الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الضمة البورسعيدية

عطا درغام

2022 / 5 / 16
الادب والفن


"الضمة" أو "السامر البورسعيدي " شكل مهم من أشكال التعبير الشعبي الذي عرفته المنطقة إبان حفر قناة السويس. والضمة هي الجماعة من الناس وغيرهم ينضم بعضهم إلي بعض ليس أصلهم واحد.
فعندما بدأ حفر القناة، جُلب كثيرٌ من عمال التراحيل والعمال الزراعيين من شتي مديريات مصر الإدارية، وجُلب أيضًا كثيرٌ من مقاولي الأنفار وملاحظي العمال الذين كان معظمهم من الأتراك والمغاربة، وفي نهاية يوم العمل الشاق كان أبناء كل جماعة يتقربون بعضهم إلي بعض،وينضمون مساء كل يوم يتسامرون ويسَّرون عن أنفسهم بأغانيهم ما يبددون به عناء غربتهم وقسوة الظروف التي يعيشونها ، وقد ظهر كثير من الضمم، فهذه ضمة للدمايطة، وتلك للصعايدة، وتلك للشراقوة..إلخ.
وكانت الضمة الدمياطي أكبر الضمات وأشهرها خاصة أن القادمين من دمياط كانوا علي دراية بكثير من ألوان الغناء.
وقد تطورت الضمة من كونها سامرًا يتسلي به العاملون في حفر قناة السويس، وتحولت إلي ظاهرة فنية، بل بوتقة انصهرت فيها مشاعر هؤلاء العمال، ومثَّلت لهم فنًا احتضنهم فاحتضنوه، وجعلوا منه شكلًا خاصًا بهم يعبرون به عما يجيش في صدورهم وما تعتمل به مشاعرهم، وأصبحت الضمة في بورسعيد تعني جلسات السمر والمؤانسة التي يجتمع فيها الأصدقاء والأصحاب أمام بيت أحد الصحبجية، وهم يغنون وينشدون أدوار الضمة المختلفة، كذلك كانت تُعقد مشاركة بعضهم لبعض في المناسبات الحياتية السعيدة علي اختلاف انواعها الاجتماعية والدينية، وذلك دون مقابل مادي، حيث يتكفل أحد الصحبجية بإحضار الآلات الإيقاعية المستخدمة في مصاحبة الغناء، ودفع إيجارها. وكذلك المستخدمات الأخري دون أن يتحمل صاحب الليلة عناء أي شيء.
والضمة " مصطلح يُطلق علي شكل الاحتفالية ، ولا يعني نوعًا أو شكلاً من الغناء، وإنما تتضمن الاحتفالية أشكالا غنائية متعددة منها الجواب-الدور- الموال والدور الفكاهي؛ بالإضافة إلي ما يُصاحب ذلك من أداء حركي يشمل الرقص واللعب بالعصا والسكاكين، ويتصل هذا الأداء الحركي اتصالًا وثيقًا بحركات العمل في البحر، حيث يعمل جل المشاركين في الضمة، وإن كان بعضهم يندرج في فئات ومهن أخري مختلفة.
وقد تحولت الضمة من مجرد سامر يتسلي به جماعة من الغرباء إلي فن يعبر عن هؤلاء الذين اتخذوا من بورسعيد وطنًا جديدًا لهم يشاركهم المناسبات الاجتماعية علي اختلاف أنواعها،فقد كانت الضمة هي المُعادل الموضوعي للبالو أو الاحتفال الذي يقيمه الأجانب ممن يقطنون الحي الأفرنجي من المدينة الوليدة.
وقد ظل فن الضمة مزدهرًا، حيث كان يؤدي في المناسبات السعيدة يعزفها أهل بورسعيد ، خاصة في مجال السمر، واحتفالات الزواج، والمناسبات الدينية، وقد استمر فن الضمة في حالة من النماء والازدهار إلي ما قبل حرب 1956 ، فقد كانت جلسات الضمة تُعقد في أماكن عديدة اشتهرت وسُميت بأسماء الشوارع التي كانت تعقد بها ومنها علي سبيل المثال:
ضمة شارع البحر الريس عبد القادر
ضمة شارع السرايا الريس محمد يوسف
ضمة شارع البلدية الريس محمد الأمريكاني
ضمة شارع أبو دنيا الريس كمال عضمة
ضمة قسم أول مع منطقة الصعايدة الريس عبد الهادي. وقد كانت الآلات المصاحبة تتكون من آلات الدربكة والرق والمثلث (الجرس) والملاعق والزجاجات الفارغة،إضافة إلي التصفيق بالأيدي، وإن لم تعرف احتفالية الضمة نظامًا ثابتًا في تشكيل الفرقة الموسيقية المشاركة معها، إذ يختلف عدد العازفين من ضمة إلي أخري، وقد بدأ دخول السمسمية إلي الضمة في أواخر العقد الثالث من القرن العشرين.
وأصبحت الضمة الآن تحتوي علي عدد وافر ومتنوع من الآلات الموسقية التي دخلت احتفالية آلات الإيقاعية؛ فنجد عددًا كبيرا من الطبول المختلفة (دربكة- رق- دف- مزهر- طامبورين- مثلث- صاجات) وكذلك لوحظ وجود آلة الناي كما وجد عدد من آلات السمسمية بأحجام مختلفة، وكذلك حجم كبير من آلة السمسمية أطلق عليه الطمبورة، وهي ذات مفاتيح وعدد كبير من الأوتار المصنوعة كلها من النايلون.
ومن أشهر مغنيي الضمة في نهايات القرن التاسع عشر وأوائل العشرين نذكر، يوسف الضاوي ،ومرسي وكان يُطلق عليه "المرسي أبو العباس"، وفي العشرينات محمد عبد الله ،وإبراهيم اليانك ،ومحمد داود ،وحسين كريم، وإبراهيم كركر، و السيد البوصيلي ،وعطية أبو حطوم ،ومحمد الروبي ،وعبده الضاوي، ومحمد عبد الهادي.
وفي الأربعينيات راشد ،وعبد القادر مصطفي ،و محمد يوسف ،ومحمد ضايفة والشاذلي حسن القلماوي ،ومحمد القط ،و الحاج عوض ربيع، والعراقي ،وأحمد سيد أحمد وشهرته" أحمد وليم".
ومن المعاصرين، إمبابي عبد الله ،وأحمد عبد الهادي، ورجب أبو حسن، وأحمد مجاهد ،والشيخ رجب ،وأحمد نصر الشهير ب"حمام" ،ومحمد الشناوي ،وأحمد كنشن .ومن الشباب : زكريا إبر اهيم،وجمال عوض محمد ،ومرسي سلطان ،وعلاء الشاذلي عوض، وغيرهم.
وتأثر فن الضمة بالظروف التي واجهتها بورسعيد علي طول تاريخها من معارك، وما استتبع من تهجير لأهلها؛ فعلي إثر حرب 1956 ،برزت السمسمية علي ساحة إبداع الموسيقي الشعبية في بورسعيد. ونتيجة لتفوق السمسمية فقد نشأ بينها وبين الضمة تصالح استفادت فيه السمسمية من تراث الضمة المتمثل في أدوار الضمة، بل صنعوا علي منواله.
وبعد التهجير وعودة البورسعيدية تشكلت أول ضمة عام 1976 ،وتكونت من إمبابي عبد الله ،وأبو السيد (محمد الشاذلي) ،ومحمد يوسف ،ورشاد بوريا ،وتميم شومان ،ومصطفي درويش، وعبد القادر.
ومع تطور المدينة وسيطرة المنطقة الحرة أصبح المناخ غير ممهد لصحوة فن الضمة بهيئته القديمة، بل يمكن القول إن ثمة مناخًا مضادًا لها بدا واضحًا ،واختفت الضمة في بداية الثمانينيات كممارسة فعلية، وإن ظلت كامنة في صدور حفظتها ومحبيها.
واشتهرت ليالي الضمة في احتفالات بورسعيد بليلة "الخماسين" و"حرق الليمبي "واعتبرت مناسبة مواتية لعقد أكبر عدد من حلقات الضمة التي تنتشر في أغلب شوارع حي العرب، حيث يتخذ من تقاطعات تلك الشوارع مكان لها، ويجري إعداد المكان علي شكل يشبه الدائرة ، وتعد في منتصفها منصة خشبية ترتفع عن مستوي الشارع بنصف متر، ويُصعد إليها بواسطة عدة درجات خشبية لتقف عليها مجموعة الصحبجية ،وحول المركز توضع صفوفا متوازية من المقاعد الخشبية تكون محيط الدائرة وتخص أغلبها لجلوس كبار السن والسيدات،والضيوف القادمين من مدن أخري وحولهم تقف مجموعة غفيرة من أبناء المدينة من الجنسين.
وفي الفترة الأخيرة تعالت الأصوات لإحياء ذلك الفن للحفاظ علي تراثها الغنائي، وحدثت محاولات في قصر ثقافة بورسعيد أعوام 1983،و 1984،و 1985 ،وذلك لجمع عدد من فناني الضمة والصحبجية، وأسفرت المحاولات عن تكوين "فرقة بورسعيد للآلات الشعبية" عام 1986 ، وتكونت الفرقة من 24 عضوا مابين راقص ومغن وعازف لآلة السمسمية وآلات الإبقاع التي تنوعت بين الطبلة والرق والملاعق وأضيفت آلات إيقاع غربية مثل التمباني، وأصبح للفرقة زي موحد، ولم يقتصر برنامج الفرقة علي أداء نوع فني واحد بل اشتمل علي أغان من وحي البيئة البورسعيدية مثل الصيادين والبمبوطية وألعاب حارتنا وبعض أدوار السمسمية والموشحات التي لا يُصاحبها سوي آلات الإيقاع ويقصد بها أدوار الضمة.
وعلي الجانب الشعبي برزت علي الساحة عدة فرق اهتمت بفنون التراث في بورسعيد ،وحرصت علي تقديمه في شكله التقليدي، ومن هذه الفرق: فرقة (أبو راشد) وهو صحبجي ضمة لكن الفرقة لم تستمر، و(فرقة شباب النصر) بقيادة كامل عيد، و(فرقى شباب البحر) بقيادة عبد الرحمن عرنوس،وتبرز علي الساحة الشعبية (فرقة الطمبورة) بقيادة زكريا إبراهيم.
وجدير بالذكر إلي أن اسم ضمة أصبح يطلق الآن علي كل الاحتفالات التي تُقام في الشارع بصرف النظر عن محتواها الفني وما يمثله.
وتنحو هذه الدراسة التي تحمل عنوان (الضمة البورسعيدية ) التي قام بها الدكتور محمد شبانة إلي تناول ظاهرة الضمة البورسعيدية، بما تحتويه من فنون تتميز تميَّز نوعيًا من الممارسات الفنية في مناطق أخري تشَّكل معها نسيج الشخصية الموسيقية الشعبية المصرية، وبما تحتويه هذه الظاهرة من عناصر تتصل بالغناء المصري في فترة أوائل القرن التاسع عشر، وبالقوالب التي ابتدعت وتطورت وانتشرت في تلك المرحلة الزمنية، حيث نجد في احتفالية الضمة كثيرًا من النصوص ذات الصلة بهذه القوالب- وإن اعتراها بعض التغير تبعًا لما يتفق مع تناول الجماعة الشعبية لتلك النصوص حذفًا وإضافةً،وتبعًا لما تراه متوافقًا مع خبرتها ومزاجها- وذلك بالإضافة إلي مصادر فنية أخري تشكلت منها أغاني احتفالية الضمة، وكذلك معرفة التغيرات التي طرأت علي هذه الاحتفالية تبعًا للظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي مرت بها مدينة بورسعيد، ومدي تأثير الحروب والانفتاح الاقتصادي، وكذلك الركود الاقتصادي في هذه الظاهرة الفنية سلبًا وإيجابًا، وما الدور الذي لعبته المؤسسات الرسمية والأفراد لإحياء الظاهرة وعدم اندثارها، وذلك من خلال الجمع الميداني لأغاني الظاهرة، وتدوين بعض نماذجها وتحليلها موسيقيًا للوصول إلي خصائصها الفنية وطرائق أدائها، كما تسعي الدراسة إلي التعرف علي الآلات الموسيقية المصاحبة للظاهرة، سواء في وضعها الراهن أو في شكلها القديم، وما لحق بهذه الآلات من متغيرات في الشكل أو في الناتج النغمي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي