الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-المثقف المعاصر-.. الشاهد والشهيد

وليد المشيرعي

2022 / 5 / 19
الادب والفن


(وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل)
"أبو العلاء المعري"

شكراً أبا العلاء المعرّي لبلاغتك وإبداعك في مدح نفسك وإجلاء قدراتك التي لم يختلف عليها اثنان لكنها لم تنجح في دمجك مع زمانك ومحيطك السياسي والاجتماعي الفاسد (أواخر الدولة العباسية) فآثرت النكوص ضريراً جريح الفؤاد إلى محبسك الجغرافي (معرة النعمان) وصرت رهين المحبسين فعلاً لا قولاً.
زمن أبو العلاء غير زماننا ورغم ذلك تتشابه المعاناة لدى كل المبتلين بحرفة الكتابة وصنعة الأدب والإبداع تماماً مثلما عمهم أبو العلاء.
عصور الانحطاط تنجب مثل هذه المعاناة وما أشبه الليلة بالبارحة، أما عصور الازدهار فهي التي يدين لها البشر بكل جميل ورائع في ذاكرتهم الجمعية وفي كل شئون حياتهم المادية والروحية والاجتماعية والثقافية.
من هذا التلميح البسيط ما هو تقييمك لعصرنا الحالي وهل يمكن اعتبار التطور العلمي والصناعي الهائل الحاصل فيه ازدهاراً؟
الإجابة البسيطة هي (لا).. أما الأكثر تعقيداً فهي نعم ! بعيداً عن التعقيد الناشئ عن نفاق السلطة وظروف المكان والمعيشة ستصرخ كل ذراتنا أنَّ (لا) هي الإجابة الطبيعية والمنطقية على السؤال..
ببساطة لقد انتعشت الاختراعات والاكتشافات ووسائل الترفيه لكن قدراتنا على الاستمتاع بكل هذه البهرجة انخفضت إلى حدها الأدنى حتى تحولت مظاهر التمدن إلى مجرد قيود ذهبية لها بريقها وثمنها لكن لها أيضاً ثقلها المكبل لحرية الانسان وطموحه في تحقيق ذاته أو مجرد العثور على نفسه.
نعم وسط هذا الحشد من المطالب صارت الرفاهية احتياجاً وفقدت معناها الذي كان فأنت حين تمتطي سيارتك المريحة لا تلمس فيها زهو الفارس بمهرته بل ترمي على كرسيها ظهرك الذي قصمته أقساط ثمنها المبالغ فيه.
وحينما تدلف إلى شقتك لا تجد الأمان الذي كنت تنشده بل ينتابك القلق حول الإيجار الذي يبلغ ضعف راتبك.
وحتى لو كنت غنياً وامتلكت الرفاه ستبقى أسير كوابيس الفقر وتغيّر الحال في عالم لا أمان فيه من غوائل الأزمات الاقتصادية المتتالية والتضخم النقدي المتسارع الذي ابتلع كل شيء حتى أخلاق البشر وآدميتهم.
نعم لم يعد هذا زمان الطمأنينة الباعثة على الابداع والتمتع به ولكي تحقق سعادتك لا جدوى أن تبدع بقدر ما أنت مطالب بلفت الأنظار وشد الانتباه وإضفاء المزيد من مظاهر السقوط على المشهد الساقط أصلاً من تاريخ حضارة الإنسان.
من يكسب ومن يخسر في هذا المشهد الذي يذكرنا باللوحة الشهيرة (البائع نقداً- البائع ديناً) التي كثيراً ماكان يعلقها أصحاب الدكاكين والحلاقين في ما مضى؟!
البائع نقداً أي الرابح صار كل تافه أو غير ذي معنى يحصد آلاف اللايكات هكذا وبلا مناسبة وبلا سبب مبرر لشهرته على وسائل الاتصال الاجتماعي..
أما البائع ديناً أي الخاسر فهو كل من يتوخى القيمة في المحتوى الذي يقدمه وكل من يحاول خدمة الآخرين وإيصال رسالة راقية إلى عقولهم تساهم في تنويرها وتنمية الروح الإيجابية لديهم لا تخديرهم وسرقة وقتهم وإغراقهم في عواصف الردود والتعليقات ومقاطع الفيديو المليئة بالإسفاف والعنف وقلة الأدب والذوق الهابط.
الحضارة تبنيها المجتمعات وليس الحكومات هذا قانون إنساني منذ الأزل وعندما يعجز المجتمع عن إعلاء المبدعين والمثقفين وأهل الرأي والمشورة وتمكينهم من حقهم وفرصتهم في التميز وحثهم على العطاء فإنه من المستحيل أن يبني حضارة مهما فعلت "الحكومة" التي تتولى إدارة هذا المجتمع..
فما بالك وإجراءات الحكومات في زماننا هذا تسعى نحو هدم كل شيء يميز ثقافتنا وحضارتنا في مجاملة ومحاباة مفضوحة للقوى الليبرالية العالمية التي أعلنت بوضوح أن هدفها النهائي هو دمج الشعوب في عالم "القرية الكونية" بتدمير الهويات القومية والدينية والوطنية أولاً ثم بإلغاء كل ضوابط السلوك الإنساني وفتح الباب بإسم الحرية أمام غثاء "الخوارزميات" الذي يجثم على عقولنا وصدورنا حتى بتنا غير قادرين على مجرد التقاط الأنفاس والالتفات إلى مشاكلنا الحقيقية لتظل بلا حسم ولا حلول سيوفاً مصلتة على رقابنا.
ربما تكون هذه خاتمة الحضارة الانسانية أن تموت سحقاً تحت رحى "النظام العالمي الجديد" ليتسيد المشهد رجال البنوك وأباطرة الرأسمالية الدولية وهو ما يحدث الآن فعلاً على مستوى العالم، وها هي الحرب الروسية الأوكرانية ترسم تفاصيل المشهد الأخير من هذا الصراع الذي بات شبه محسوم للنموذج الليبرالي الرأسمالي الغربي والنظام الدولي الجديد فلا أقطاب ولا قطبية ومن يملك المصارف وشبكة النت سيبتلع العالم ويفعل بالبشرية ما يشاء.
لن أتوغل في نقاش عقيم عن نظرية المؤامرة، فقد ثبت أنها واقع معاش على جميع الأصعدة ومن ينكرها فبلسانه فقط خدمة لمصلحة وقتية أو خوفاً من الاتهام بالتخلف والتطرف والإرهاب!
فقط يهمني أن أذكر بأن نسبة البشر المفكرين وذوي العقول المتحررة ثابتة في كل جيل وعلى مدى ألاف السنين مرت المجتمعات بفترات نهوض برز فيها دور النخبة المثقفة والمستنيرة وكانت لهم الكلمة الأولى والأخيرة في صناعة أوجه الحياة وتسيير دفة التقدم العلمي والثقافي، أما فترات الانكسار والهزيمة والانحطاط فقد صعد فيها كل تافه لا قيمة له مستنداً إلى نفوذ المال أو القوة المادية (وهو ما يحدث الآن على السوشيال ميديا التي يتم التلاعب بخوارزمياتها لمصلحة الابتذال ولا شيء غير الابتذال والتسطيح وتزوير الوعي)..
بين النهوض والانكسار يتباين دور المثقف والمبدع فبينما هو فاعل في الأولى وقائد فإنه في الأخيرة ضحية وشهيد وشاهد على عصره وما جرى فيه من فصول الانحطاط..
وكما سجل أبو العلاء المعري شهادته على عصره المنحط والمنكسر فليس أمام المثقف المعاصر إلا أن يدون شهادته على عصرنا هذا بكل حذافيرها في أي هيئة يشاء شعراً أو نثراً أو سرداً أو موسيقى وفنون فذلك أقل الاعتذار عن فشله في إصلاح محيطه وتحقيق رسالته التي خلق من أجلها.
التاريخ لا ينسى ولا يمحى ومهما نجحت مفاعلات النظام العالمي في مسعاها لجرف تيار الفكر والوعي الانساني بتيار التفاهة والانحلال المادي الحيواني سيبقى هناك شهود وشهادات خالدة ستروي لا محالة بذور الوعي القادمة لإنسانية جديدة وحضارة راقية الروح.. فكونوا شهوداً صادقين حتى لا يمحوكم التاريخ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس