الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكشف التاريخي والإيهام الجمالي في صورة جانبية للخريف

سالم بخشي المندلاوي

2022 / 5 / 17
الادب والفن


إن رواية (صورة جانبية للخريف) الصادرة عن دار الجواهري للطباعة والنشر في بغداد, لكاتبها حسين محمد شريف, تنطلق من حقبتين تاريخيتين متعاقبتين, وهي تؤرخ لوضع تأسس فيه بلد جديد بعيد الحرب العالمية الأولى, وهذه الثيمة التي نصل إليها بعد إتمام القراءة الكاملة لها, فضلًا عن تتابع التحولات السياسية التي حدثت بعدها؛ إذ يتضح شكل التحول السياسي, بانقلاب العسكر, وصعود القوى اليمينية, وكأنها إشارة إلى ما بعد عام 1963 مرورًا بنهاية القرن العشيرين والدخول في عهد جديد كان ينتظره البطل متمثلًا بعام 2001 لحظة التحول الدولي بعد أحداث 11 أيلول.
يتضح ذلك من عدة عتبات نصية, أسهمت بإيصال شفرتها للقارئ عبر النقاط التالية:
1- تبدأ الرواية بالإهداء إلى أعوام بعينها, وهي ابتداء من عام 1900 في إشارة إلى بداية قرن جديد يفضي إلى متغيرات, ثم الذهاب إلى عام 1914 عام بداية الحرب العالمية الأولى التي أنتجت وضعًا عالميًا جديدًا, مختلفًا عما سبقه, ثم عام 1923, عام تأسيس الدولة العراقية بشكلها الملكي, ثم عام 1958, عام التحول السياسي الأول إلى العهد الجمهوري, ليعد بداية للخراب الذي سيلي مباشرة, فيأتي عام 1963, العام الدامي في العراق, سياسيًا, وشعبيًا. ليليه عام 1968 الأسوأ قاطبة في تاريخ العراق, ثم عام 1980, وهي اللحظة التي ستسهم في تقويض كل جهد إنساني بني على امتداد سبعة عقود, ومن الإشارة التي تضع نفسها كنبوءة في مفتتح الرواية حين يقول الراوي: ((وعلى مسافةٍ غير بعيدة من كلّ ذلك, يقف الآن متأملًا المستقبل, بعد تسعة عشر عامًا بانتظار ما سيحدث)), إذ نستشعر بأنه يشير إلى عام 1999 كنهاية مقبلة تشي بالكثير من المتغيرات.
2- تبدأ الرواية في مقهى جبوري, ويتضح من الأجواء, إنها الثلث الأول من ستينيات القرن العشيرين, بحسب ما يمكن رصد التواريخ بهذا الخصوص مع غاوي عبد الحميد السهل, سليل آل السهل, المعروفين في خان وردة, الحي الذي تدور فيه أحداث الرواية, ثم يلجأ الراوي إلى تقنية الفلاش باك, التي ستعتمد الرواية عليها بالكامل, طيلة وجودنا معها؛ لأنها ستكون المدخل, لبناء الشخصيات, وتبرير وجودها وطبيعة حركتها.
3- وصفي ابن غاوي, معلم التاريخ, هو من يكتب تاريخ خان وردة, بطريقة جديدة تختلف عن كل ما ورد حولها؛ حيث بالبحث والتقصي, يكتشف بأن خان وردة الأصل, ليست في المكان المعروف اليوم, بل في مكان آخر, إذ تتدخل عوامل أسطورية في نشأتها.
4- آق باشي, الشخصية المحورية, وهي ترمز إلى العثمانيين بكل نزواتهم, وقسوتهم, وأسلوب حياتهم القائم على العنف, يقابله عميحاي الذي بدوره يرمز إلى القوى الدولية الأوربية حينها, وكيفية الصراع بينهما؛ بغية الإطاحة ببعضهما, إذ ينجح في النهاية, مسعى عميحاي في تهديم أركان بيت آق باشي العثماني, وتقسيم ممتلكاته, فضلًا عن خان وردة نفسها, وهي إشارة إلى سايكس– بيكو, بشكل صريح.
5- الأطراف التي تدخل في صناعة التاريخ متنوعة, ما بين التتر, والمغول, والشركس, والتركمان, والكُرد, والعرب, واليونانيين, والهنود, فضلًا عن الطوائف من سنة, وشيعة, ومسيح, ويهود مع رهط كبير من الأشقياء, والسوقة, بدءًا من محمود السايس, مرورًا بهوبي ابن عزيزة الملاية, وليس انتهاء بفلوحي الأحول, صاحب الأخبار من خان وردة إلى منطقة المساحات, مأوى المتمردين على السراي, وهي مساحات تقع خارج خان وردة, ولا تنتهي بأفقها الشرقي.
6- كما أن حركة العنصر النسوي فيها مؤثرة, مثل شخصية ميرجان الشركسية, التي تتعلم لغة الأغراب, مع أخيها شيرو, حين استقدمها آق باشي من موطنهما, لقاء عشيرين رطلًا من الطحين الأسمر, ثم شخصية كملية, المرأة البغدادية العفيفة, صاحبة الأخلاق الحميدة, ثم ابنة ميرجان فتحية, تلك الشابة الجميلة التي أحبها غاوي بعنف.
7- وثمة عبث رجالي ساخر, يتمثل بشخص صبحي المقرباز, الذي يوقع بالغلمان, وكذلك فريد الدين الترزي, الشاب الوسيم, صاحب التأتأة, كحبسة كلامية طفولية, لكنها لم تمنع نساء خان وردة, المكوث أسفل مقصه الكبير.
إجمالًا تتداخل الشخصيات مع بعضها, بطريقة يصعب فكاكها؛ فلكل شخصية منها مفتاحية تحيل إلى آخر, كما مع محمود السايس, الذي يحيل إلى هوبي ابن عزيزة, أو شخصية روبين الحلاق, الذي يحيل إلى شخصية عميحاي, وهكذا أما أن تكون الإحالة مباشرة أو غير مباشرة.
اعتمد الروائي في الحوار, اللهجة البغدادية الدارجة, وكان موفقًا إلى حد كبير في ذلك؛ باعتبار أن الحوار بالعربية الفصحى لا يتلاءم مع وعي بعض الشخصيات, ولكنه وضع حوارين فقط في بداية الرواية, على لسان طبيب العيون سايمون ايشو, وهو مبرر كونه من طبقة المتعلمين, ويتناغم مع اللغة الفصحى.
أكثر الأشياء دهشة, هي إيقاف الإيهام التخيّلي للمتلقي, إن جاز التعبير, من خلال تذييل, وضعه الروائي, كخاتمة في نهاية الرواية, أدى إلى نسف كل الجهد المبذول في العمل الأدبي؛ إذ يتبين لنا, بأن الرواية في الأصل, مجرد مخطوطة, وجدها الروائي قرب نفايات معدة للحرق, ليأخذها ويعيد تنضيدها, بعد أن دوّن هوامش لها أسفل الورقات, أينما احتاجت الهامش, مع مراعاة الحفاظ على حواشٍ, وضعها قبله السيد عبد الهادي الحرز, لأن الكاتب الأصلي للرواية هو وصفي ابن غاوي عبد الحميد السهل.
إن رواية (صورة جانبية للخريف)، يمكن وصفها تقنيًا، برواية ما بعد السردية حيث تخرج عن ترسيمة السرد الروتيني لتولج ما بعده عبر اللجوء إلى الوثيقة التاريخية تارة, والتدوين لوقائع حدثت بالفعل لكن غيّر منها الروائي تارة أخرى، فضلًا عن فلسفة تحطيم الزمان بطريقة واعية قصدية حين نرى انقطاعات تحدث للشخصية الواحدة، لتعاود الظهور بعد وقت قد يطول إلى مئة عام.
إجمالًا تأتي رواية (صورة جانبية للخريف) في الوقت المناسب, ربما لفهم المشكلة العراقية بعد قرن من تشكيل الدولة الحديثة, لا سيما أن الإهداء فيها يكون للسنوات من 1900حتى 1980. مرحلة الانعتاق من نير الاستعمار والتشكل غير السوي للدولة العراقية التي انهارت ما بعد 2003, والتشكل غير السوي للمرة الثانية, التي قد تؤدي إلى انهيارها من جديد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال