الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحرب الروسية على أوكرانيا والنزعة السلافيّة المتطرفة في روسيا

فارس إيغو

2022 / 5 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


إن الحرب الروسية على أوكرانيا هي في أحد جوانبها الثقافية ـ الحضارية استمرار متكرر بأشكال مختلفة للصراع المستمر في روسيا منذ نهاية القرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر بين النزعة السلافية الضيّقة والنزعة الغربية أو الحداثة أو الاتجاه الذي يدعو بالاقتداء بالغرب لتجاوز الفارق الحضاري الذي يفصل روسيا عن أوروبا الغربية.
إن الانقلابات الثورية التي بدأت في أوروبا منذ الثورة الفرنسية نهاية القرن الثامن عشر لم تكن من السهل القبول بها من قبل الأمم والثقافات الأخرى، وبالخصوص منها الإسلامية والهندية والروسية. إن الانخراط في الحداثة هي عملية تثاقف صعبة جدا، وتتطلب عملية ترك جزء مهم من الموروث الثقافي والحضاري المعيق الذي تراكم في العصور القديمة والوسطى، وهو أمر قامت به بعض الأمم والثقافات في أقصى آسيا، اليابان أولها، ثم لحقت بها كوريا الجنوبية وسنغافورة، وأخيرا الصين التي أصبحت اليوم في المرتبة الثانية في جدول ترتيب الاقتصادات في العالم. ولكن الثقافات الإسلامية والسلافية ما زالت تعاني في تخطي هذه العقدة الغربية، وهي مصابة بما أسماه حقا المفكر جورج طرابيشي بأنه ((المرض بالغرب)) (1).
عندما نتابع ما يقوله الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين عندما يتحدث عن الغرب أخال نفسي أمام خطابات شبيهة كالتي نسمعها يوميا في الثقافة العربية من قبل المفكرين الإسلاميين بالخصوص. (2). أما فيما يخص العداء المرضي للغرب عند دوغين، وما يقوله بعد الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا، فهذه فقرات منها تكشف هوسه بالغرب، وبالمؤامرة على بلاده روسيا:
ـ ((هذه ليست حرباً، هي دفاع وقائي ضد حكومة أوكرانيا النازية المؤيدة بالغرب والتي تقوم بالتحضير لهجوم كبير على شعبنا في الدونباس)).
ـ ((الجيش الروسي لا يستهدف سوى القومجيون النازيون ومجموعاتهم العسكرية لكي لا يقاتلوا ضد بلادنا، نحن فقط نقاتل هذه المجموعات المتطرفة ذات الأفكار الإرهابية، والتي يسيطر عليها الغرب، والذي أراد أن يقتلع أوكرانيا من الخارطة الروسية)) (3).
وإلى غير هذه من الشناعات الفكرية التي يتلفظها بخفة لا معرفية كبيرة السيد ألكسندر دوغين في مقابلاته على قناة الجزيرة قبل وبعد الحرب الروسية على أوكرانيا.
ومما لا شك فيه بأن التاريخ بين روسيا القيصرية والغرب (كما هو في التاريخ بين العرب والمسلمين والغرب) مليء بالجروح والمآسي، وبالخصوص محاولة الفرنسية نابليون بونابرت اليطرة على روسيا، وما خلفته من مآسي وكوارث في الشعل الروسي جعلت المفكرين الروس يتمترسون حول نزعة سلافية عدائية بإطلاق للغرب. ومنذ القرن التاسع عشر بدأت تظهر في روسيا خطابات تتحدث عن الغرب بلغة أخلاقية: الغرب المنحل، الغرب الفاسد إلخ. وقد عمقت عقود الحكم الشيوعي السوفياتي هذا الشعور المعادي للغرب تحت عنوان الرأسمالية الامبريالية التي تريد فرض ((نظام اقتصادي سياسي، يسعى إلى ابتلاع الطبيعة والبشر وهضمهم وإخراجهم سلعاً في السوق)) كما يقول المفكر طيب تيزني في وصفه للرأسمالية في عصر العولمة.
النزعة السلافية العدائية المريضة بالغرب في القرن التاسع عشر، تلومه بسبب عقلانيّته وماديّته، بينما روسيا القيصرية لم تفقد روحانيّتها. ومنذ عام 1832 كان رجل السياسة الروسي سيرغي أوفاروف (1786 ـ 1849) يدعو إلى النزعة اليوراسية ويعارض التوجهات الأوروبية القائمة حصريا العقلانية الغربية، ويضع لروسيا ثلاث مبادئ تحتكم بها: المسيحية الأوثوذكسية، النظام السلطوي، القومية الروسية. في ذلك الوقت كانت النزعة السلافية الضيقة تريد التركيز على الخصوصية الحصرية لشعب روسيا الذي لم ينضج بعد للحرية، وهو لم ينضج بعد حوالي قرنين من أقوال السيد أوفاروب مع استمرار الاستبداد الواقع عليه.
وتزيد النزعة السلافية الجديدة عند دوغين وأقرانه بالتحريض ضد الديموقراطية الليبرالية التي فسدت وأفسدت ووصلت إلى مستوى هابط من العبث مع زواج المثليين وتشريع المخدرات والبونوغرافي ومسابح العراة والموت الرحيم إلخ من الإجراءات السماحية التي لا يمكن لمجتمع أن تقوم له قائمة معها بحسب التفكير الديموقراطي المحافظ. وفي المحصلة، إن خلاص الغرب الفاسد سيكون على يد روسيا المحافظة (4). يضاف على ذلك، اعتبار روسيا ضحية من ضحايا الافتراءات الغربية بعدم وصول حلف الناتو إلى حدودها (وهو الوعد الكلامي الذي أعطاه الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب إلى الرئيس الروسي غورباتشوف بعد انهيار جدار برلين عام 1989 لتسهيل عملية الخروج السلمي لدول أوروبا الشرقية من حلف وارسو والمعسكر السوفياتي).
في هذه المقالة ركزنا على النزعة السلافية الجديدة الضيقة عند بعض المفكرين الروس، ومنهم ألكسندر دوغين، ودورها في إشعال الحرب على أوكرانيا، وفي تأجيج النزعة الجنونية ضد الغرب والرأسمالية والليبرالية والفردانية وحقوق الإنسان، والمناداة بالفاشية الأصيلة الثورية الوطنية عند دوغين، وهي فاشية دون زيادة، وتلصق بها خطأً صفات بعيدة عنها كالأصيلة والوطنية.
تبقى الحرب الروسية على أوكرانيا ذات أسباب متشعبة لا تتعلق كلها في روسيا بل، تتعداها نحو السياسة الأمريكية في الفترة التي تلت نهاية الحرب الباردة وانهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، ومحاولة تطويق روسيا من طرف الحلف الأطلسي، ورفض إعطاء ضمانات من قبل الولايات المتحدة لعدم دخول أوكرانيا في الناتو، وكذلك محاولات أمريكا المستميتة في منع تطبيق اتفاق منسك الشهير بين الانفصاليين في الدونباس والحكومة الأوكرانية بضمانة روسيا وفرنسا وألمانيا.
الهوامش
(1) جورج طرابيشي ((المرض بالغرب: التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي))، من منشورات دار بترا ورابطة العقلانيين العرب، طبعة جديدة عام 2005.
الطبعة الأولى صدرت في لندن عام 1991، وصدر تحت عنوان مخفف بطلب من الناشر هو ((المثقفون العرب والتراث)).
(2) قناة الجزيرة، برنامج المقابلة، تأثير نظريات المفكر الروسي ألكسندر دوغين على سياسات بوتين في الحكم، تقديم الإعلامي علي الظفيري، الجزء الأول 19/03/2022، الدقيقة 12 والدقيقة 42.
https://youtu.be/t1hTmdy1fe8
يعتبر دوغين أن كل الأديان السماوية سياسية، وهو عندما يتكلم عن الإسلام، يماهيه مع الإسلام السياسي، فهو يتعاطف مع الإسلام السياسي: ((الإسلام واضحٌ ومفهوم، فالإسلام ليس دينا فقط، وإنما هو فلسفة سياسية واجتماعية، وربما اقتصادية، فالإسلام يتحدث عن الربا)).
وفي مكان آخر من المقابلة يقول: ((علينا أن نترك العلوم السياسية الغربية، ونبني علومنا السياسية الخاصة بنا قائمة على قيمنا الروسية بالنسبة لروسيا، أو مبنية على قيّم إسلامية بالنسبة للعالم الإسلامي، لذلك عندما نتحدث عن الحضارة الإسلامية نتحدث عما يسمى بالإسلام السياسي)).
(3) أليكسندر دوغين: إما أن تنتصر روسيا أو يزول العالم بالسلاح النووي، قناة الجزيرة، تاريخ 21/03/2922.
https://youtu.be/RyTbgtRNvB8
(4) يجري في روسيا وفرنسا عملية تشويه تاريخية لمصطلح النزعة المحافظة (الكونسرفاتيزم)، فهي في روسيا تستعمل بخفة معرفية لا مثيل لها عندما يقوم أ. دوغين ورفاقه الآخرين أمثال إيفان إيلين بوصف النظام الروسي في عهد بوتين بالمحافظ. إنّ هذا النظام القائم منذ عام 2000 بعيد كل البعد عن النزعة المحافظة حيث يقوم بمحاصرة المعارضة ومنع التعددية السياسية وقمع وسجن وقتل المعارضين السياسيين للنظام. لا يوجد أي نوع من المحافظة مع الأنظمة الاستبدادية، فهي لا تحافظ إلا على سلطتها المطلقة. بينما في فرنسا فيجري الخلط بسهولة بالغة بين النزعة المحافظة والتقليدانية الرجعية، وهي عندنا تسمى بالسلفية التي تقوم على قولة شهيرة للإمام مالك: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو المعنى الحقيقي أو الحرفي للسلفية الذي يبقى معنى ضيقا بالنسبة للسلفية المعاصرة التي وصفها الشيخ محمد عبده بأنها ((إصلاح الدنيا بالدين))، وهو المعنى المجازي والأوفى لوصف السلفية المعاصرة، وهو نفسه المعنى الذي يشير إليه العروي في كتابه ((الأيديولوجية العربية المعاصرة)).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الكسندر دوغيت يقول الحقيقة و ل يس هوس
سالم امين ( 2022 / 5 / 12 - 23:58 )
ـ ((هذه ليست حرباً، هي دفاع وقائي ضد حكومة أوكرانيا النازية المؤيدة بالغرب والتي تقوم بالتحضير لهجوم كبير على شعبنا في الدونباس)) ، هذه العبارة هي خلاصة او مختصر لما يجري على الارض من تآمر الاوكرانيين الذين وضعوا بلادهم رهن ايدي الغرب و جعلوا من نفسهم بندقية للايجار ضد روسيا ، مع الاسف الناس الابرياء يذهبون ضحايا هذه السياسة الحمقاء الخطيرة للنخبة الاوكرانية العميلة للغرب التي بيدها مقاليد. السلطة ، هذه الحرب كان يمكنتفاديها بسهولة لو ان الغربيين قالوا انهم لن يقبلوا بإنضمام اوكرانيا لحلف الناتو ، و لكن اوكرانيا تمسكت بنيتها للانضمام الى الناتو يعني قبلت ان تقف في صف اعداء روسيا و ان تكون خنجر في خاصرة روسيا

اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا جرى في «مفاوضات الهدنة»؟| #الظهير


.. مخاوف من اتساع الحرب.. تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل| #




.. في غضون أسبوع.. نتنياهو يخشى -أمر- الجنائية الدولية باعتقاله


.. هل تشعل فرنسا حربا نووية لمواجهة موسكو؟ | #الظهيرة




.. متحدث الخارجية القطرية لهآرتس: الاتفاق بحاجة لمزيد من التناز