الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ناصرية مكسيك (الفصل الرابع) قتل الإناث وإزالة الغابات!

طارق حربي

2022 / 5 / 9
الادب والفن


ناصرية مكسيك (الفصل الرابع)
قتل الإناث وإزالة الغابات!
جريمتان لفتتا انتباهي في ماضي المكسيك وحاضرها، سواء خلال زيارتها أم في البحث في المظان عن تاريخ حضاراتها المتعاقبة، وهما قتل الإناث وإزالة الغابات!
فقد احتلتِ المكسيك ومنذ عام 2002 ، المرتبة الثانية في سرعة إزالة الغابات في العالم، بعد البرازيل.
أما حوادث قتل الإناث، فهنالك ضحيتان منهنَّ يومياً ممن بلغنَ سنَّ الخامسة عشر فما فوق، بل حتى طفلات أحياناً! وغالباً ما تقتل المرأة على يد من تربطها به علاقة حميمة مثل الزوج أو الطليق، الشريك أو الصديق أو الصديق السابق أو الحبيب، أو الشخص الذي أطفلتْ منه، ومن لم ترغب الضحية بإقامة علاقة عاطفية معه أو جنسية، أو جار يقتل جارته. ثمة أحصائيات مروِّعة سجلتْ ارتفاعاً سنوياً ملحوظاً، فبعدما سُجّلتْ 427 ضحية في عام 2015 ارتفع عدد الضحايا إلى 1006 في عام
2021 . وارتفعت نسبة المعنفات والمقتولات تحت ظرف جائحة كورونا بأكثر من 5% عما قبل الجائحة!
بلغ عدد الضحايا في عام 2019 أي خلال زيارتي إلى المكسيك 912 ضحية (1)
***
في 8 آذار عام 2019 أي في اليوم التالي على وصولي إلى العاصمة مكسيكو سيتي، انطلقتْ جموع النساء الغفيرة في تظاهرة ضخمة لمناسبة يوم المرأة العالمي، هزتْ الرأي العام المكسيكي. هتفتِ الألوف من النساء بأعلى الأصوات مندداتٍ بقتل أخواتهنَّ قتلاً بشعاً، شنقاً وخنقاً وغرقاً حسب توصيف تقارير منظمة العفو الدولية! وغالباً ما تقع تلك الجرائم بسبب البغاء، أو الإتّجار بالمخدرات، أو العنف المنزلي، أو إجراء عمليات الاجهاض السريَّة وغيرها. وبحسب الدستور المكسيكي، فإنه يحقُّ للفتيات ممارسة الجنس، متى ما بلغنَ السنَّ القانونيَّ وهو 18 عاماً، وحصلتِ المرأة على حق الانتخاب في عام 1953.
رافقتُ التظاهرة المنطلقة من منطقة التجمع في حديقة سيديرا وحول متحف الفنون الجميلة (Palacio de Bellas Artes) الواقعين في غربي العاصمة، مروراً في شارع (Walking Mexico City CDMX) وهو أحد الشوارع الرئيسة في العاصمة، وانتهاء بساحة الاستقلال (زوكالو).
ترجَّعتْ أصداء الهتافات في أرجاء الشارع التجاري الطويل، وفيه من المباني العالية والمتاجر بواجهاتها الزجاجية من كل نظيف ولامع، مُدينةً العنف العاطفي والجسدي والأسري والتمييز بين الجنسين. سمعتْ الحكومة والشعب صرخة موحدة ضد الجذور الثقافية لارتفاع مستوى العنف في العقود الأخيرة، نظراً للسياسات والتغييرات الاقتصادية حسب الباحثين المكسيكيين، التي أدتْ إلى نمو في مستوى العنف القائم على مستوى الجنس. صرخة إدانة لمقتل 34000 امرأة بين عامي 1986 و 2009 بحسب تقرير منظمة العفو الدولية، وخاصة في مدن كوليما وجيريرو وخواريز!
وسط تعالي الهتافات من أفواه النساء الغاضبات، وليت النساء في بلادي يخرجنَ في تظاهرات عارمة في كل مدن العراق للمطالبة بحقوقهنَّ مثل أخواتهنَّ المكسيكيات (2)، وعلى ايقاع قرع الطبول العنيف وزعيق الآلات النفخية ورنين النحاسية، سارتِ التظاهرة، بما حملتْ من يافطات مندِّدَةٍ بالقتل والاختطاف والتعذيب، وصور ومجسمات تمثل الضحايا، حتى تجاوزتْ طلائعها الأولى بعد حوالي نصف ساعة كنيسة سان فرنسيسكو، تحفة باروكية من القرن السادس عشر، ووصلتْ إلى منتصف الشارع.
من بين المتظاهرات هنالك العشرات من النساء نصف العاريات من خالعات حمالات الصدر! ومن وضعنَ شريطاً أسوَدَ اللون لاصقاً على الحِلمتينِ، ومن لوَّنتْ نهديها حدَّ النّصف باللون الكُحلي، فبرزتِ الحِلمتان ورديتينِ شهوانيتينِ تزهدانِ بالسياسة والتظاهرات معا! وتتطلَّعان إلى الضمِّ والشمِّ والرَّضع في فندق قريب! ومن ارتدَتْ قناعاً تاركةً لنهديها العاريين حرية الارتجاج، مع كل هتاف أو صرخة من الأعماق، ضد قتل النساء الفظيع في المكسيك! (3)
وما لفتَ نظري ظاهرتان شاذَّتان في التظاهرة النسائية الضخمة، الأولى هي ملاحقة عدد من الصبيان والشبّان بل وحتى الرجال، للنساء العاريات طمعاً بلمس النهود أو تصويرها بالهواتف المحمولة! لقد استثارهم اللحم العاري فأخذوا يتضاحكون ويتنافسون متدافعين بالمناكب، للمس الأجساد العارية والنهود والمؤخرات وكل ما تكوَّر في المشهد الفاضح، وخصوصاً الصدور العارية، وكانت محاولات تغطيتها أو قُلْ حمايتها من المتطفلين بأيدي صاحباتها باءتْ بالفشل مراراً وتكراراً، وبدا الذكور في حالة كرٍّ وفرٍّ مع العاريات، كما لو كانوا في حلبة صراع مع مخلوقات ضعيفة ومرزوءة ببناة جنسها اللواتي ما قضى أحدٌ بقتلهنَّ إلّا الذُّكور أنفسهم! أو أنهم يطاردون فرائس سهلة الاصطياد في غابة بعيدة عن أعين الناس والسلطات! لكنَّ المكسيكيّات بَدينَ في التظاهرة العارمة طليعيّات أكثر منهنَّ سلعاً معروضة في سوق النخاسة! شجاعات كما لو كنَّ يُلبّينَ نداء القس هيدالغو الداعي إلى استقلال المكسيك من المحتل الأسباني!
أو كأن البطل الشعبي المكسيكي زاباتا يستصرخهنَّ في مطلع القرن العشرين لنيل حقوقهنَّ، بالعودة إلى الريف والمطالبة بعودة أراضيهنَّ. ولكفاحهنَّ امتداد يتصل بالثورة المكسيكية الاجتماعية لنيل الاستقلال التي دامت ثلاثين عاماً (1910-1940)، وحصدتْ أرواح نحو مليون ضحية منهم مائة ألف قضوا في المجاعات والأنفلونزا الأسبانية. كنَّ متحمسات في التظاهرة كأقوى ما يكون عليه الحماس، ومدافعات عن حقوق مهضومة مثل نساء ريفيرا في لوحاته وجدارياته التي شاهدتها في متحف الفن الحديث، وكان صوَّرَ نضال المكسيكيين نساءً ورجالاً لنيل الاستقلال، أو فلاحات مكافحات كما في لوحة بائعة زهور القلقاس التي رسمها في عام 1942 وتُعَدُّ من أهم أعماله الانطباعية.
ومن المتظاهرات من طرقنَ بحماس على ما تيسَّرَ من أواني الطبخ من قدور وأكواب وملاعق طويلة وصنوج نحاسية، مغطّيات وجوههنَّ بأقنعة ملونة، القياديات منهنَّ حملنَ سماعات يدوية وأطلقنَ الهتافات تلو الهتافات يستنهضنَ همم المتظاهرات، ومن صورنَ بالهواتف المحمولة، ووشمنَ وجوههنَّ بأكفٍّ زرقاء اللون وكتبنَ على صدورهن (mujer no me gusta cuando callas) أي لا تعجبني المرأة الصامتة! هنا وهناك تعالتْ من أفواه المتظاهرات زغاريد الهنود الحمر التي يمكن تمييزها بسهولة، وفي فضاء الشارع علا ثم تبدَّدَ دخان بنفسجي اللون من عبوات صغيرة بيد عدد من المتظاهرات، ومن كنَّ يلوحنَ بقبضاتهنَّ علامة الرفض والتحدي، ومن قارعات الطبول بحماس لا نظير له كلُّ ملثمة جيفارية وزاباتية غطتْ وجهها بقناع ملون، أو أسود طويل سَتَرَ جزءاً من الصدر نصف العاري. وانضوتْ المئات من النساء خلف يافطة بيضاء طويلة بعرض الشارع، عدد منهنَّ ارتدينَ باروكات بشعر أكرتْ أو مُسبل بنفسجي اللون أو أحمر أو أشقر قصير وطويل، وقفتْ أمام اللافتة عدد من النساء تميزنَ بسترات فسفورية خضراء مخططة عاكسة للضوء ورحنَ يردَّدنَ أغاني، على الأرجح أنها كانت تُحيِّي المرأة في عيدها، أو أنها تهيء النساء اللواتي أخذنَ يتمايلنَ يمنة ويسرة وينحنينَ متشابكات الأيدي في رقصة هنود حمر، قد أخذت بعقولهنَّ نشوة نصر معقود على نواصي خيل تخبُّ نحو بصيص أمل في ظلام المكسيك الدامي، وظلامة المرأة في المجتمع الذكوري القاسي، أمل في تشريع قوانين تحمي النساء من قتل وإعتداء جنسي يمارسه الزوج أو العشيق أو الجار، أو ضباط الشرطة في المخافر والسجون!
لا شكَّ أنَّ المرأة في نصف عريها الفاضح في شارع مزدحم بالإناث والذكور تثير الفضول حتى لو كانت المناسبة سياسية أو دفاعاً عن الحقوق فالعري عريٌ في كل الأوقات! لكن البعض من العاريات اعترضنَ على سلوك الذكور المُشين وحجبنَ صدورهنَّ بأيديهنَّ، حتى بعد وصول التظاهرة بعد حوالي ساعة إلى ساحة زوكالو! فهنَّ ما كشفنَها إلّا للفتِ انتباه السلطات وتنديداً بالجرائم المروِّعة. وما تظاهرُ النساء عاريات أو شبه عاريات، إلّا تقليعة شاعتْ في عدد من دول أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في العقود الأخيرة، للفت انتباه الساسة والميديا والجمهور إلى وقف حرب ما أو دفاعاً عن حقوق المرأة وغيرها، لكني لا أفهم كيف يمكن للذكر أن يشتهي لمس نهد امرأة مرزوءة بمقتل أخواتها؟!
ثمَّ أقبلتْ في منتصف الشارع ما وراء الكنيسة، صفوف منظمة من النساء حملنَ صلباناً وردية اللون كُتبتْ عليها شعارات بارزة باللون الأسود، أخريات حملنَ صور ضحاياهنَّ (شقيقات أم صديقات أم تجمعهنَّ صلة قربى؟) ولم أَرَ في حياتي مشهداً تفوقَ في مأساته على مشهد رفع المتظاهرات لصور الضحايا من طفلات وفتيات ونساء؟! ومن وضعنَ شالات خضراء اللون موحَّدةً خُيِّلَ إليَّ في حينها أنهنَّ يمثلنَ حزباً، أو منظمة نسائية مناهضة للعنف ضد المرأة المكسيكية، من تحالف 47 منظمة نسائية ضد العنف في المكسيك، بما يعرف بـ (مرصد ضحايا النساء المكسيكيات!). ثمة متظاهرات ارتدينَ ثيابًا تقليدية وحملنَ الصليبَ بينهنَّ من غطّينَ وجوههنَّ بأقنعة، رُسِمتْ في أعلاها باقات ورد ملونة وفي أسفلها أفواه مغلقة بسحّاب! وارتدينَ قمصاناً رسمتْ عليها جماجم سوداء، وسارتْ خلف صفوفهنَّ سيدات خمسينيات وستينيات يدفعنَ عربات خشبية صغيرة مطلية باللون الوردي، وضعتْ فيها باقات من الزهور الملونة، وثُبِّتَ في مقدمتها صلبان ورديُّ اللون أيضا. ومن الشابّات من التحقنَ بالتظاهرة بدراجاتهنَّ الهوائية فترجلنَ عنها قبلما ينخَرطنَ في التظاهرة الهادرة، ومن نقشنَ الوشومَ على أيديهنَّ ورقابهنَّ وصدورهنَّ وأذرعهنَّ، بألوان وأشكال ترمز إلى الإناث والطيور ومفردات الطبيعة وثقافة الهنود الحمر، ومن رسمنَ على أعينهنَّ رمز الأنثى، وهي المرآة اليدوية لفينوس إلهة الحب والجمال لدى الأغريق، ومن رفعنَ شعارات بحروف كبيرة وعلامات استفهام وتعجب على الورق المقوى الملون!
من بين الشعارات
- أنا لست بمُنجِبة ولا حاضِنة.. أنا من يقرِّر .. أنا من يقرِّر!
- هل تعتقد أن النساء غير قادرات على إدارة شؤونهنَّ وتمثيل أنفسهنَّ؟!
- ما هو تفسيركم لقتل الإناث؟
- الإجهاض القانوني الآن!
- لا للعنف بين الجنسين!
- يجب ألّا يفلتَ الجاني من العقاب!
- قتل المكسيك للإناث!
- لا أريد أن أُقتَلْ!
أما الظاهرة الثانية وكانت من العجب العُجاب، فهي مشاركة عدد من المثليّينَ في التظاهرة النسائية! فقد ساروا متحاضنينَ يُقبِّلونَ بعضهم بعضاً كأنَّ العيد عيدهم لا عيد المرأة! وسط آلاف من النساء الغاضبات الحزينات، اللائي اتخذنَ من اليوم الأغرّ مناسبة لعرض مظلوميتهنَّ، والمطالبة بالكفِّ عن قتل الإناث وملاحقة الجناة وعقابهم!
تفرقتْ جموع المتظاهرات في ساحة زوكالو بعد حوالي ساعة أو أكثر من ساعة بقليل، لكن المئات منهنَّ جلسنَ على شكل حلقات في أرجائها إلّا من تفرَّقَ وغادر الساحة. وقبيل المساء ألقتْ عدد من النساء خطباً حماسية ندَّدتْ بالجرائم الوحشية وأدانت الحكومة التي تغض الطرف عن نحو 20% منها. وكان العشرات من السيّاح الأوربيين ساروا مع التظاهرة حتى الساحة وافترشوا الأرض مع المكسيكيات والمكسيكيين، وفي المساء عُقِدَتْ حلقات رقص الهنود الحمر كأنَّ شيئاً لم يكن! وتجمع الآلاف من المكسيكيين والسيّاح لمشاهدة الرقص الرائع في حلبات أحيطتْ بحبال ملونة تصاعد البخور في وسطها!
____________________
(1) رصدتِ المنظماتُ الإنسانية والنسائية حوادث قتل الإناث أكثر بأربع مرات من جرائم القتل الأخرى! وسُجِّلَ نصف عدد الضحايا في العاصمة، حيث فشلت الحكومة في وقف الجرائم ولم تنجح في التحقيق إلّا بنسبة 5% من حوادث القتل، ويَعثر الناس أو السلطات المحلية بالصدفة على جثث النساء المقتولات على شواطىء نهر لوس ريميديوس، الذي أطلق عليه السكّان اسم "منعطف الموت" لكثرة ما عثروا فيه وعلى شواطئه من جثث مهشمة أو محروقة وشبه عارية. وكذلك في الحقول والأراضي الواسعة أو في المياه الآسنة في ضواحي العاصمة.
تقول الباحثة مرسيدس أوليفيرا من معهد الوطني للإحصاء والجغرافيا (INEGI) إنه مع تزايد الفقر والبطالة وانعدام الأمن في المكسيك، بدأ عدد أكبر من النساء في الانضمام إلى مكان العمل لمحاولة تحسين أوضاعهن. وقد هدَّد هذا التقدم بأعداد متزايدة من النساء في مكان العمل مفهوم تقسيم العمل بين الرجل والمرأة، إذ أن مكان الرجل هو مكان العمل ذاته ومكان المرأة في المنزل. هذا التغيير أثر على صورة الرجال الذاتية وأضر بشعورهم الشخصي بالذكورية أو التفوق.
(2) تقتل العديد من النساء في العراق سنوياً وتسجل الجرائم تحت عنوان الانتحار ويكوننَّ نسيأ منسيا! وفي كردستان العراق تقتل سنوياً بين 300 - 400 امرأة، لسيادة العادات والتقاليد البالية، المتغذّية من طبيعة الحكم العشائري لحكم لطاغية مسعود برزاني وأولاده وأبناء عشيرته! لكن المعادلة هنا غير متوازنة، بل هي مدعاة لليأس والكآبة، إذا علمنا أن عدد نفوس المكسيك فاقَ ال 128 مليون نسمة، فيما عدد نفوس كردستان العراق لم يزيدوا على الخمسة! وكم تمنيتُ لو أن التظاهرات تعمُّ العراق لإرغام الطبقة الفاسدة فيه على تشريع قوانين تحمي المرأة والطفل من العنف الأسري والتعذيب والاختطاف والقتل؟!
(3) تم تخصيص يوم 9 مارس عام 2020 لاختفاء النساء من الحياة العامة في المكسيك، في العالمين الواقعي والافتراضي!
www.tarikharbi.com








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي