الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العيد الوطني والبيرة الهولندية ونهاية الجائحة!

طارق حربي

2022 / 5 / 19
الادب والفن


كورونا وأخواتها
27
ما كنتُ أحسَبُ أن يحضرَ هذا العدد الغفير من السكّان، للاحتفال بالعيد الوطني النرويجي هذا اليوم، وبدا لي أن إحصاء السكّان في هذه البلدة البالغ (64943) نسمة لعام 2021 تضاعف عشرات المرات! حتى خلتُ نفسي أنني مقيم في العاصمة! لا في بلدة صغيرة تبعد عنها 120 كم جنوباً!
تحمَّمْتُ في الصباح الباكر وحلقتُ لحيتي وارتديتُ بدلة المناسبات وطليتُ حذائي فخطرتْ في بالي ساحة العرضات عندما كنتُ جندياً في الجيش العراقي! وبعد ذلك أخرجتُ العلم النرويجي الصغير المركون في خِزانة الثياب منذ العام الماضي، قبلما أنطلق إلى الحديقة العامة القريبة من ساحل البحر ومجلس البلدية حيث تجمع عشرات الألوف من مختلف الأجيال والمدارس والجامعات ورياض الأطفال والعمال والموظفين وصيادي الأسماك والفرق الرياضية بينها فريق لعبة الجودو والمحاربين القدماء، ومن شارك من دور العجزة والاحتياجات الخاصة والعاطلين عن العمل الذين يتقاضون مرتباتهم الشهرية من مؤسسة الضمان الاجتماعي. كان المحتفلون يرفلون بأبهى الحلل والثياب ويقفون بالطوابير قبالة مبنى بلدية المدينة حيث وضعت منصة الخطابة ووقف عليها ساسة المدينة لتحية الجماهير. عشرات الألوف يشاركون في احتفال هذا العام من دون كمّامات ولا يتقيدون بتعاليم التباعد الاجتماعي، ما يعني أن الجائحة كانت حدثاً وقع في الماضي وعادتِ الحياة إلى مجراها الطبيعي!
أُلقيتْ خطبٌ - ليست رنّانة كما هي خُطب المسؤولين في العالمين العربي والثالث في انتظار تصفيق الجماهير - حيَّتِ المناسبة العظيمة، وبعد ذلك عُزفتْ موسيقى المدارس وغنتْ فتاة خجولة شاهدتُ احمرار وجنتيها وكنت أقف على مبعدة عشرة أمتار عن المنصة، ثم رقصتْ فرقة تابعة لإحدى مدارس البنات تزيَّتْ ببناطيل قصيرة إلى ما فوق الركبتين وقمصان صيفية وردية اللون بنصف كُم، وبعد حوالي نصف ساعة سارتِ الجموع المهيبة في شوارع المدينة وقدمت فعاليات موسيقية وراقصة، وما لبثتْ أن أشرقتِ الشمسُ مُحيّيَةً النرويج وشعبها وأجانبها وسُيّاحها وطبيعتها الخلابة، فقد زفَّتِ دائرة الأنواء الجوية قبل أيام بشرى أن الطقس سيكون معتدلاً ومشمساً في يوم العيد، ربما تصل درجة الحرارة فيه إلى خمسٍ وعشرين. كانت النسمات الباردة في الصباح تنعش القلب وهي تهبُّ من جهة البحر والنافورة، وبعد حوالي ساعتين تكبدتِ الشمسُ السماءَ الخاليةَ من الغيوم، وارتفعتْ درجة الحرارة حتى سرى الدفء في جسدي، وشيء من التعب جرّاء الوقوف والتلويح بالعَلمِ مرة، والتصوير بالهاتف تارة، تلك الجموع التي لا تتوقف عن الهتاف بحق بلاد السلام والأمن والاستقرار والغنى والعدل. هُرع الناس من كل مكان في المدينة الهادئة وجِنان ضواحيها للمشاركة في الاحتفال الصاخب، لكن هنالك من فضَّلَ التلويح بالأعلام من نوافذ سكناهم في المباني العالية! ولا عجب من ارتدائهم أجمل الثياب وحالهم في ذلك مثل حال الجموع الغفيرة، فالقوم يحبون بلادهم كثيراً ولا يفوّتون فرص المشاركة في مناسباتها الوطنية!
توقف قرع الطبول قُبيل الظهر وكم كنتُ مخطئاً عندما خَمَّنتُ نهاية الاحتفال وعودة المحتفلين إلى مساكنهم؟! لكن في تمام الساعة الرابعة عصراً تناهى إلى سمعي قرع الطبول مرة ثانية ففتحتُ النافذة المشمسة، وإذا بالجوقات تترى في الشارع الواحدة تلو الأخرى في نظام دقيق ومسير منتظم في الشارع الطويل، بدءاً من مبنى البلدية مروراً بمخفر الشرطة فمحطة تعبئة البنزين والمجمع الطبي وكاليري الفن ومتجر بيع الزهور والكنيسة، ومتجر بيع لوازم القطط والكلاب الواقع قبالة سكني، لتدلف المسيرة إلى جهة اليمين في اتجاه مركز المدينة المزدحم بالمحتفلين. فتحتُ علبة بيرة هولندية من الرزمة الكبيرة التي ابتعتها قبل يومين من الباخرة لهذه المناسبة، أو احتفاءً بزيارة صديق أو صديقة، وجهزتُ الهاتف المحمول للتصوير، لكني احترتُ بين أمرين
- هل أستمتع بمشاهدة الحشود المارَّة تحت نافذتي، حيث حسن التنظيم وروعة الملبوس ورفرفة الأعلام في أجواء من المرح والصخب، وما علا الوجوه المبتشرة من إمارات الفرح والسرور؟
- أم أني أنشغل في تصوير المشاهد الأكثر جمالاً وإثارة وأرسلها إلى أصدقائي في العراق والعالم؟ فقد تعودتُ على أن أطلعهم على كل جديد في هذا البلد الذي يتطور بسرعة في كل المجالات، حتى أصبح مثالاً عظيماً للشعوب والأمم.
تمرُّ الجوقات تحت نافذتي تُحيّيها على الرصيفين المتقابلين جموع المشاهدين الأنيقين بالأعلام، ثمة فرق موسيقية تحملها سيارات مكشوفة مزيَّنة بباقات الورد والأعلام، بيانو وكمانات وطبول تُقرع بلا هوادة فيرقص من الجمهور من يتأثر بإيقاعها. فرقة أخرى يرتدي أعضاؤها بدلات زرقاء اللون ويحملون آلات نفخ نحاسية كبيرة، من باص توبا وساكسفونات وكلارنيتات وباس كلارنيت وترومبون والكورنو وأبواق صغيرة، وثمة في مقدمة الجوقة رجال ونساء يحملون طبولاً مختلفة الأحجام نظيفة لامعة في حديدها كما لو كانت جديدة أخرجتْ للتو من صناديقها. أكثر ما أبهجني مشهد تلاميذ المدارس الصغار وهم يتقدمون الصفوف مرتدين البدلات الرسميّة، وثياب النساء الخاصة بالمناسبات (البونادات) ألبستْ للطفلات معقوصات الشعر بشرائط ملونة، من حاملات باقات الورد الملوِّحات بالأعلام!
بقدر ما أنا سعيد بالاحتفال سعيد كذلك بنهاية الجائحة في مملكة السلام، وما يليها من حرية الحركة والتنقل والنشاط والعمل والحب والسفر.
سعدتُ بأن احتفال هذا العام كان بلا قيود تجعل السكّان يلزمون مساكنهم كما في العام الماضي، وكان الطقس ممطراً يومذاك والمحتفلون قليلين يُعدُّونَ على رؤوس الأصابع في مركز المدينة، وأنا أجلس مع الدكتور تور في المقهى أتحاور معه عن الفلسفة الأغريقية! وما كان لأفلاطون من تأثير حتى القرون الوسطى على الأقل على الديانات التوحيدية!
الأهم من كل شيء أن السكّان تنفسوا الصعداء بعد التحرر من الكمّامات وتكشفتِ وجوه الحِسان وشفاههنَّ الوردية، ودبَّتْ حركة الحياة من جديد ولن يوقفها شيء فكل ما يعرفه الجميع عنها أنها مستمرة.
17 مايو 2022
www.tarikharbi.com








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل