والنساء، والمثليين، يحارب الفاشية حقا، فلماذا يحظى بدعم اليمين المتطرف في كافة أنحاء العالم؟
الحقيقة هي أن يد بوتين ملطخة بالدم الشيشاني، والسوري، والمصري، والليبي، والبيلاروسي، والكازاخستاني، والأوكراني، ودماء شعوب أخرى. وحتى بدماء الشعب الروسي أيضا. كما أنه يهاجم بعنف أية محاولة لتحرير شعوب المنطقة التي يعتبرها “فضاءه الحيوي”. بوتين يدّعي علانية أن أوكرانيا ليس لها الحق في الوجود كدولة مستقلة، ويطبق هذه الرؤية من خلال حربه العدوانية. حتى اليمين المتطرف موجود في الكرملين نفسه!
إذا كان بوتين يريد حقا محاربة الفاشية، فسيتعين عليه نزع سمة النازية عن بلاده، وحلفائه، وشرطته، وقواته المسلحة وقبل كل شيء عن حكومته!



ملاحظات



(1 ) نشير هنا إلى إطلاق النار على قيادات هذه الأحزاب بالكامل، واستبدالها لاحقا بالمسؤولين الموالين لموسكو.

(2 ) علاوة على ذلك، أعلنت هذه المنظمة النازية الجديدة أن ثورة الميدان كانت “مؤامرة صهيونية”.

(3 ) اشتراكي أوكراني حول حظر الأحزاب “اليسارية”.. تاراس بيلوس، سوتشيالني روخ.

ترجمة تامر خرمة
مراجعة فيكتوريوس شمس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البيت الأبيض: واشنطن لم تتسلم خطة إسرائيلية شاملة تتعلق بعمل


.. اتفاق الرياض وواشنطن يواجه تعنتا إسرائيليا




.. إسرائيل وحماس تتبادلان الاتهامات بشأن تعطيل التوصل إلى اتفاق


.. خطة نتياهو لتحالف عربي يدير القطاع




.. عناصر من القسام يخوضون اشتباكات في منزل محاصر بدير الغصون في